خورشيد دليصفحات سورية

في خطورة صعود الراديكالية التركية/ خورشيد دلي

 

 

بعد سنوات من الحديث عن الطابع المحافظ لحزب العدالة والتنمية، على أساس أن ايديولوجيته قامت على التوفيق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد، تشهد تركيا تحولات اجتماعية وسياسية تقوم على معادلة التحالف بين الإسلام الردايكالي والتيار القومي المتطرف، خلافاً للهوية الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك) التي استندت إلى البعد العلماني، ولعل مثل التحول مرتبط بمسألتين أساسيتين. الأولى: التحولات التي شهدها حزب العدالة والتنمية خلال السنوات الماضية. والثانية: التحالف الذي نشأ بين الحزب والحركة القومية بزعامة دولت باهجلي والذي بات أردوغان يراهن عليه في الفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة.

إلا أنه وبغض النظر عن أسباب هذه التحولات فإن ما يحصل يؤسس لصورة جديدة لحزب العدالة والتنمية بعد سنوات من وصف تجربته بالنموذج، ولعل هذه النقطة تهم العالم العربي نظراً إلى العلاقة التي نشأت بين تجربة حزب العدالة والتنمية والحركات الإسلامية العربية.

لقد استبشر الإسلاميون لا سيما جماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي بنموذج حزب العدالة والتنمية في الحكم بوصفه نموذجاً يمكن الاقتداء به، إذ تم التسويق لهذا النموذج، فيما كان الحزب يتجه تدريجيا نحو السلطوية انطلاقاً من صناديق الاقتراع التي مكنته من السيطرة على الرئاسات الثلاثة (الحكومة– البرلمان– الجمهورية)، ومن ثم استبداله لسلطة المؤسسة العسكرية بسلطة حزب العدالة والتنمية التي تحولت إلى سيف قاطع في وجه كل من ينتقده حتى لو كان من باب مكافحة الفساد أو انتقاد تفرد أردوغان بالسلطة، وقد تعزز هذا الأمر بشكل كبير عقب الانقلاب العسكري الفاشل، ومن ثم الاستفتاء على الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي الذي أقر سلسلة تعديلات دستورية اعطت اردوغان سلطة شبه مطلقة. ولعل الأخطر من هذا النزوع السلطوي، هو ما أنتجته تجربة حزب العدالة والتنمية من بيئات شعبية حملت جاذبية التطرف على وقع التطورات الدراماتيكية في الجوار السوري والعراقي.

هذه الظاهرة، أي تحول (النموذج) المنشود إلى ظاهرة سلطوية تجلب التطرف والحكم الشمولي أثار تساؤلات كثيرة عن أسبابها وأهدافها ومآلاتها، ولعل من أهم التساؤلات المطروحة هنا، ما الذي يقف وراء جاذبية التطرف هذه؟ وهل يريد القائمون عليه استخدامه في ترتيب البيت الداخلي أو حتى في زيادة النفوذ الإقليمي للبلاد؟ وكيف يمكن أن تكون التداعيات على تركيا وأمنها وعلاقاتها وسياستها الخارجية؟

من دون شك، ثمة عوامل كثيرة تقف وراء هذه الجاذبية، يمكن وصفها بمفاهيم الإسلام التركي، وهي مفاهيم تختلف عن مثيلاتها في العالم العربي لجهة النشوء والأسباب والدوافع، ولعل من أهمها:

1– منذ تسلم حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002 ارتكن الحزب في سياسته إلى قاعدة شعبوية إسلامية توسعت تدريجياً، وخلال السنوات الماضية نالت هذه القاعدة كل الدعم والرعاية من حزب العدالة والتنمية تحت عناوين دعم المجتمع المدني، وقد ساهم هذا الدعم في فتح المجال واسعاً أمام انتشار عشرات المنظمات الإسلامية تحت عناوين الإغاثة ودعم المظلوم، وهي منظمات مارست عملياً الإقصاء ونشر التعصب الديني باسم التقوى، والبعض منها غالت في التطرف والانفلات عن كل قيد، اعتقاداً منها أنها تحقق ما يصبوا إليه حزب العدالة والتنمية في السر، فيما سكت الأخير عن كل ماسبق لأسباب انتخابية بالدرجة الأولى، باعتبار أن هذه الكتلة الشعبية تشكل صوتاً مضموناً في كل الاستحقاقات الانتخابية، وعليه فان تعزيز التيار الشعبوي تحت الشعارات القومية والإسلاموية والعثمانية التي يرفع اردوغان رايتها بات مطلوباً لأسباب انتخابية بالدرجة الأولى.

2- لعل ما سبق لم يكن بعيدا عن سياسة أردوغان الشعبوية، فالرجل الذي قال ان المسلمين أكتشفوا أميركا قبل كريستوفر كولمبوس، واستهزأ من معرفة الطلبة الأتراك اسم اينشتاين أكثر من ابن سينا، وقال للمعارضة التركية إننا سنعلم اللغة العثمانية في المدارس شاء من شاء وأبى من أبى، ويتحدث ليلاً نهاراً عن أمجاد السلاطين العثمانيين ويفتخر بأنه من أبناء هؤلاء ويطلق أسماءهم على الشوارع والساحات… هذه التصريحات وغيرها، صحيح أنها تزيد من كاريزما أردوغان الشخصية، كما أنها تروق للكتلة الانتخابية التي تصوت لحزب العدالة والتنمية، ولكنها أدخلت البلاد في جدل بيزنطي على شكل مواجهة مع قضايا الهوية والايديولوجيا والتي انتهت إلى إبدال الصراع التقليدي في البلاد بين العلمانية والإسلام السياسي إلى الصراع على الهوية، ومحاولة القضاء على التعددية السياسية والهوياتية عبر فرض ايديولوجيا حزب العدالة والتنمية على بنية النظام السياسي في البلاد بعد ان كان هذا الأمر من مهمات المؤسسة العسكرية التركية التي كانت تحكم البلاد باسم العلمانية والحفاظ على أسس الجمهورية التي أسسها مصطفة كمال أتاتورك قبل نحو قرن.

3- إن تركيا في عهد أردوغان اتبعت سياسة تدريجية في أسلمة الدولة والمجتمع، وتسخير هذه السياسة لصالح ايديولوجية حزب العدالة والتنمية ومشروعه السياسي الهادف إلى الانتقال إلى الجمهورية الثانية في عام 2023 كما هو مقرر، والتي اطلق عليها على نطاق واسع العثمانية الجديدة، وقد تبدى هذا الأمر في شكل كبير في التعليم، إذ حرصت حكومة العدالة والتنمية على إحياء التعليم الديني في شكل كبير وإطلاق المجال واسعاً أمام مدارس الإمام الخطيب التي تخرج منها أردوغان وتقريباً نصف أعضاء حزب العدالة والتنمية في البرلمان التركي، ولعل للأرقام هنا دلالة كبيرة ، إذ تقول الاحصائيات ان عدد طلاب مدارس إمام الخطيب ارتفع من خمسين ألف عام 2002 عند تسلم حزب العدالة والتنمية السلطة إلى أكثر من مليون طالب وارتفاع في عدد هذه المدارس بنسبة تجاوزت 175 بالمئة، وقد ترافقت الزيادة في اعداد الطلاب والمدارس إدخال تدريجي للتعليم الديني في المدارس والمناهج التعليمية بعد ان كان ذلك ممنوعا طوال العقود الماضية. ولعل الهدف الأساسي هنا هو تأسيس جيل من الايديولوجيين التابعين لحزب العدالة والتنمية ودفعهم إلى استلام مؤسسات البلاد السياسية والعسكرية والادارية.

4- بموازاة هذا النزوع نحو التطرف والسلطوية، تشهد تركيا مؤشرات خطرة في اتجاهين. الأول : التضييق الكبير على حرية الصحافة والمؤسسات الصحافية تجسدت في حملات اعتقال لعشرات الصحفيين واغلاق مؤسسات صحافية ومحاصرتها بالضرائب والاجراءات الادارية، وهو ما أثر في حرية الصحافة ومفاهيم الديمقراطية والتعددية إلى درجة أن بعض التقارير الصادرة عن المنظمات المعنية بحرية الصحافة باتت تصف تركيا بأكبر سجن للصحافيين في العالم. الثاني: ولادة تنظيمات متطرفة، البعض منها لها طابع عسكري ولا سيما ما أطلق عليه الانكشاريون الجدد والذي يعتبره البعض الجناح العسكري لحزب العدالة والتنمية وقد برز دور هذا الجيش بقوة خلال فترة الانقلاب العسكري الفاشل، وكذلك عودة حزب الله التركي إلى الساحة في المناطق الكردية، وهو التنظيم الذي قام بعشرات عمليات الاغتيال للمثقفيين والحقوقيين والناشطين خلال فترة الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي، وقد سجلت هذه العمليات تحت اسم فاعل مجهول.

من الواضح، أنه إذا كان صعود الراديكالية التركية في الداخل له علاقة بالسعي إلى تغيير هوية المجتمع والدولة والتخلص من الهوية الكمالية، فإنه على مستوى الخارج يحمل نزعة خطرة تقوم على الصدام القومي والحضاري في جوار متداخل جغرافيا وتاريخياً واجتماعياً.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى