صفحات الرأي

فقه الاستبداد وإناء الخوف


حسن عبّاس

المفاضلة بين الاستقرار والحرية والديموقراطية ليست خياراً أخلاقياً إن كنّا نعتبر أن المنظومة الأخلاقية المعاصرة تتأسس على فكرة حقوق الإنسان. تفضيل الاستقرار بلا ديموقراطية وحرية من أجل حفنة من الامتيازات لا تسمن ولا تغني عن جوع، هو خيار من خارج التاريخ مهما تكن النتيجة التي ستفضي إليها انتفاضات الشعوب العربية على أجيال من الاستبداد ذي الميوعة السياسية.

منذ سقوط الرئيس حسني مبارك دخل العالم العربي في مرحلة الأسئلة “الكبرى”. المنتفضون المصريون الذين ما إن أسقطوا أيقونة الاستبداد المصرية، بحراك غير منظم على الطريقة اللينينية، صار عليهم ممارسة السياسة إيجاباً لا سلباً، صار عليهم الاختيار بين أشكال لمأسسة فكرة الحرية والكرامة البشرية ولم يعد يكفيهم أن يتحدوا ضد أيقونة الاستبداد. دخل المصريون، وقبلهم التونسيون، المرحلة الأصعب: مرحلة بناء الديموقراطية. كذلك صارت حال باقي المنتفضين الذين لم يقطفوا بعد ثمرة انتفاضتهم. كان الليبيون أولهم مع “اللحظة المصراتية” عندما كان الحدث الليبي يُختصر بمصير هذه المدينة. “اللحظة المصراتية” كانت أيضاً اللحظة التي انكشف معها ارتباط تحفّز الدول الغربية للتغيير بالبديل من الأنظمة الاستبدادية.

القلق المصاحب لبناء الديموقراطية

مع انتقال الانتفاضات العربية إلى مرحلة السياسة بالإيجاب، خرجت إلى العلن مخاوف، عمر بعضها من عمر تاريخ المنطقة المدوّن، وعمر بعضها الآخر من عمر آخر الترسبات الفاعلة في العقول الجماعية.

أمر صحّي أن تخرج هذه المخاوف إلى العلن السياسي. أساساً هو أمر حتميّ بغض النظر عن مدى صحيّته. ولكن هل من الصحّي أن نمتنع بسبب بعض المخاوف عن المطالبة بانضمامنا إلى الأسرة البشرية وما باتت تتمتع به من حقوق؟! وهل من الأمور الحتميّة أن يكون محكوماً علينا بتذيّل لائحة الشعوب التي تتمتع باحترام كرامة أفرادها البشرية؟! بات واجباً علينا الخروج من منطق الثنائيات والتفكير بشكل جدّي في صناعة مستقبلنا كشعوب تستحق كغيرها، لا أكثر ولكن لا أقل أيضاً، أن تعيش في رحاب الديموقراطية، على علاّتها.

المسيحيون والتعددية الديموقراطية

العرب المسيحيون هم ممّن ظهّرت الانتفاضات العربية مخاوفهم على واقعهم وعلى مستقبلهم. انطلاقاً من عقلية رائجة في العالم العربي تنظر إلى السياسة العامة من منطلق الجماعة الضيّق وحجمها الديموغرافي، تخاف الجماعات التي لا تعدّ كثيراً من “الأنفار”، ولكن أيضاً، وهذا ما يجب ألاّ ننساه، يخاف كثير من أعضاء الجماعات “المرتاحة” ديموغرافياً، من مصادرة هويتهم الإنسانية المتفاعلة من ألوان مختلفة من الأفكار والممارسات وردّهم إلى أحد أنسابهم وهو النسب المذهبي.

التوق إلى الحرية يحدّ منه الإنغلاق ومنع الإنفتاح على الآخرين الذي يؤدي إليه منطق الجماعات الصوّانية، وأعضائها المتصوّرين كذوي بعد واحد، بحسب المصطلح الذي صاغه يوماً هربرت ماركوز.

لننظر مثلاً إلى الكنيسة المارونية في لبنان. هذه الكنيسة صال وجال رجالاتها في العالم من أجل تأسيس دولة لبنان الكبير. بعد نجاح مسعاهم تمسّك موارنة لبنان بنظام سياسي، كانوا روّاده وبناة لبناته التأسيسية، يجمع ما بين احترام التنوّع والديموقراطية. أخطأوا كثيراً؟ أجل. أحسنوا العمل؟ أحياناً كثيرة. أفرزت تصوّراتهم نظاماً معرّضاً لأزمات دورية؟ بالتأكيد. لكنهم كانوا من المنافحين عن فكرة الدولة الوطنية وعن فكرة التعددية الديموقراطية التي يصاحبها التوقع الليبيرالي. وكانت كنيستهم تعي نفسها كصاحبة رسالة وطنية تحاول تعميمها على كلّ اللبنانيين. لم تكن صاحبة رسالة منكفئة على ذاتها، ولم يسيطر عليها الخوف على وجود المسيحيين حتى في أحلك لحظات الحرب اللبنانية الأهلية. لم تنادِ الكنيسة يوماً بالتقسيم. التفاعل داخل الدولة مع غير المسيحيين لم يكن يخيفها إلى حدّ المطالبة بالقطيعة معهم، أو إلى حدّ المطالبة باستبعادهم عن الشأن العام.

في المحيط العربي الأوسع من لبنان، عمل المسيحيون في أفق الدول الوطنية لا بل تجاوزوها في كثير من الأحيان. كانوا من بناة الأحزاب والإيديولوجيات ذوي الآفاق القومية، والأممية أيضاً. فكرة المحافظة على وجودهم كانت حاضرة، لكن أواليات العمل على تكريسها وتجذيرها لم تنكفئ يوماً إلى قواعد الجماعة المسيحية الضيّقة، بل كانوا يعون أنفسهم كشركاء للجماعات الأخرى. هذا لا يعني أنهم لم يعرفوا التهميش في بعض الدول العربية، لكنهم عندما همّشوا كانوا متساوين مع غيرهم في هذا التهميش.

ما ينساه كثر من المسيحيين، في الظروف الراهنة، أن المواقف التي تخرج عنهم ستلعب دوراً كبيراً في تحديد علاقتهم بغير المسيحيين، لا بل ستلعب دوراً كبيراً، وهذا أخطر، في تحديد الخيارات السياسية لغير المسيحيين. ما أعنيه أن ظهور المسيحيين في موقف يفضّل الاستقرار وصنّاعه على الحرية، غير الآبه لسيل الدماء (غير المسيحية)، سيدفع، في مرحلة تتشكّل فيها الخيارات السياسية غير المحسومة بشكل واضح إلى الآن، سيدفع غير المسيحيين إلى الانكفاء على ذواتهم والارتماء في أحضان الطرف الأقوى داخل جماعاتهم (الأقدر على حمايتهم سياسياً)، أو الطرف الأكثر تشدداً (الأقدر على حمايتهم عصاباتياً). التكتل الفجّ في وجه جماعة سيدفع أعضاء هذه الجماعة إلى التشدّد وإلى تفضيل الخيارات الاحترابية داخل جماعتهم الكبرى، مما يمكن أن يؤدي إلى صيرورة الطرف الأقوى فيها الطرف الأكثر تشدداً أيضاً. الحديث نفسه ينطبق على الشيعة وعلى سلوك أحزابهم الكبرى التي تفضل الاستقرار على رغم الدماء السائلة طالما أنها ليست دماء شيعية! ألا يعرفون أن سيل الدماء البريئة قادر على إنبات الأنياب التي تعضّ؟

مكافحة التشدد عبر طائفية

في مواقف بطريرك الكنيسة المارونية مار بشارة بطرس الراعي الأخيرة، موقف يعتبر أن المسيحيين هم من سيتأثر وسيدفع الثمن في حال بزوغ الأنظمة المتشددة، وأن المسيحي في النظام المتشدد “بياكلها”. لا شك في صحّة مواقف الراعي من حيث الشكل، ويمكن مدّ منطقه على باقي الأقليات، الصغيرة منها والمتوسطة. التيارات السياسية الشيعية الكبرى تصوغ سياساتها الراهنة من المنطلق نفسه. لكن، ألن يدفع المواطن السنّي الديموقراطي والليبيرالي الثمن إن ساد التشدّد؟ سؤال بسيط من حيث الشكل لكنه ليس بسيطاً من حيث التبعات. هل نصادر من هذا السنّي حقّه في الاعتراف به كمواطن وكشريك في صنع السياسات في الدول العربية الوطنية! إذا كان الخيار هو الانكفاء عن جماعة بكاملها، تتم حكماً مصادرة حق هذا المواطن في المواطنية لتكون النتيجة الطبيعية دفع هذا المواطن إلى الانكفاء عن التفكير وطنياً إلى التفكير في منطق انتمائه الحكمي إلى جماعة السنّة، الذي، للمناسبة، يكون الآخرون هم مَن فرضه عليه! خلاصة: التفكير في منطق الأقليات يخلق أكثرية تتجمع ضد هذه الأقليات.

من ناحية أخرى من هم الذين يعملون على إثارة خوف “الأقليات” من “الأكثرية”؟ هم للمصادفة المتحكمون بمصير كلّ من “الأقليات” العربية. ألا يدفع هذا الواقع إلى التساؤل عن السبب؟ الجواب بسيط: تخويف أبناء “الأقليات” هو وسيلة سياسية للحدّ من تطلعاتهم الوطنية المشروعة إلى الحرية والديموقراطية ولحصر تفكيرهم في “البعبع الآتي”، ما يسمح لأكثر التيارات تشدداً داخل هذه “الأقليات” بالتحكم بمصيرهم. أي بلغة أكثر وضوحاً، بالهيمنة عليهم من الداخل.

يؤدي منطق انكفاء كل جماعة على ذاتها، إلى بزوغ ديكتاتوريات غير رسمية داخل كلّ جماعة. تخويف الجماعات بعضها من بعض لا يؤدي إلى كفّ يد “متشدد أكثري” عن هذه الجماعات، بل يؤدي إلى إطلاق يد “متشدد أقلوي” للهيمنة على مصائر أبناء “الأقليات”. أوليست الحالة اللبنانية خير شاهد على صحة هذه الفرضية؟

في المنطقة العربية لا تسود مفاهيم حقوق الإنسان ولا تسود مفاهيم الحرية والديموقراطية وتقبّل الآخر. هذا مؤكد. ولكن على رغم ذلك نستبعد دائماً عند تفكيرنا في شؤوننا عاملين أساسيين: أولهما أننا نعيش في دول وطنية ولا نعيش في “العالم العربي”، وثانيهما أننا نعيش في زمن لم يعد فيه مفهوم السيادة الوطنية يستطيع أن يبرر ارتكاب إبادات جماعية وجرائم ضد الإنسانية، فنحن في عصر ما بعد مبدأ التدخل الإنساني. مجرد وعي هذين العاملين يجب أن يزيل كثيراً من المخاوف غير المبرّرة.

الديموقراطية في أحد جوانبها هي نظام يحقق للجميع عدم الوقوع تحت سيطرة الطاغية. الخوف من الطاغية هو أساسي في الدفع إلى المطالبة بها. لذلك من الأجدى تحويل الخوف الراهن من طاغية ما إلى المساهمة بفاعلية في بناء أنظمة ديمقراطية تُبعد عنّا الطاغية، عوضاً من التكتل حول طغاة الجماعات والتضحية بالحريات بحجة الخوف على المصير. بئس المصير إن لم يكن مصيراً ديموقراطياً. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

فقه الاستبداد

يستعصي على فهمي اعتبار بطريرك الموارنة أن الرئيس السوري بشار الأسد “معتّر” Pauvre! البطريرك “استعتره” لأنه على رغم نياته الإصلاحية (هذه فرضية تبناها الراعي) فهو ينضوي في حزب البعث السوري وليس حاكماً فرداً يحتكر القرار ليحقق الإصلاح! لم أفهم ذلك! أيكون “معتّراً” من يتمسّك بأنيابه بالسلطة ويقتل الأبرياء يميناً وشمالاً. هل يعتبر البطريرك أن الرئيس الأسد هو قيد إقامة جبرية فرضها عليه حزبه لمنعه من الخروج وتطبيق الإصلاحات!

من منطلق ديموقراطي، مَن يريد من الآخر أن يتقبّله، عليه في المقابل أن يتقبّل الآخر وألا يستهتر بدمه حين يسيل في الأزقة. هذا الاستهتار لا يمكن أن تبرره رطانة، كتلك التي تتحدث عن مؤامرات لتفتيت الدول العربية ولتغيير ديموغرافيتها قتلاً أو تهجيراً أو سبياً بابلياً وما إلى ذلك. هذه توهّمات لكنها ربما تتحقق في المستقبل إن اعتاد متوهّموها التفكير فيها على أساس أنها أمر واقع يحتّم أخذ المواقف انطلاقاً منها!

العصر الراهن هو عصر المنظومة العالمية لحقوق الإنسان. لسنا في الجنان طبعاً، فإنّنا على الأرض. لا يعني هذا أن المخاوف ممّا يمكن أن تؤول إليه أحوال الدول العربية بعد الانتفاضات غير مبرّرة بل على العكس، هي أمر طبيعي وضروري أيضاً. لكن هذه المخاوف يجب ألاّ تدفع إلى تفضيل المستبدّ على المجهول. أقصى ما يمكن أن يكونه المجهول الآتي هو أن يكون مستبدّاً.

الخوف مشروع ولكن يجب استثماره في البناء الديموقراطي، لا في استدامة الطغيان الذي يديم الخوف. إفراز الانتفاضات العربية أنظمة حكم غير ديموقراطية لن يكون نهاية التاريخ.

الخيار الوحيد الذي يتيح لأبناء المجتمعات المتنوّعة احترام كرامتهم البشرية هو خيار الديموقراطية التي تحترم التعددية الدينية والمذهبية والقومية، ولا تجعل من هذه التعددية مبرراً لاستبعاد البعض واستعباد البعض الآخر. أما خيار المحافظة على بعض الامتيازات أو استجداء بعضها بالتحالف مع مستبدّ على حساب كثيرين من المقموعين والمهانين فهو، أقلّ ما يمكن وصفه، خيار غير استراتيجي لن يديمه التاريخ المتحرك للشعوب. هذا الخيار هو خيار لاأخلاقي يجهل أصحابه أن زمن الأبارتهايد ولّى منذ عقود.

الفقه الإسلامي زاخر بالأحكام التي تحرّم القيام على الحاكم حتى إن كان مستبداً. لطالما فعلت هذه الأحكام فعلها في قمع العرب وغير العرب وفي معاناة المسلمين ممّن لا يتّبعون المذهب الرسمي، وغير المسلمين.

أن نرى هذا المنطق بصياغات غير دينية، لا يعني أننا ابتعدنا عن فقه الإستبداد. فقه الاستبداد يبدو أنه قادر على ارتداء أثواب كثيرة كان منها الديني ثم كان منها الإيديولوجي. والآن نرى رداء التحالف مع الاستبداد باسم الخوف على “الأقليات” ربما من غير قصد، لكن الأمور بخواتيمها.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى