صفحات الرأي

قوانين الطوارئ أو الجسد العربي المهان


منى فياض

كأن كتاب “حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي” (■) عبر معالجته لحالات الاستثناء او ما يعرف بقوانين الطوارئ ، كان تمهيدا موفقا لفهم الأحداث التي تعصف بمختلف البلدان العربية منذ انطلاق ما تم التعارف على تسميته “الربيع العربي”.

تشكل دراسة القانوني عبد الحيّ سيد: “حالة الاستثناء ومقاومتها: مقاربات قانونية – اجتماعية للمجتمع السوري”، مرجعا ممتازا لفهم ما يجري في سوريا.

يفرق الباحث بين حالة الطوارئ المنبثقة عن القانون وحالة الاستثناء السابقة على أي قانون. في الحالة الاولى هناك حدود واضحة للاستثناء يضبطها مبدئيا القانون. بينما تكون الحالة الثانية ممتدة من دون حدود ولا ضوابط؛ فحين تعلّق القوانين وتستباح حقوق المواطنين، يصبح الدستور والمؤسسات مجرد غطاء لسوء استخدام السلطة بدل ان تكون لحماية المجتمع.

تميزت الصياغات النظرية التي برزت خاصة مع كارل شميت في مرحلة الحرب العالمية الثانية بالتركيز على افتراض وجود حاكم سيد مطلق في الدولة يتمتع بأوسع السلطات السيادية. ومن هذا المنطلق النظري يعتبر الحاكم هو الأساس والمرجع لنشوء الدولة وضمان وجودها واستمراريتها؛ كما تعتبر ارادته والسلطة التي يتمتع بها هي المنشئة للقانون والدستور. هو وحده الكفيل باستمرار العمل بالدستور. كما انه القادر وحده على تعليق العمل بالقانون للدخول في حالة الاستثناء.

من هنا يمكن التمييز بين حالتين: حالة الطوارئ التي ينص عليها القانون والدستور وحالة الاستثناء ما قبل القانونية والتي يستفرد فيها الحاكم بالمجتمع.  في العالم العربي تحوّل الافتراض النظري واقعاً يطبق بحرفيته، وبناء عليه يصبح توصيف الوضع في الدول العربية وفي ظل قوانين الطوارئ أنه العيش في حالة ما قبل قانونية، حالة استباحة إرادة الحاكم التامة للمجتمع دون اي حرمة . انها تسلط الحاكم الفرد المطلق حيث لا ضابط ولا قانون يردعه سوى ارادته الخاصة. وما أسهل ما تكون هذه الارادة عبثية.

تفيد التجربة السورية عند التحليل المعمق للدستور السوري أنه صيغ لكي يحقق الغلبة التامة لحالة الاستثناء ولسلطات الحاكم المطلقة على الدستور. وبدل ان يشكل الدستور المنطلق والاساس للحكم، جرى مسخه الى جملة قواعد يستخدمها الحاكم كأداة سيطرة وتكتيك سلطة لفرض الانصياع على الجموع. وفيما يمكن مجلس الشعب إجراء تعديل دستوري يسمح بانتخاب وريث للرئيس الراحل الاسد خلال أقل من نصف ساعة يتذرع الحاكم “المنتخب” على هذا الاساس بالدستور نفسه الذي يمنعه من إجراء الاصلاحات المطلوبة من الجماهير السورية المنتفضة بالسرعة المطلوبة!!

يعامل الافراد في ظل هذه الحالة على انهم كائنات مستباحة بلا كيان ولا حرمة قانونية. مجرد اجساد لا إرداة لها.

هنا تبرز أهمية مفهوم البيوبوليتيك الذي اعتمد عليه لتأليف الكتاب المذكور، والذي أتاحت الثورات العربية تظهير فائدته وأهمية عمل أغامبن على هذه المسألة.

يقدم أغامبن جينولوجيا لمفهوم الحياة ولاستخداماتها السياسية  من حيث توقف فوكو، وسوف يستخرج مفهوم الحياة العارية، الحياة البيولوجية التي سوف تسمح له بتحليلها كنتاج لبنية ميتافيزيقية وسياسية محددة.

تتأسس المهمة النظرية لأغامبن على رهان: انه يمكن النظرية السياسية ان تلتقط شيئا من التجارب التوتاليتارية للقرن العشرين بواسطة مفهوم الحياة وفي مساءلة تعريفها، وخاصة في الانتاج السياسي للحياة العارية. وهكذا استخرج الكاتب وجود “بنية للاستثناء” لانتاج الحياة العارية أو ما يعرف بالبيوبوليتيك.

توصل أغامبن الى اكتشاف بنية الاستثناء هذه من طريق مساءلة التجارب البيوسياسية للرايخ الثالث خاصة في معتقلات التعذيب: كيف توصلت الحياة لأن تصبح موضوعاً للسياسة؟ كانت بقايا أوشفيتز المتاحة هي الطريق المفضي الذي سمح له بمقاربة هذا الموضوع الثقيل. ما هي العلاقة بين السياسة والحياة اذا كان بالامكان نزع كل قيمة عنها بواسطة قرارات سياسية؟  تنزع القيمة عن الحياة بالتحديد بسبب القيمة التي أعطيت لها بالدرجة الأولى.

كيف يفيد هذا المفهوم في فهم آليات سيطرة الأنظمة العربية: السلطة السيادية  والبيوسلطة؟ ما يقترحه اغامبن يشكل استعادة، لسؤال السلطة كما طرحه فوكو وإعادة تعريفها على مستويين مترابطين، ذلك المتعلق بنمط ممارسة السلطة وبنمط الاستيلاء عليها. لأن ما يمنعنا من ضبط آلية عمل السلطة هو تحديدا تقديمها تحت عنواني القانون والسيادة. الأمر الذي يمنع أي اعتراض عليها. بهذا المعنى تتضمن فرضية البيوبوليتيك حول السلطة نقداً لنماذج الالتماس التقليدية وللسلطة كسلطة سيادية غير قابلة للمساس. وفي هذا استعادة لفرضية فوكو لكنها وظفت في المجال الذي أهمله، أي السيادة. فالسيادة برأي أغامبن لا تطول الأفراد من الزاوية القانونية، لكنها تطول “الحياة عارية” بشكل خفي، فتعرّضها بواسطة السلطة الاستثنائية المفروضة الى العنف والى قراراتها السيادية التعسفية وتخضعها وتصنفها وتحدد قيمتها، جاعلة إياها بلا قيمة. والحياة العارية المأخوذة من منظار الاستثناء، تغذي سير عمل السلطة السيادية فتتركز هذه وتحافظ على نفسها من طريق انتاج مستمر “للجسد البيو بوليتيكي” الذي تمارس سلطتها عليه.

البيوبوليتيك تعبير كان موجودا منذ بدايات القرن العشرين، لكنه اتخذ مع فوكو معناه المفهومي الدقيق: فاعتنى بتحديد مجاله التطبيقي خاصة في كتابه “إرادة المعرفة”. وهكذا تحققت هوية البيوبوليتيك نفسها، البيوسلطة صارت امتلاك  أو إدارة أو امساك بكل ما له علاقة بالوجود البيولوجي للفرد وللسكان، منفردين وجماعات. وهذا ما تحقق بشكل تام في المجتمع الرقابي- الانضباطي في القرن التاسع عشر ولذا تركز عمل فوكو حول الجنون والسجن والصحة والسلطة الرعوية وتطور الخطاب بصلته بالممارسات الاجتماعية. وبما أن ممارسة الحجر هي القاعدة، قام فوكو بدراسة: المدرسة والمصنع والمستشفى والثكنة.

طبّق الحكام في العالم العربي القواعد الذهبية لإخضاع الجسد البيوبوليتيكي العربي، عبر اعتماد أقصى درجات القمع والتعذيب والسجن والنفي . في نقدهم  لمجتمعاتهم نجد الفلاسفة الغربيين يركزون على امتداد السيطرة عبر الرأسمالية، ليس فقط على الجسد بل على الذات وعلى الذهن.

وهذا ما صار ينطبق الآن على الفكر الانساني وهو ما يسجل دخول مرحلة البيوبوليتيك الثانية. ففي الوضع الراهن نجد ان الرأسمالية استوعبت ذاتية الكائن بمجملها: الوجود والرغبة والانفعالات والابداع والذكاء… فهذا هو الرأسمال الانساني الضروري لتشغيل الرأسمالية الراهنة. اصبحت السيطرة اكثر تعقيدا وذهنية أكثر. والأنظمة العربية المتخلفة على جميع الصعد خاصة على الصعيد الاقتصادي والفني، سرعان ما استطاعت استخدام أكثر آليات القمع تطوراً، وأكثر ما تمثل ذلك في آليات الاذلال والتحقير وسحق الكرامات والارادات التي استخدمتها الانظمة العربية تجاه شعوبها؛ وهذا ما تمت الاشارة إليه منذ اليوم الاول للثورات عبر شعار “الشعب يريد”، وفي سوريا: الشعب السوري “ما بينذّل”، الشعب السوري “ما بينهان”.

هذا الشعور العميق بالخضوع للسيطرة عبر الاذلال والاهانة يكفي وحده لتفسير الثورات. رفض الاهانة التي أجاد وصفها الكاتب حسن خضر: ذل ابتلاع الاهانات في مجمل جوانب الحياة اليومية من دون أي قدرة على الرد؛ الاهانة من قبل شبيحة النظام الشمولي؛ الاهانة عبر تلقي وجبات الكذب والبروباغندا اليومية على التلفزيون وفي الصحف والتظاهر بتصديقها؛ إظهار الاحترام لمن نحتقر بل الاضطرار الى مديحه ايضاً؛ الاحساس المطلق بالعجز… لقد أهين الشعب السوري طويلاً، وأهينت الشعوب العربية طويلاً. فلا تنتظروا العودة الى الوراء.

(■) “حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي” – مجموعة من الباحثين – مركز دراسات الوحدة – بيروت 2010.

(                     أستاذة جامعية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى