صفحات الثقافة

روائي الروائيين


عباس بيضون

في العام قبل الماضي نال ماريو بارغاس يوسا جائزة نوبل، لم يكن يوسا مغموراً عندها ولم تضف الجائزة كثيراً إليه، غير أن قراءة يوسا تنبئ كل مرة بقدرة جديدة وابتكار جديد، إذ أن هذا الروائي لا يتوقف عن أن يدهشنا. الموهبة الأكيدة حاضرة، لكنها ليست وحدها، هناك إلى جانبها مقدرة جبارة على التجديد والابتكار، مقدرة هائلة على اللعب والمجازفة والاختراع. كل رواية ليوسا درس في الرواية، كل رواية هي مثل حقيقي، كل رواية تفتح أفقاً للرواية، وكل رواية هي تجريب جديد. ليس يوسا طرفاً في الواقعية السحرية التي طبعت الرواية اللاتينية. يوسا كما يقال فيه واقعي بالمقارنة مع الواقعية السحرية لكن خيال يوسا «الواقعي» لا يقل خصوبة وغنى عن الواقعية السحرية، فيوسا يحول الواقع إلى واقع روائي. وفي مثل هذا الواقع أعماق عدة. في هذه الأعماق نرى كل سحر أميركا اللاتينية، كل طبقاتها التاريخية، كل دياناتها القديمة، كل أساطيرها وخرافاتها، وأهم من ذلك كل روحها. لا يحتاج يوسا إلى أن يسحر الواقع. إنه يجد السحر فيه، يجد هذه الطبقة الكثيفة من البواطن واللاوعي والنماذج القبلية والتاريخ. والحق أن قراءة يوسا ليست فقط درساً في الرواية، انها أكثر من أي عمل آخر. نشيد روحي وباطني بقدر ما هو تاريخي وبقدر ما هو واقعي لأميركا اللاتينية. ينبغي ان نقرأ يوسا لنعرف ما هي أميركا اللاتينية، لا أظن أن كتاباً في التاريخ أو كتاباً في الأساطير أو كتاباً في الديانات أو كتاباً في الجغرافيا أو كتاباً في السياسة يمكن أن يقدم لنا ما تقدمه كتب يوسا عن أميركا اللاتينية. لا نشك في أن هذه الروايات هي تاريخ أميركا اللاتينية الحقيقي، ويمكننا إذا قارنا مثلاً بين كونديرا الذي يرينا الشمال الاوروبي ويوسا الذي يرينا أميركا اللاتينية، أن نحسّ أننا في عالمين متفارقين مختلفين إلى حد هائل. ففي حين ترى عند كونديرا تدهور العقلانية الأوروبية نرى عند يوسا انفجار الخيال والسحر الأميركيين. بيد أن يوسا مجرّب خطير في الفن الروائي، مجرب خطير على مستوى الأنواع الروائية وعلى مستوى التقنيات الروائية. فكل رواية من روايات يوسا هي فتح في هذا المجال بل لا نجد رواية له ليس فيها جديد على هذا الصعيد. هناك وربما في وقت واحد: الواقعية الوحشية لكن هناك أيضاً الرواية داخل الرواية وتقنيات جديدة في تيار الوعي، كما ان هناك وفي الوقت نفسه الرواية الثقافية والتيار الفلسفي، فيوسا مثقف كبير وهو يمارس الرواية الثقافية بالقدرة ذاتها التي يمارس فيها الرواية الواقعية، إذا قرأنا مثلاً «حرب نهاية العالم» ليوسا او ليتوما في جيال الانديز او امتداح الخالة او.. او.. فنحن سنرى ان سبعمئة صفحة في «حرب نهاية العالم» تندمج كلها في ملحمة روائية تظل تتقدم وتتفرع وتلتف في محور واحد، كما نجد في ليتوما في جبال الانديز روايتين متقابلتين مندمجتين في رواية واحدة. كما نجد في امتداح الخالة ودفاتر دون ريغوبرتو و«امتداح الخالة» الرواية الفكرية او الثقافية. يوسا روائي كبير لكننا ندعو الروائيين خصوصاً، إلى قراءته فهو روائي الروائيين.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى