صفحات المستقبل

عن اﻻعتقال السياسي..


منذ بدء اﻻحتجاجات الشعبية في سوريا أضحت الشبكات اﻻجتماعيّة شلالاً متواصلاً من مبادرات التضامن مع المعتقلين في خضم هذه الاحتجاجات، سواء كانوا مشاركين في المظاهرات أو لا. كلّ يوم تظهر عشرات الصفحات المطالبة بإطلاق سراح أسماءٍ، بعضها مرّ علينا قبلاً كأسماء الكتّاب والفنانين والناشطين المعروفين، وأغلبها لأشخاص غير معروفين، أسماءٌ ربما ستكون هذه هي المرّة الأولى والأخيرة التي تمرّ علينا.

كثيراً ما تستوقفني أشياءٌ عديدة صفحات التضامن مع المعتقلين، تفاصيلٌ مثل صور المُعتقلين. ذهب زمان تجهّم “النضال الحزبي”، حين كانت صورة “الكادر” أو “الرفيق” منتصباً كالصنم أمام علم الحزب، مؤدياً التحيّة أو دونها، هي السائدة في الأدبيات والمنشورات الحزبية. اليوم نرى مطالبةً بإطلاق سراح شابٍ سنراه في الصورة جالساً على صخرة أمام البحر، أو يدخّن النرجيلة في مطعم، أو ضاحكاً بين أصدقائه، أو سانداً رأسه “المفكّر” بيده في وضعية ﻻ تنجح في الهروب من اﻻصطناع.

حتّى هذه اللحظة رأيت صور أربعة زملاء مدرسة لم أرهم منذ سنواتٍ مرفقة بعبارة “الحرّية لـ …” وكلّما اكتشفت واحداً أتمنّى لو يكون الأخير. أفضّل أن أراهم في ظروف وصورةٍ أجمل.

تستوقفني كذلك تلك العبارات التي ينشرها الأصدقاء في تلك الصفحات. وعودٌ بحفلاتٍ أو رحلات أو “مشاريع” عند خروج الأسير من أسره. شاهدت منذ يومين تعليقاً لأحدهم على صفحة صديقه المعتقل يقول فيه:”مسامحك بالميتين ليرة، بس اطلع ناطرينك”.

لربما كانت هذه الصفحات عبارة عن ترف وفخامة في عوالم السجن واﻻعتقال السياسي السوري. فليس لكلّ المعتقلين صفحاتٌ تتذكر أسماءهم وصورهم، بل أنّ أكثرهم لن يكون إﻻ رقماً لا يعرفه إﻻ السجّان.. ربما.

عندنا فقط ظهر “أدب السجون” ونمى كطرازٍ أدبي، وعندنا فقط يدخل في جوهر “التأديب” الأسري والمجتمعي تعليم الصمت للهروب من السجن وتوابعه.

كنّا في الصف الثالث اﻻبتدائي، وكان “أحمد” ﻻ يكف عن الحديث عن كلّ الألعاب والأشياء الجميلة التي سيجلبها له والده من “استراليا” حيث سافر ليعمل، وكان يسخر من “أمين”، ابن المهاجر إلى السعوديّة، فما أكثر المهاجرين إلى السعوديّة في الرّقّة. لكن “أحمد” يزهو أن والده في بلد مغاير للسائد في مهاجري المدينة.

في العمر الذي يكتشف فيه الأطفال في ثقافات أخرى أن “بابانويل” هو في الواقع النصف الأول من الاسم فقط اكتشف أحمد أن والده لم يكن في “استراليا” بل في المعتقل.. كانت والدته قد حصلت للمرّة الأولى،بعد سبع سنواتٍ من اﻻعتقال، على إذن زيارة، ولذلك اضطرت لإنهاء تلك الكذبة الرحيمة.

يقيم أحمد اليوم في السعوديّة، وقد وجدته بالصدفة في إحدى الشبكات اﻻجتماعيّة بفضل تعليقٍ تركه على صفحة زميل مدرسة معتقل.

ﻻ يمكن أن ننتظر من سلطةٍ تتخذ اﻻعتقال منهجاً للتعامل مع معارضيها أن تدير عجلة اﻻقتصاد أو تنمّي المجتمع وتستثمر طاقاته أو تطوّر التعليم والصحّة أو تصلح الإدارة البيروقراطيّة، بل من المبالغة انتظار أن تحلّ أزمة سير حتّى. يمارس القمع واﻻعتقال من ﻻ يريد للشعب إﻻ أن يكون خائفاً ويعمل لأجل ذلك لا يعرف إﻻ إنتاج الخوف للحفاظ على وجوده ومصالحه، والشعب المقيّد بالخوف ﻻ يُنتج وﻻ يُبدع، وبالتالي تدخل الأوطان في سباتٍ يسمّيه بعض مُغتصبي اللّغة استقراراً. قد يكون الخوف قاعدةً مؤقتة لسلطة مطلقة، لكن صلاحيّته منتهية حكماً مهما طال الزمن وقسى على عابريه.

تتجلّى مأساة اﻻعتقال السياسي، عدا عن الأثر الإنساني المؤلم في المعتقل بالأخص وفي المجتمع ككل، أيضاً في عقيدة وخطاب من يؤيّده، إعلامياً وثقافياً وسياسياً. هذا التأييد هو الصوت الأوحد المسموح في البلد، وليس إﻻ تعبيراً مهلوساً محموماً عن الإفلاس بأبشع أشكاله. الإفلاس الفكري والسياسي والثقافي، والأهم من هذا كلّه: الإفلاس الأخلاقي.

أن تدعم اﻻعتقال السياسي وتبرره يعني أنك عاجزٌ عن المرافعة عن فكرة تشك أصلاً في أنها صحيحة، ويعني أيضاً أنك فقيرٌ أخلاقياً لدرجة أنك تلجأ لـ “ﻻ منطق” القوّة بدل قوّة المنطق. قد ﻻ يكون دعم اﻻعتقال السياسي سبباً للإلغاء، لكنه بلا شك سبب للاحتقار، الذي هو المُستحق الوحيد لمن يعتبر إلغاء الآخر وسيلة تبررها غاية، مهما زُيّنت هذه الغاية لابتزاز الشعوب. ﻻ غاية نبيلة يمكن أن تأتي من وسائل إلغاء حرّة وكرامة الإنسان.

ما أبشع الأسى الممزوج بالاشمئزاز الذي يسبّبه داعم القمع حين يُطالب بوقاحة بـ “حقّه في التعبير” أمام مقاومة الآخرين لإلغائهم.

http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى