سلام الكواكبيصفحات الثقافة

طلب الحياة في زمن الموت/ سلام الكواكبي

 

 

 

وضع شباب ٌسوريون على وسائل التواصل الاجتماعي صورةً تجمعهم أمام مشهدٍ بحريٍ جميل، في بلدٍ من هذا الكون الذي أضحى موطئ لجوء لملايينهم. مناسبة اجتماعية، ندوة، لقاء، لا يهم. المهم أنهم اجتمعوا، والتقطوا اللحظة بابتسامةٍ متثاقلة ليعبّروا، على الرغم من الهمّ، عن استمرار الرغبة بالحياة. حدثٌ عادي بل وأكثر، لكنه استدعى تعليقاتٍ هجوميةً من أصحاب الاهتمامات النميمية. فاعتُبرت وقفتهم كأنها استهزاء بما يحصل من موتٍ ودمار في بلدهم السليب “فأنتم تبتسمون أمام البحر، وغيركم يموت تحت القصف”.

مئات الحالات، أو آلافها، تغصّ بها الشبكة الافتراضية، ويخال لبعضهم أنها ليست ذات أهمية، ولا هي مؤشّر معين في التوقف عندها أو محاولة ترجمة وتفكيك حمولتها. لكن التكرار في الردح يُجبر المهتم على الوقوف أمام ردود الفعل هذه، ومحاولة استقصاء مدى تأثيرها في الذائقة العامة، وكيف أنها أضحت سيفاً مُسلّطاً على رؤوس الأبرياء، ولو افتراضياً.

دفعت المقتلة السورية من لديه الحد الأدنى من الإحساس ومن الأخلاق ومن المبادئ الإنسانية على أن يتألم يومياً لمجرياتها، إما كضحية مباشرة، أو كمتابع خارجي للتضحيات المباشرة التي تمسّ أهله ومحيطه وذاكرته. وهنا، تنتفي أهزوجة بعضهم النشاز التي تحرم من هم خارجها من أن يشعروا بها، وتحمّلهم وزر شهود الزور الجالسين بعيداً، والنائحين على ثرى الذكريات. إنها صكوك اتهامٍ لا سند لها ألبتة، خصوصاً عندما تظهر على سطح مستنقع اللامبالاة الراكد صورٌ ومقاطعٌ لمن يحتفلون ويرقصون في الداخل، كساةً أو عراةً، لموتٍ يمسّ القريب منهم مكانياً ووطنياً. فموّال “الخارج” و”الداخل” قد استهلك منذ بدأت بعض الأبواق استخدامه للتمييز بين المكونات السياسية لبعض المجموعات المعارضة، وهو أصبح أكثر استهلاكاً واهتراءً، عندما يتوجّه نحو الأفراد، ليقيس بمقاييس “البعث” البائد مدى ارتفاع أو انخفاض “سقف الوطنية” أو الانتماء.

يفرض التساؤل نفسه أمام التعابير غير السياسية وغير الثورية المباشرة التي تصدر عن أناس

“التوجّه إلى الذات، جلداً أو تحفيزاً أو توعيةً، أضحى منتهي الصلاحية” عاديين، لا يتنطحون للعب أدوار تتجاوز مجالاتهم العملية، فبعيداً عن صورةٍ بريئةٍ تتلقى النقد الذي يصل إلى الشتيمة، تبرز أعمالٌ فنية، يمكن أن تُثير الغضب، في حمأة حملات التخوين والتكفير وتحديد ارتفاعات الأسقف، لدى بعض المتابعين من أصحاب الضغائن الذاتية أو الموضوعية، أو ممن لا يعجبهم العجب، ولا التعبير في رجب.

في ندوة ثقافية “لجوئية”، عقدت قريباً من ساحات التشظي الأوروبية، جرى الحديث عن الإبداع في بلاد اللجوء، ووردت ملاحظاتٌ على ضرورة أن يبتعد العمل الفني عن الرسائل السياسية المباشرة. وقد ظهر لبعضهم، وأنا منهم، أن هناك طهرانية فنية في هذا التوجّه، معتبرين أن الإبداع، في ديدنه، موقف وتعبير، ولوجهي العملة الواحدة هذين أن ينطلقا بحريةٍ كاملةٍ، ويختارا حمولتهما من دون أي قيد أو شرط.

قبل أيام، عُرضت على خشبة المسرح في باريس مسرحية “بينما كنت أنتظر” التي كتب نصها محمد العطار، وأخرجها عمر أبو سعده، وكلاهما من فناني اللجوء السوري. وبعيداً عن الجانب الفني الذي لا باع لي في توصيفاته ولا ادعاء، وبعيداً عن امتداحٍ مستحقٍّ للتمثيل وللإخراج المتقنين، وبعيداً عن وصف مدى التأثّر الإنساني الذي انصبّ في شرايين الألم وأوردة الدمع وأوعية الحسرة، أستطيع القول إن الحمولة السياسية التي اكتنزها هذا العمل كانت من أغنى وأثمر ما يمكن أن يعيه مجتمعَا الداخل والخارج بمختلف تصنيفاتهما. تأريخٌ ذكي وحسّاس لحقبات المقتلة السورية دونما مباشرة ممقوتة، يُزيّنه تحليلٌ بسيط، وليس تبسيطياً، بعيداً عن سفسطائية بعض مثقفي الفترة.

الأهم من هذا وذاك، أن غالبية الحضور، على مدى أيام العرض، كانوا من الفرنسيين. حيث

“الحمولة السياسية التي اكتنزها هذا العمل كانت من أغنى وأثمر ما يمكن أن يعيه مجتمعَا الداخل والخارج” أتاحت الترجمة المكتوبة في عمق المسرح لهذا الجمهور أن يتابع العمل في تفاصيله الأدق. وتنبع أهمية ذلك من أن التوجه إلى الذات، جلداً أو تحفيزاً أو توعيةً، أضحى منتهي الصلاحية، وبأن جُلّ نشاطات السوريين الثقافية والسياسية تدور في حلقة المريدين والمقتنعين. أما التوجّه إلى الآخر بلغةٍ إبداعيةٍ كونيةٍ، فهذا ما تأخر كثيرون منا على أن يتبنوه.

مسرحية “بينما كنت أنتظر” يمكن أن يتهمها بعضٌ ممن نصّبوا أنفسهم قيمين على عدادات الوطنية، بأنها فنٌ وتمثيل، في زمن الموت والدمار. من العبث التوقف عند هاته الأشخاص أو المجموعات، فمن لم يفهم أن المواجهة ليست بالسلاح فقط أو بالبكاء والنحيب والصراخ، لن يفهم للفن قيمةً، ولن يعرف أن كلأً منا يُعبّر عبر ما يكتنزه من موهبة أو مقدرة أو علم. فالكاتب إذاً يجب أن يتوقف عن الكتابة، كما أن الموسيقي يجب أن يتحوّل من مؤلف أناشيد الحياة إلى كوريغراف رقصة الموت، ليحظى برضى من لا يرضون من أصحاب التقييمات القاتلة.

من صورة السوريين أمام البحر إلى مسرحية “بينما كنت أنتظر” التي حضرعرضها الأخير وزير الخارجية الفرنسي جالساً في الصف العاشر، اختلافُ شاسع للوهلة الأولى، لكنه في الواقع تقارب يكاد يكون انصهارياً في قدرة السوريين والسوريات على طلب الحياة في زمن الموت.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى