صفحات المستقبلمالك ونوس

الدواعش يأكلون أمّهم/ مالك ونوس

 

 

غالباً ما يُعوِّدنا التاريخ أن يعيد نفسه، وغالباً ما نقف مستسلمين، ونحن نتفرّج على قصصه التي يقصّها علينا، وعلى ضرباته التي يعود فيسقطها على رؤوسنا، ونحن عاجزون، كما كنّا سابقاً، عن ردّها، إنْ لم نكن نعمل من دون إدراك منّا على تسريع نزولها. ذلك هو حال الأنظمة التي تصنع منظماتٍ جهاديةً، تظنها ألاعيب بيدها ستظل، وتعتقد أن خيط التحكّم فيها سيبقى مملوكاً لها وحدها، تشدّه أو ترخيه متى تشاء، من دون حول لهذه المنظمات، أو قوة، على صانعيها. لكن، غالباً ما يغيب عن أذهان الأنظمة أن هذه المنظمات التي تصنعها يمكن أن تنقلب عليها يوماً، لتأكلها كما تأكل العناكب الصغيرة أمها، حين بلوغها.

يذكّرنا تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، “داعش”، والذي تنسب وسائل إعلام

كثيرة تأسيسه لأجهزة الاستخبارات في سورية والعراق، لمواجهة الجيش الحر في سورية، ومعارضي نوري المالكي في العراق، بقيام دول كثيرة بتأسيس تنظيمات كهذه، لمواجهة دول أخرى، أو حتى مواجهة خصومها السياسيين، أو العسكريين، داخلياً. وكان الأشهر من بين تلك التنظيمات “القاعدة”، التي أسستها الولايات المتحدة، بمساعدة المملكة العربية السعودية ودول عربية وإسلامية أخرى، في ثمانينيات القرن الماضي، لمواجهة النظام الحاكم في أفغانستان حينها، والذي كان معروفاً بولائه الإيديولوجي للاتحاد السوفييتي السابق. لن نضيف شيئاً بالتذكير بانقلاب تنظيم القاعدة ضد مؤسسيه ومموّليه السابقين، واستهدافه بعض مراكزهم وسفاراتهم في العالم، بغضّ النظر عمّا جرى تداوله من خدمة هذه الهجمات سياسة الولايات المتحدة التي اتخذتها ذريعة للاستحصال على التفويض باستباحة العالم، بحجة مكافحة الإرهاب.

ويذكّرنا، أيضاً، بما قام به الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، في سبعينيات القرن الماضي، أيضاً، بعد زيارته القدس المحتلة، وتوقيعه معاهدات كامب ديفيد مع إسرائيل، بتأسيسه حزباً إسلامياً هدف منه إضعاف الأحزاب الاشتراكية والماركسية والناصرية ومحاربتها. هذه الأحزاب التي كانت في واجهة المعارضة للمعاهدة المذكورة، ولسياسة التجويع والانفتاح على الغرب التي انتهجها السادات، وأضرّت بفقراء الشعب المصري، بل

“غالباً ما يغيب عن أذهان الأنظمة أن المنظمات التي تصنعها يمكن أن تنقلب عليها يوماً، لتأكلها كما تأكل العناكب الصغيرة أمها، حين بلوغها”

وزادت من معدل الفقر ونسبة الفقراء بين أبناء هذا الشعب. واستفاض السادات برعاية هذا الحزب، وتمويله، وفتح المساجد أمام خطبائه، وأعطاه قسطاً وافراً في الإعلام وحرية النشاط في صفوف الجيش والطلاب، لسحب البساط من تحت أقدام الأحزاب المعارضة، واستهداف قيادييها ومفكريها بالترهيب وبالقتل على أيدي أتباع هذا الحزب، ليضاف ذلك إلى فائض القمع الذي كانت تمارسه أجهزة استخباراته، لكي تخلو له الساحة، ولمواليه، للعبث بحياة الشعب المصري، ومستقبل أبنائه، من دون معارضة تذكر. غير أن رعاية السادات لهذا التنظيم جلبت له ما لم يكن يحسبه، الاغتيال على أيدي أعضاء من هذا التنظيم.

الآن، وقد أعلن أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش، قيام الخلافة الإسلامية في العراق، ونصّب نفسه خليفةً للمسلمين، وأسبغ على نفسه صفات الرسل، وأملك يديه سلطات الآلهة. في هذه اللحظات، يتساءل المرء عن نظرة البغدادي لمَن أوجدوه، وأطلقوا يديه في البلدين، سورية والعراق، يفعل ما يشاء؟ لكنّ مَن أوجده لا يدري أن الرجال لا تبقى توابع، إنْ ملكت القدرة على الانعتاق من القمقم الذي وضعت فيه، بل تتوق لممارسة لعبها خارج الخط الذي حُدّد لها. كما يبدو أنه تناسى أن لهم أحلامهم الخاصة، وخططهم التي لا تزاح من رؤوسهم، حتى وهم ينفذّون ما يؤمرون به. وإن كان إعلان الخلافة مجرد تكتيك، أو حتى كذبة، فسرعان ما يصدّق الكذاب كذبته، ويستسيغها، بعدما أصبحت واقعاً وكياناً، فتضيق به البلاد التي اتخذها أرضاً لخلافته، فيدعو بلداناً أخرى للبيعة، لكي تنعتق من الضلال. ومَن أحقّ من الشام وبغداد بنيل هذا الشرف، قبل غيرهما؟

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى