مراجعات كتب

تاريخ الفكر الصيني لآن شانغ – يختصر تطوّر مرتكزات الحضارة الأقدم 1919 انتهت الامبراطورية وفقدت الهوية الثقافية موروثها المسيطر

ج. ب.

يستحق هذا الكتاب عناء التوقف طويلاً عند حضارة من اقدم حضارات العالم الى جانب الفرعونية والاغريقية وما بين النهرين. وقد تكون بعض هذه الحضارات عاصرت بعضها الآخر منذ ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح وربما قبل ان تستحق تسمية حضارة، دون ان نسقط عليها التطور الحالي، لكن لا شك في ان هذه الحضارات كانت متقدمة في الفكر “الديني” بحيث شكل الاساس للفكر التوحيدي، في المرحلة اللاحقة المستمرة. كما ان الحضارة الصينية هي احدى ثلاث في الشرق الأقصى، فالى جانبها حضارتا الهند واليابان.

يقدم كتاب “تاريخ الفكر الصيني” لآن شانغ – ترجمة محمد حمود – صورة شاملة ودقيقة لتطور هذا الفكر منذ حكم سلالة شانغ في الألفية الثانية قبل الميلاد، وصولاً الى حركة 4 ايار 1919 التي تشكل بداية القطع مع الماضي وليس ذلك سهلاً، فنحو مئة سنة من الحضارة الجديد لا تطمس قروناً من الحضارة القديمة.

والكتاب (846 صفحة) يتتبع الثقافة الصينية في مداها الواسع ويلاحق تاريخاً مكوناً من انقطاعات جذرية وتحولات عميقة وافكار تبتكر على اصالة كأفكار كونفوشيوس وبوذا والطاويّة قبل ان تباشر هذه الافكار الحوار مع الغرب في العصر الحديث.

ويذكر ان الثقافة الصينية جمعت دائماً الوحدة بالتنوع من كونفوشيوسية الى طاويّة الى بوذية… فالى ماويّة أخيراً.

وفي كل المراحل المواجهة مستمرة بين الصين والغرب، ممثلة ليس بالولايات المتحدة فحسب، بل بكل نظام شبيه حتى اليابان وروسيا… والملاحظ ان غالبية الغربيين ومعظم الشرقيين، خصوصاً العرب، يجهلون هذا الموروث الثقافي الذي لم يقدم اليهم إلا باجتزاء وتحيّز، علماً ان النبي محمد أوصى اتباعه قائلاً “اطلبوا العلم ولو في الصين”.

اذاً بقيت الصين لقرون مجهولة من الآخر في كل اصقاع العالم، وفرادتها انها من تلك الحضارات القديمة التي ما زالت مستمرة، فيما اندثر غيرها.

يقول سيمون ليز: “من وجهة النظر الغربية، الصين هي، بكل بساطة، القطب الآخر من التجربة البشرية، جميع الحضارات الكبرى الأخرى أما ان تكون قد زالت (مصر، ما بين النهرين، أميركا – الهنود الحمر) او امتصتها حصرياً الصراعات من أجل البقاء في ظروف بالغة الصعوبة (الثقافات البدائية) او شديدة القرب منا (الثقافات الاسلامية والهندية) بحيث تستطيع ان تقدم لنا صورة مختلفة الى هذا الحد، غيرية الى هذه الدرجة من الاكتمال، وفرادة غاية في الابتكار والوضوح، كما هي الحال مع الصين”.

حتى بداية القرن العشرين استمر بعض المفكرين الثوريين مثل زمانغ بينغ لين او ليوشيبيه، في معالجة مفاهيم تداولت طوال ثمانية قرون. إذاً الكلام عن خلود فكر السونغ والمينغ ليس كلاماً عبثياً. لكن اذا كان المفكرون الصينيون يصرون على الرجوع الى تراثهم الخاص سواء استلهم الكونفوشية او الطاويّة او البوذية إلا أنهم توسلوا تغيير مساراته نحو اتجاهات تحفل بالطروحات والرهانات الجديدة المقبلة من الغرب.

ويقول شانغ هاو “كانت الافكار والقيم الغربية بمثابة حافز ثقافي عمل على تقوية بعض التوترات الراديكالية الملازمة للفكر الصيني ونجم عن ذلك اختلال في التوازن التقليدي، ما أدى الى ظهور هذه التوترات التي كانت في حالة كمون”.

حدثت انعطافة جذرية في الوقائع والعقول في الصين في النصف الاول من القرن العشرين. سنة 1509 انهار مجمل الاساس الايديولوجي للنظام الامبراطوري القائم على الكلاسيكيات. ولم تتأخر البنية السياسية في اللحاق به، وضعت ثورة سنة 1911 حداً لامبراطورية هرمة عاشت ألفي سنة قبل ان توجه التعبئة الثقافية التي بلغت ذروتها مع حركة القضاء على الصنمية في 4 أيار 1919 ضربة قاصمة لكل ما هو تقليد.

ما بين الهزائم المنكرة في مواجهة القوى الاجنبية بدءاً بسنة 1890 والسخط المدمر لشبيبة 1919، رسم مصير الصين في القرن العشرين. فقد ارغم الفكر الصيني للمرة الاولى على التخلص من النظرة التقليدية وعلى طرح اشكالية وجوده، فتخلى عن كل ما سبق، وانطلق على اسس جديدة.

طرحت في الصين الحديثة، كما في كل الحضارات التي كان لا بد للفكر الغربي من السيطرة عليها، مسألة التحديث هل يعني الغربنة بالضرورة، فهناك خطر فعلي في الاستلاب وفقد الهوية الثقافية؟ أليس في مقدورنا التحديث دون ان نستلب؟ ماذا تفعل بموروثها؟ هل هو حي، وبالتالي قابل للتطور والانتاج، أم هو ميت فعلاً ويجب دفنه؟ هل يجب ان ندير له الظهر او ان نعيد ابتكاره؟ جملة أسئلة وغيرها يجيب عنها هذا الكتاب، الذي على ضخامته ليس متخصصاً، لكنه رديف حقيقي بطلبة الجامعات الذين يهتمون بالحضارات فضلاً عن محبي المطالعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى