صفحات الثقافةيارا بدر

“عندما تبكي فرح” للسوري مضر حجي: الكتابة المسرحية عن اللحظة الراهنة… صعبة/ يارا بدر

 

 

بيروت ـ «القدس العربي»: تفاجأ العالم، والسوريون ربما أكثر من غيرهم بأنّ سوريا لم تكن فعلاً كسائر البلدان التي عصف فيها الربيع العربي، بل كان ربيعها الأكثر جذريّة- برغبة السوريين أم برغبة القدر أم حتى برغبة القوى الدوليّة والسلطات السورية- وما ظهر في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2011 سطحاً راكداً بحسب الرئيس «الأسد» اثبت الواقع أنّه لم يكن أكثر من سطح مسقرّ على درجة حرارة مئة، وسينفجر بعد قليل، كما تبدو الصورة البعيدة لدول قمعيّة للحرّيات كثيرة من كوريا الشمالية إلى السعودية وإيران وحتى روسيا.

في عام 2007 وسط العَدَمْ أو الموات السريري الذي كنّا نعيشه طلبةَ في الجامعات، لا شيء قادرٍ على التأثير فينا كما يبدو، ولا أزال أذكر جيداً أنّ اعتزال غابرييل غارسيا ماركيز لم يأخذ من اهتمام طلبة المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق أكثر ما أخذ خبر اغتيال رفيق الحريري، في ذلك الوقت، حلم مجموعة من الشباب خريجي المعهد من قسم الدراسات المسرحية «النقد» بتجربة مغايرة وبصوتٍ نقدّي مختلف لأنفسهم وللعالم، وشكلوا بصمت «ورشة الشارع للكتابة المسرحية»، إذ في عام 2007 كانت سوريا خاضعة وبشكلٍ علني ورسمي لقانون الطوارئ، الذي يحكمها منذ 3 آذار/مارس 1963 الذي يحرّم تشكيل التجمّعات ويقمع مختلف الحرّيات الأخرى في التعبير عن حريّة الرأي والاعتقاد.

أطلقت هذه المبادرة الشبابيّة أحد أبرز الأصوات المسرحية السورية الجديدة على مستوى الكتابة (وائل قدور- مضر الحجي- عبد الله الكفري)، ومؤخراً وقّع مضر الحجي في بيروت نصّه الصادر عن دار «الفاراربي» بعنوان «عندما تبكي فرح»، وكان الحجي قد تشارك مع زميليه في تقدّيم قراءات مسرحية خاصة بالنص في العاصمة الأردنية عمّان منتصف صيف عام 2014 بدعم من «المجلس الثقافي البريطاني» و»صندوق سفر لتجوال الشباب العربي» و»مسرح البلد». أمّا النص ذاته فأنجّز ضمن سياق مشروع الكتابة للخشبة الذي نظمته مؤسسة «مواطنون، فنانون» وبدعم من «المجلس الثقافي البريطاني» وإشراف ماري الياس.

الحاضر الذي يكتب عنه الحجي هو واقعنا المستمر في التشكّل منذ أربع سنوات، انقلب فيها العالم في عيون السوريين الذين يكتشفون معاني الحياة الممكنة كلّها من الثورة إلى الحرب، والكتابة عن لحظة التغيّر دائماً ما تكون صعبة، فكيف بالكتابة عن تغيّر جذّري كالذي يعصف بسوريا والسوريين، وهو تغيّر لم تنته سيرورته بعد، وما زال مُنفعلاً، غير مُكتمل النضوج.

في الواقع هذه هي أبرز ملامح نص الحجي، الذي يكتسب هويته من التصاقه بهذه اللحظة، ومن سحب ملامح الواقع الاستثنائي إلى بُنيّة النص. فالشخصيات ضائعة، تبدو شبه ساكنة، خاصة شخصيتي فرح ووالدها لكنها مضطربة بشدّة في العمق، فرح التي تعيش تمرّدها الخاص على مجموعة القيم البطركية المتوارثة حول السلطة الذكورية، ولكن الأهم أنّها تعيش تمرّدها على المفاهيم المُزيّفة التي تقوّي تلك السلطة، السلطة التي تنتصر لطرف وتسحق الآخر مهما جمّلناها وزيّناها.

وعلى الرغم من كل تعقيد اللحظة التاريخية التي يحاول الحجي تكثيفها في نصّه المسرحي، فإنّ براعة الكتابة تكمن في امتصاصها لهذه التعتقيدات كلّها وتقديم نص سلس. إذ ينقلنا الحجي من مشهد إلى آخر، ومن مكان إلى آخر بعذوبة ومن دون قطعات حادّة، وهنا يبدو تأثير المشروع الذي كُتبَ النص على ضوئه واضحاً «الكتابة للخشبة»، فنشعر ونحن نقرأ النص المسرحي أننا نشاهد العرض، وكل هذه القطعات يُقيمها الحجي بتبديل الإضاءة بين المشاهد، باعتام وإنارة وتبديل للديكور، من دون أن يمس هذا إيقاع النص الذي يبدأ مع الربيع السوري المنتفض على كلّ ماضيه المُتحجّر بقوّة تقارب الجنون، ثم ينغمس في تخبطاته والمُكاشفات التي يفرضها الواقع الجديد، ليصل إلى مرحلة التغيّر الأكثر جذرية، الهادئة، التي تبدأ بالفرد وتنتهي بالمجتمع.

خمس شخصيات. الثائرة. الثائر المُزيّف. الأب المستسلم لما تعوّد عليه دوماً بقبحه وحسناته. ضابط الأمن. وفرح التي تمنع نفسها من البكاء حتى لو شعرت بالحاجة إليه لأنّ حبيبها لا يحب رؤيتها وهي تبكي.

يختار الحجي فعل البكاء عنواناً لنصّه، وهي كما فعل الكتابة عن هذه اللحظة مغامرة بحد ذاته، إذ وفي الوقت الذي يُشير فيه البكاء إلى إنسانيتنا، فلطالما ربطت الثقافة البطركية هذا الفعل بالنساء – بالمعنى السلبي للكلمة – فالرجل في ثقافتنا الشرقية لا يبكي لأنّ هذا فعل نساء. النساء يظهرن عواطفهن، المرأة ضعيفة لا تستطيع ضبط انفعالاتها، والأهم أنّ النساء لا يقمن برد فعل سوى البكاء كما تؤسطر هذه الثقافة. باختياره هذا الفعل عنواناً لنصّه ينتصر الحجي للنسويّة كما للإنسان، مُهاجماً تلك الثقافة في أبسط وأحد المقولات التي أنتجتها انتشاراً ورسوخاً.

هذه ليست تجربة الحجي الأوّلى في الكتابة، وهو كاتب مسرحي شاب من مواليد 1981، تخرّج عام 2004 من المعهد العالي للفنون المسرحية، قسم الدراسات المسرحية، شارك في عدد من ورشات الكتابة والإقامات الفنية في أوروبا والعالم العربي. نُشِرَ له نص «برونز» ضمن كتاب «حكايا الروح والإسمنت» عن دار الفارابي ـ بيروت، ونص «الدونجوان» ضمن «موسوعة المسرح العربي المعاصر» عن دار «نون» القاهرة، وكلاهما عام 2010.

اليوم نبكي، نكتب، ونؤسس لثقافة جديدة، فالسوريون اليوم يخلقون من جديد من رماد «البعث».

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى