صفحات العالم

عن ثورة قتلت السوري الغريب فينا

 

أنديرا مطر

أجريت أواخر العام 2003 أول لقاء صحافي سياسي لجريدة المحرر العربي التي كنت أعمل فيها (والتي صودف أن صاحبها هو السوري نهاد الغادري). كان الحوار مع النائب فارس سعيد، بعد بروز اسمه كمرشح للإنتخابات الرئاسية.

خلال الحوار، أجاب سعيد على أحد الأسئلة المتعلقة بالنظام السوري (طبعاً لم نكن وقتذاك معتادين على استخدام هذا المصطلح، فسوريا بالنسبة لنا كانت وحدة متكاملة شعباً ونظاماً) ميّز فيه بين النظام والشعب السوري، وضرب لي مثلاً عن أحد السوريين الذين يناضلون من موقعهم ضد ارتكابات النظام في لبنان وفي سوريا.

قال حرفياً “لو تقرأين مثلاً ماذا يكتب ياسين الحاج صالح في ملحق النهار، وبأي نفَس وأي عقلية، ستدركين أن هؤلاء السوريين يعانون الظلم نفسه من نظامهم..”. في الواقع، لم يعنِ لي الاسم شيئاً، فأنا لم أكن قد سمعت به من قبل. لم يخجلني الأمر بقدر ما أذهلني أن يكشف النائب اللبناني الماروني، وأحد صقور “قرنة شهوان”، أوجه شبه كثيرة بينه وبين أحد السوريين، وحماسته وثقته بمن كنت أصنفهم في خانة الأعداء على مدى سنين طويلة. “إعرف عدوك… السوري عدوك”.

كان أول ما فعلته بعد انتهاء الحوار،البحث عن اسم ياسين الحاج صالح. تزامن ذلك مع نشر مقالة له في “ملحق النهار” يروي فيه تجربته في سجن تدمر على مدى 15 عاماً، لا أزال اذكر مقدمته “لعلي لا اختلف عن سوريين كثيرين في النفور من أي تذكّر تفصيلي لوقائع من “سنوات الموت”….”.

لا أبالغ في القول إن معرفتي بالسوريين بدأت في تلك اللحظة. صرت ألاحق كتاباته وكتابات آخرين في صحفنا اللبنانية. استمر الأمر على هذا المنوال، وكان كافياً بالحد الأدنى لخلخة الجدار السميك الفاصل فيما بيننا، إلى أن أجاد علينا مارك زوكربرغ باختراعه العظيم “الفايسبوك”. فتشت عن اسمه فعثرت على صفحة له وليس “بروفايلاً”. أبديت إعجابي بها. وكتبت أول تعليق لي على مادة نشرها. مع توالي الأيام صار بيننا العديد من الأصدقاء المشتركين. هذه كانت بوابة العبور الى الداخل السوري، مجازاً وفعلاً.

حسام، إياد، كنان، ميادة، رباب، رنا، ملاك وأسماء كثيرة. أسماء كان مجرد النطق بها في دائرتي الضيقة يوسّع الأعين ذهولاً واستغراباً. علويون، سنة، اسماعيليون.. نلتقي حين تشاء الظروف. ونتواصل الكترونيا في كل الظروف.

انتبهت في الآونة الأخيرة أن عدد أصدقائي السوريين بات يفوق عددهم من اللبنانيين. لا أتحدث هنا عن معرفة فايسبوكية أو عن “تجميع” أصدقاء، بل عن معرفة إنسانية عميقة ووطيدة. لم تمر هذه المعادلة من دون انتقادات تهكمية وساخرة من محيطي. لا بأس. ستزول مع الوقت. المعرفة الافتراضية لم تخل من بعض الصدمات في بادئ الامر. كان كل منا يكتشف الآخر بفيض من الاحكام المسبقة ورغبة في نسفها في آن معاً. يقولون إنهم يساريون أردّ بأنني يمينية. يبدون إعجابهم بالسيد حسن (قبل الثورة) أخبرهم عن محبتي لسمير جعجع. يسخرون من “الأنفة” اللبنانية، فيأتي الرد بأنكم تقلدوننا حتى في حروبنا. انكشاف متبادل للتعرية من كل ما علق في الذهن والنفس على مدى عقود. كنت أفاجأ بمعرفتهم الدقيقة واطلاعهم على تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية، يعرفون جيلبيرت زوين وأي قضاء تمثّل في المجلس النيابي، ويتابعون أخبار السياسيين والفنانين وكل تفاصيل اليوميات اللبنانية. وإذ اسألهم لماذا؟ يجيبون: لأن لا حياة سياسية هنا. لبنان هو قضيتنا.

شهور قليلة مرت، دُعيت من قبل هذه المجموعة لقضاء ليلة رأس السنة في حلب! “إنهم يسهرون إذن!” مغامرة قررت خوضها. ركبت البولمان من ساحة شارل حلو وتوجهت إلى حلب. سبع ساعات فاصلة بين بيروت وحلب. بين عالمين، بين حكم مسبق ولذة الاكتشاف. أذكر أنني سألت صديقي محمد القاسم: “شو بدك آخدلك من الديوتي فري؟ على جاري العادة حين أسافر من بلد الى آخر، فأجابني بضحكة الساخرة: خيتو؟ شو ديوتي فري ، لبنان محافظة من سوريا”.

وصلت إلى حلب، قضينا ليلة رأس السنة في أحد الأندية. “في هذا المكان لن تجدي بعثياً واحداً” قالها لي صديق بهدف طمأنتي. هؤلاء الناس يشبهونني ولا يشبهون السوري الذي كنت أعرفه، بل هم نقيضه تماماً. يسهرون، يضحكون، يشربون العرق، نناكد بعضنا سياسياً، وتسير الأمور بخير حتى مطلع الفجر. اللقاء الحي فاق توقعاتي، انا المتحفظة عادة ، ترسخ الانطباع الأولي الذي حصلته من خلال مناقشات فايسبوكية سابقة، الوهم صار حقيقة.

بعد ثلاثة أشهر، ومع إندلاع الثورة السورية، واحتلالها صدارة الحدث والقلب، ازدادت صداقاتي السورية، من سلميّة،الطبقة، جرمانا، دير الزور… وفي كل مرة اسأل نفسي وأسألهم: أين كنتم؟

كنت أظن أنني الوحيدة التي تعاني من عبء ما كنت اجهله. إلى أن التقيت أنا وناشط سوري معارض خلال زيارته الأولى لبيروت بكاتب لبناني وصحافي، وبعد نقاش مستفيض عن الثورة وأحوالها ومآلها، توجه الكاتب لصديقي السوري بالقول: “أين كنتم؟”.

لست من محبذي استخدام صيغة “نحن اللبنانيين”، أقول إنني مع مجموعة ممن أعرفهم كان السوري بالنسبة إلينا هو الجندي الواقف على الحاجز، الذي كان يرهبنا من دون مسوغات أحياناً، وهو العامل الذي كنا نلتقي به في الشارع فنشيح بنظرنا عنه، كي لا يلحظ نظرة الكراهية في عيوننا، وهو المستأجر في الطبقات السفلى من المبنى، الذي لم نكن نجرؤ على الرد عليه عندما يتحرش بنا، خوفاً على أخوتنا وتجنباً للمشاكل.. السوري في لبنان هو رجل الأمن والمخابرات والغريب.

هذه الثورة ثورتنا قبل أن تكون ثورتكم، هذه الثورة أسقطت كل عيوبنا وعيوبكم، غسلتكم من ذنوبكم وأبرأتنا من إثمنا. لحظة اكتشافي لكم كانت لحظة العودة إلى الذات العارية، إلى الإنسان الذي تشوه فينا رغماً عنا. نعم. صحيح أن هواجسي السابقة تلاشت مع هذه الثورة، إلا أن هذا لن يعفيكم من أسئلة كثيرة ستتوالى مع الأيام، لحظة السقوط الكبير لننهض معاً. سوريا هي شاغلتنا الآن.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى