برهان غليونصفحات الرأي

نحو أبرتايد عالمي/ برهان غليون

 

 

-1-

كشفت الحرب، بل الحروب، الجارية على الأرض السورية، المستمرة منذ ست سنوات، عن الأزمة العميقة التي تهز نظام العالم الذي ولد من حربين أوروبيتين، أو بالأحرى غربيتين، سمّيتا عالميتين، أنهتا عصر الحروب القاريّة، وكرّستا، في الوقت نفسه، السيطرة الغربية على العالم. فخلال العقود الستة، أو السبعة الماضية، تبدل وجه العالم، ونمت قوى كثيرة في القارات الثلاث الكبرى، وتطوّرت اقتصاداتها وقواها العسكرية ومشاركتها الدولية ونفوذها، بعد أن لم يكن يُحسب لها حساب، كما غيرت ثورة المعرفة والمعلوماتية نمط تفكير الأجيال وتطلعاتها، بينما حافظ نظام نهاية الحرب العالمية الثانية العالمي، المجسّد بمنظومة الأمم المتحدة، على نفسه كما كان.

وبمقدار ما عجز هذا النظام المتجمد، كما هو متوقع، عن ترجيع صدى التغييرات الكبيرة والحثيثة التي جرت في توزيع القوة، وتطور المصالح، وغطّى على التناقضات الوليدة والمتفاقمة، وأخفق في المساهمة في إيجاد الحلول الملائمة لها، كما هو متوقع من أي منظومةٍ سياسيةٍ قانونية، أوجد التربة المناسبة لانتشار الحروب والنزاعات الداخلية والإقليمية التي أصبح من الصعب السيطرة عليها. وفي أحيان كثيرة، كان هو نفسه المشجع على مثل هذه النزاعات والمغذي لها، من أجل تفريغ التناقضات المستعصية على الحل في حروبٍ جانبية، أو موازية، يمكن التحكّم بها، بل والاستفادة منها، لتخفيف الضغوط على النظام الدولي وتثبيته ودعمه.

ومن بين هذه الحروب حروب الشرق الأوسط الكثيرة، وجديدها الحرب السورية التي تكاد تقتفي أثر الحرب العراقية، وتتحول إلى فوهة بركان دائم الاشتعال، لخفض مستوى التوترات الإقليمية والدولية. لكن الحرب السورية التي تكثفت فيها، وتقاطعت أيضا، حروبٌ عديدة، إقليمية ودينية وقومية ومذهبية وعالمية، لم تكشف اختلالات النظام الدولي فحسب، ولكنها لعبت، ولا تزال، دورا كبيرا في تعميقها وتفجير تناقضاتها. يتجلى ذلك في الانقلاب الزاحف على نموذج العالم المنظم والمتضامن والعادل الذي وعدت به الدول المنتصرة البشرية، بعد الحرب العالمية الثانية، وحاولت أن تكرّس قواعده في مواثيق الأمم المتحدة الكونية والشاملة، وفي مدوّنة حقوق الإنسان، ومن العودة إلى تأكيد منطق القوة على حساب القانون، والتمييز العنصري على حساب المساواة، ومبدأ السيطرة بالقوة بدل الحرية، وبالتالي المخاطرة بالاستثمار في مزيد من الفوضى والعنف، بدل السعي إلى وضع مزيدٍ من الاتساق داخل النظام. كيف حصل ذلك؟

“كانت القومية والرأسمالية تمثلان قوةً تقدميةً بالمعنى التاريخي الحديث، ولكن اليوم تمثلان القوتين الأكثر محافظةً ورجعيةً في تاريخ البشرية الحديثة” وحركتين وعقيدتين ونظامين ساهما، بعد النزعة الإنسانية للقرن السادس عشر، في توليد العالم الجديد، الحي والديناميكي، على أنقاض الماضي التقليدي، البطيء والجامد. وكان لهما الفضل في تحديثه، والوصول إلى ما نسميه اليوم الحداثة أو العالم الحديث. ومن دونهما، لا نعرف كيف كان سيكون عليه مصير العالم.

وبهذا المعنى، كانت القومية والرأسمالية تمثلان قوةً تقدميةً بالمعنى التاريخي الحديث الذي يمكن تلخيصه في توسيع دائرة سيطرة البشر على مصيرهم، وتحقيق أوسع هامش مبادرةٍ لهم في مواجهة قوانين الطبيعة الجائرة، أو نظامها الخارج عن إرادة البشر، وكذلك في توسيع دائرة سيطرة الفرد وهامش مبادرته أيضا داخل نظمٍ اجتماعيةٍ، بقيت هي نفسها جامدة، حبيسة التقاليد والقيم الثابتة والمقدسة العصية على التجديد قروناً طويلة.

أما اليوم فهما تمثلان القوتين الأكثر محافظةً ورجعيةً في تاريخ البشرية الحديثة، وتشكلان المصدر الأكبر للبربرية الزاحفة، وإعادة العالم إلى عصور عبودية من طراز جديد، تختلط فيها قيم الاحتقار والعنصرية والكراهية والتمييز بين البشر مع خطابٍ يتم تجويفه باستمرار، حتى يكاد يتحول إلى ورقة توت، عن الحقوق الإنسانية، الفردية والجماعية. وكلاهما تتحملان المسؤولية الرئيسية عن إنتاج الشروخ والتصدّعات المتزايدة التي يكاد من الصعب تصور إمكانية تجاوزها ووقف آلية تحطيم الإنسان في داخل النظم الاجتماعية الخاصة، وعلى مستوى النظام الدولي المتحكم بها. وبالتالي، تجنب خطر القضاء على مستقبل المدنية الحديثة التي نشأت في حجرهما. وتكاد الحالة السورية تمثل ذروة هذه البربرية التي أصبحت العدو الأول لهذا النظام الدولي، والضامن له في الوقت نفسه.

والسبب أن القومية التي ولّدت مفهوم الأمة، وما تضمنته من ثورة سياسية ومفاهيم في السيادة والحرية والمواطنة والمشاركة الديمقراطية، من خلال فرضها نموذج الدولة السيدة، وفصلها السلطة الزمنية عن السلطة الروحية، أي في الواقع تحطيم أساس الاستبداد القائم على تماهي السلطة المركزية للدولة والعقيدة أو الدوغما العقائدية، وتحديدها حقوق الدول والمجتمعات، ووضعها قواعد التعامل في ما بينها، بصرف النظر عن عقيدة الجماعات والأفراد التي تقطن تحت سقفها، أي بعد أن كانت الحاضنة لإنتاج أكثر تنظيمات المجتمعات الإنسانية تقدّما، بالمقارنة مع ما سبق من نظم إقطاعية أو ملكية أو سلطانية أو إمبرطورية، تحولت، وبشكل أشد فأشد، إلى إطارٍ لتقسيم العالم الذي وحّدت تطلعاته وطموح شعوبه بين قطبين: الأول مسيطر ومتحكّم بالقوة العسكرية والعلمية والتقنية والمالية، حر وقانوني، وقطب ثان يمثل معظم المجتمعات البشرية أو أكثريتها يعيش تابعا فقيرا مستلب الإرادة تجاه الخارج والداخل معا، لا أمل له ولا مستقبل. وهي تدفع به بشكلٍ أكبر اليوم نحو تجاوز الاستقطاب الثنائي إلى التشظي والتبعثر والانحلال.

والسبب أن القومية التي بنت الدولة الأمة التي خلقت شروط تحرير الفرد وتحويله من رعيةٍ إلى مواطنٍ مشاركٍ في تقرير مصيره الفردي والجماعي هي نفسها التي رسّخت سياسات

“الحالة السورية تمثل ذروة هذه البربرية التي أصبحت العدو الأول للنظام الدولي، والضامن له في الوقت نفسه” الأنانية القومية، والاستهتار بمصير الدول والأمم الأخرى ومستقبلها، فبمقدار ما عمّقت الشعور بالمسؤولية لدى القادة المركزيين تجاه أمتهم وشعوبهم، حرمتهم من أي تعاطفٍ أو تفهم لمصالح الشعوب الأخرى، بل جرّدتهم من أي إحساسٍ بالمصائب التي تواجهها، أو المساعدة على حلها، وبرّرت لنفسها جميع المخططات والاستراتيجيات والحيل السياسية والقانونية والأخلاقية التي تشرعن نهب موارد الدول الأخرى والتحكم بمصيرها واستتباعها ووضعها في خدمتها.

وفي سبيل منع المجتمعات المنافسة من الدخول في دائرة الحداثة الفعلية والفعالة، عملت كل ما تستطيع لإجهاض نهضتها، والتفريق بين عناصر قوتها المادية والبشرية، في سبيل أن تحتفظ وحدها بالسيطرة العالمية وتضمن أطول فترة ممكنة تفوقها وهيمنتها، وتبعد عن نفسها أي منافسةٍ جدية. ولم تنجح في كسر قاعدة الهيمنة هذه إلا المجتمعات والشعوب الكبيرة والراسخة في الحضارة التي كانت من القوة والانتشار بحيث تملك هامش مناورة استراتيجية استثنائية، وتنتصر في امتحان القوة التاريخي الذي اتخذ في حضارةٍ كالصين شكل حرب تحرير طويلة دامت عقودا، أو بعض الشعوب التي وافتها ظروفٌ استثنائيةٌ ونجحت، بعد قرن من المناورات والحروب والنزاعات الداخلية والخارجية، في وضع أسس النهضة الحديثة، قبل أن تتحوّل هي نفسها أيضا إلى دول قومية إمبريالية. باختصار، إن الدولة الأمة التي حرّرت المجتمعات، في جزء كبير من المعمورة، ومكّنتها من تقرير مصيرها، والتعبير عن إرادتها، هي نفسها التي حلت عرى أكثر المجتمعات وفكّكتها عبر الاستعمار وبعده، وحكمت عليها بالدخول في أزمة فكرية وسياسية واقتصادية دائمة، وأدانتها بالبقاء في قفص الديكتاتورية والاستبداد والطغيان.

أما الرأسمالية التي فجرت طاقات الاقتصاد السياسي، من خلال تطوير روح المبادرة والاستثمار المنتج، وأطلقت في إثرها وأخصبت في حضنها ثورة تقنية وعلمية ومعلوماتية عالمية، فقد تحولت إلى أكبر عاملٍ في اجتياح الاقتصادات الأخرى، وإغلاق أفق التحول لدى الشعوب والمجتمعات التابعة، واستخدام ثرواتها البشرية والمادية من أجل دعم نموها الخاص وتقدم مجتمعاتها. وقد تحولت بشكل مضطرد إلى قوةٍ إمبريالية تتغذّى من المضاربات المالية والسياسية، فتضعف فرص الشعوب في بناء اقتصادات منتجةٍ، وتحرم أغلب سكان المعمورة من حقهم في التحرّر والسيادة والتنمية الطبيعية.

الزواج المثير بين القومية أو الدولة الأمة والرأسمالية ولد منذ ثلاثة قرون ظاهرة إمبريالية، أو نظام سيطرة عالمية متداخلة، غير مسبوق في قوته ووحشيته، في أي حقبةٍ، نظام عالمٍ على

“الدول الفقيرة تفقد أي أمل بالخروج من مأزقها وتأمين الموارد والخبرات والكفاءات، لتأهيل نفسها للحياة ضمن مجتمع الحداثة” المستوى نفسه من الانقسام والتناقض والتبعثر والاستقطاب على كل المستويات، وفي كل الميادين. ولم يحصل أن وجد قبله عالم عرف مستوىً من الثراء والتقدم التقني والعلمي وتجمع القوة وتمركزها، وفي الوقت نفسه اتساع دائرة الفقر والبؤس وهشاشة شروط الحياة وفقدانها أي معنىً عند مليارات البشر، كما يحصل في عالمنا اليوم. وإذا لم تحصل معجزةٌ، واستمر التنافس من دون معايير ولا حدود، واستمر سعي الأمم كل لإنقاذ نفسها من دون سؤال عن مصير الكل العالمي، كما يحصل اليوم في الولايات المتحدة وروسيا، ويتجلى في سورية المدمرة، فلن يكون هناك مخرج آخر سوى الانتحار الجماعي، ودفع العالم إلى الجنون والانفجار. فالدينامية التي دفعت الأمم من منطلق المصلحة القومية والأنانية إلى التنافس ومراكمة الموارد والأرباح وتعزيز السيطرة على رأس المال، هي نفسها التي وقفت، منذ قرنين، ولا تزال تقف ضد أي مشروع إنساني جماعي، يهدف إلى مساعدة الدول الفقيرة والشعوب التي زعزع استقرارها وحطم توازناتها ودمر اقتصاداتها وقوّض مسار تقدمها الاستعمار قبل أن تحول دون بنائها القومي والرأسمالي الهيمنة الدولية أو تحول القومية والرأسمالية إلى إمبريالية عالمية. وتكاد هذه الدول الفقيرة مع تصميم القوى الأكبر على تركها تتخبط في أزماتها ونزاعاتها وحروبها الداخلية والبينية نتيجة بؤسها، تفقد أي أمل بالخروج من مأزقها وتأمين الموارد والخبرات والكفاءات، لتأهيل نفسها للحياة ضمن مجتمع الحداثة والتقدم التقني والعلمي.

-2-

مع تخلف الجزء الأكبر من البشرية عن اللحاق بركب المدنية، وتفاقم الأزمات الداخلية في كل المناطق، وصعود التوترات والنزوع المتزايد للحرب والقتال، تحولت الدول الغنية المتقدمة إلى واحة رخاء في صحراء قاحلة، وسوف تصبح “الهجرة” نحو هذه الواحة المحاصرة هي المشكلة الرئيسية لهذه الدول خلال العقود القادمة، ولن يكون أمامها وسيلة للرد عليها سوى رفع الجدران العالية، النفسية والمادية، وتطوير تقنيات الإبادة الجماعية لردع القادمين البرابرة، ودحر موجات المهاجرين. لكنها لن تستطيع، مهما حصنت نفسها، أن تقف أمام تسرب موجات وجيوش من المرشحين لركوب كل مخاطر الموت للخلاص بأنفسهم، والتغلب على الموت المعنوي والجسدي الذي صار مصيرهم الوحيد ومستقبلهم، نتيجة استبعادهم من الحضارة. لن يتوقف الضغط على هذه الواحات الصغيرة. ولن تفلح مهما أقامت من أسوارٍ وتحصيناتٍ في رد المهاجمين الذين لن يأتوا هذه المرة محاربين، ولكن عاشقين، ولن يزيد رفع جدران العنصرية والعزل، إلا في تعزيز إرادة الوصول إلى بر الأمان والتوغل إلى جنة الخلد الموعودة.

خسرت الدول الصناعية والمتقدمة معركتها منذ الآن، لأنها نظرت إلى العالم، وتعاملت معه كأنه غابة وحقل صيد، تنهب منه ما تشاء وتقتل ما تشاء وتدمر البيئة وشروط حياة الشعوب والأجناس من دون تفكير في المستقبل، ولا تأمل في النتائج. في الوقت الذي كانت تملك فيه من الموارد والخبرات والقيم الإنسانية التي مكّنتها من بناء نفسها، باعتبارها دولاً وأمماً متمدنة، ما لو استخدمت جزءا يسيرا منه، لفتحت أمامها وأمام الإنسانية طريقا آخر للأمن والسلام والازدهار الجماعي. كل ما كان عليها أن تفعله هو التخلي عن الأنانية القومية، والحد من شره السلطة والنفوذ والحرص على موارد الشعوب التي هي جزء من موارد الإنسانية بأكملها بدل هدرها على مذبح المنافسة الربحية ومراكمة الثروة ورؤوس الأموال. ولو تم ضبط آلية ومنطق الربح السريع والمفتوح لصالح التفكير في المستقبل، مستقبل الدول المتقدمة ومجتمعاتها وشعوب العالم ككل، لكان من الممكن صياغة سياساتٍ اقتصاديةٍ للكوكب بأكمله، تؤمن الحياة لجميع أبنائه، وفي الوقت نفسه تحافظ على الطبيعة والبيئة وتغير من أنماط الهدر والإدارة الوحشية للموارد البشرية والطبيعية التي اتبعتها رأسمالية منفلتة.

ما كانت الدول الصناعية بحاجة إلى أن تصرف من جيبها قرشا واحدا، كما فعلت الولايات

“سوف تصبح “الهجرة” نحو الدول الغنية المشكلة الرئيسية لهذه الدول خلال العقود المقبلة” المتحدة، عندما أعلنت مشروع مارشال لإنقاذ أوروبا التي اجتاحتها الحرب ودمرتها. بالعكس، لو أنها وفرت 10% من الموارد التي كرّستها للحروب الاستعمارية التي شنتها الدول المتقدمة على بعضها منذ القرن التاسع عشر، لتوسيع دائرة نفوذها والسيطرة على الموارد الطبيعية العالمية على حساب الشعوب التابعة، ولو عملت على توجيه جزءٍ من نفقات التسلح التي تنفقها البلاد التابعة نفسها، حماية للطغم الحاكمة من شعوبها ومن منازعاتها في ما بينها، ووجهت ريوع المناجم النفطية وغير النفطية في الدول المنتجة لأهداف غير شراء الأسلحة وتعزيز موقف صناعات السلاح، لكان وجه الأرض قد تغير تماما، وعمّت الخضرة الكرة الأرضية والسعادة البشرية بأكملها. كل ما كان يحتاجه الأمر هو مشروع مارشال على مستوى القارات، ورؤية شاملة لعموم الإنسانية، أي خروج من أفق القومية الأنانية والربحية الرأسمالية البليدة والميكانيكية. نظرت الولايات المتحدة إلى أوروبا حليفا، بينما نظر الغرب بأكمله للعالم النامي، أي لثلاثة أرباع البشرية، حقل صيد وقنص ونهب مفتوح لجميع الرأسماليين والمغامرين. هذه هي الحقيقة.

هل ضاعت الفرصة لمراجعة سياسات الدول المتقدمة الصناعية؟ للأسف نعم، ليس لأن هذه السياسات لا يمكن التراجع عنها أو تغييرها بعد الآن، فمن الممكن، في كل لحظة، العودة نحو سياسةٍ دولية أكثر شمولية ورؤية مستقبلية، إنما لأن الطغم والنخب الحاكمة في هذه الدول أصبحت حبيسة حسابات انتخابية، وأجندات شخصية وسياسية ضيقة الأفق وقصيرة المدى، لا تسمح لها بالتفكير في المستقبل البعيد، بل ربما القريب، ولأنها فقدت الروح النقدية التي تمكّنها من إعادة النظر في سياساتها، وإدراك أن ما كان صالحا من هذه السياسات منذ قرن لم يعد يمكن المراهنة عليه اليوم، مع تزايد مشكلات الفقر والتهميش الجماعية والحروب وتدمير البيئة الطبيعية، والأهم النفسية والاجتماعية عند الإنسان، ولأنها أصبحت رهينة محبسيها: الأنانية القومية والحسابات الضيقة التي تتحكّم بالسياسة في كل دولة، وحاكمية الربح والتراكم الرأسمالي، التي حللها ماركس بدقة، وأولويتهما في تحديد سياسة إدارة الموارد البشرية والنزاع الوحشي عليها، فهي لا ترى أمامها أكثر فأكثر إلا الظلام والسواد والخطر. ولا تجد طريقا للخلاص إلا بالعودة إلى ردود فعل الخائف والمرتعب والخاسر سلفا، أو الذي يشعر بأن القدر ينقلب عليه، وهو ينقلب بالفعل، وهو ما يفسّر نزوع السياسيين الطموحين، والفاقدين، أكثر فأكثر، لثقتهم بالسير الطبيعي والناجع للآليات القومية والرأسمالية معا، إلى تبني أيديولوجيات غصب التاريخ والنكوص على مبادئهم نفسها، واستبدالها بقيم العصر البربري الجديد، عصر الكراهية والعنصرية والعداء للأجنبي، أي أجنبة المختلف، والانكفاء بشكل أكبر على الأجندات القومية التي تشكل هي نفسها اليوم السبب الرئيسي لتدهور البيئة الدولية الفكرية والسياسية والاقتصادية.

مكر التاريخ

بمقدار ما كانت سياسات هؤلاء وراء إنتاج ما يعيشه العالم من تفجر النماذج والأشكال الجديدة للبربرية، فهم يشعرون اليوم بأنهم ربما اقتربوا من أن يدفعوا ثمنها، ويتحولوا إلى ضحية

“خسرت الدول الصناعية والمتقدمة معركتها منذ الآن، لأنها نظرت إلى العالم، وتعاملت معه كأنه غابة وحقل صيد” لسياساتهم الأنانية ذاتها. وربما كان بركان الشرق الأوسط الذي شهد أفظع نموذج للاستهتار بمصير الشعوب، وهدر أرواح أبنائها ومواردها، وتهميشها واحتقار نخبها ومستقبل أجيالها هو الذي يمثل اليوم، بما يقذفه من حمم على نفسه، وعلى العالم المحيط به، النموذج الأول لما سيتحول إلى محرقة عالمية خلال القرن المقبل، ما لم تحدث بالفعل ثورة فكرية عند النخب الحاكمة والطبقات السياسية السائدة في الدول المتقدّمة، وجزء كبير من النخب الفاسدة والجانحة في البلدان الفقيرة والتابعة. وأكثر فأكثر ستشكل تكاليف الأمن حاجزا قويا أمام توسع دائرة الاستثمار الرأسمالي، ما لم تتحول الحرب نفسها إلى القطاع القائد في رأسمالية حروب القرن الواحد والعشرين.

ليس الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وعقيدته الرثّة التي مكّنته من الفوز، ولن يكون الوحيد بين أبناء جلدته من السياسيين الطامحين إلى قيادة مرحلة الردة الجديدة على قيم العصر الذهبي الآفل للدولة القومية وللرأسمالية المنتجة والخلاقة، وعلى مثله وآماله وأوهامه. إنه يجسّد في ثورته الرثة ذاتها وجمهوره من الضائعين والمتذمرين من دون وجهةٍ ولا يقين، خيار الهرب نحو الهاوية الذي لم يعد لدى نظام العالم القائم بديلا له، إن لم تراجع النخب والطبقات السياسية الحاكمة خياراتها البالية والبائدة والفاسدة، وتتخلى عن معاييرها القومية المغلقة ورأسماليتها الريعية والطفيلية المتفاقمة.

ومن الواضح أن الترامبية سوف تقود الغرب، بمعناه الجيوسياسي والاقتصادي، الخائف على موقعه ومكانه وازدهار مجتمعاته واقتصاداته، نحو التطرّف والتشدد والانغلاق، تماما كما كان عليه الحال عندما قادت التاتشرية، وما مثلته من سياسات نيوليبرالية، الدول الصناعية بعد عقود من النمو المتسارع الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي أوروبا، هناك مرشحون كثيرون ينتظرون دورهم، ويمتشقون سيف ترامب الفكري والسياسي، لكسب انتخابات الرئاسات المقبلة، تماما كما يعزّز هذا المسار من تيارات الشمولية الراسخة في دول المحيط والأطراف، في آسيا وإيران وأفريقيا والعالم العربي. ألمانيا أنجيلا ميركل وحدها هي التي لا تزال تقاوم سحر نموذج جديد من سياسات الأبرتايد الذي اتبعته في الماضي النخبة البيضاء في جنوب أفريقيا، لكن هذه المرة على عموم المعمورة. ومقاومة ألمانيا نابعةٌ من تجربتها المريرة مع أشرس نسخة للعنصرية المريضة، ولدت في التاريخ الحديث، وراحت ضحيتها شعوب كثيرة، وأولهم الجماعات اليهودية، لكن أيضا أجيال كاملة من الشبيبة الألمانية التي ضُحّي بها على أعتاب وهم سيطرة قارية مجنونة.

لكن، بموازاة تحول العالم بأكمله إلى أبرتايد من دون ضفاف ولا حدود، تتحكّم فيه نخبة بيضاء، وأشباهها ومريدوها في الأمصار، بمصير المجتمعات، وتحكم عليها بالموت والفقر

“كل ما كان يحتاجه الأمر هو مشروع مارشال على مستوى القارات، ورؤية شاملة لعموم الإنسانية” والتهميش والحروب والنزاعات الدائمة، تولد أيضا في كل دولة ومجتمع، وأولها دولة الهجرة بامتياز، الولايات المتحدة، “أبرتايدات” داخلية، تخلق بين النخب الحاكمة والشعوب شرخا لا يمكن ترميمه، وتهم بأن تطلق هي أيضا حركة تطويق الشعوب، كما فعلت إسرائيل في الضفة الغربية وغزة، بالجدران العازلة، إن لم يكن بفرض حياة الغيتو وشروطه على النخب الحاكمة والمالكة، في ما تسمى اليوم المربعات الخضراء، وتحويل الدولة إلى قلعة محاصِرة ومحاصَرة في الوقت نفسه.

لا يبشر القضاء على الطبقة الوسطى، الحاضنة التاريخية لقيم التفتح والتسامح والتحرّر، بمستقبل زاهر للديمقراطية وقيم التضامن الإنسانية واحترام حقوق الإنسان. بالعكس، يشكل ذوبانها المادي والثقافي معا تربةً خصبةً لنشوء الفاشية التي تتغذّى من اليأس، والتي لا تستمد شعبيتها مما تعد به جماهير المهمشين بالتحرّر والازدهار، وإنما من تهديدها بإدخال كل من لا يزال خارجاً عنها في دائرة البؤس والاحتقار.

لم ينجح ترامب في أن يكون الممثل الشرعي لجمهورٍ متزايد من الجماهير الضائعة، إلا بمقدار ما برهن في سلوكه وفكره على أنه الوريث الشرعي للحضارة القومية والرأسمالية الرثة التي فقدت روحها، ووصلت في آخر عهودها إلى طريق مسدود، أفقدها ثقتها بالعالم وبالمستقبل. إنه رمز لحقبة شعاراتها السياسية الرئيسية الكراهية والعنصرية، ورائد جيل من القادة والنخب السياسية التي تحضر نفسها للحكم، في أكثر من دولة ومنطقة في العقود القليلة المقبلة.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى