صفحات العالم

كي لا يصبح السوريون فلسطينيين جدداً/ ماجد كيالي

 

 

لا شكّ أن معظم السوريين يواجهون هذه الأيام أوقاتاً صعبة مع التصريحات الصادمة الصادرة عن بعض قادة الدول الغربية، التي مفادها إمكان التعامل مع الرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية، أو التي تعتبره شريكاً محتملاً في الحرب على الإرهاب.

حقاً، ثمة ما يبعث على الغضب، فهكذا كلام يشي بتنكّر لقضية السوريين، وجوهرها التخلص من نظام الاستبداد والفساد، واستعادة حقوقهم، كمواطنين أحرار متساوين، بتحويلها الى قضية انسانية وقضية لاجئين. ثم أن الكلام عن إشراك الأسد في الحرب ضد الإرهاب ينمّ عن إمكان منحه بطاقة سماح، رغم العذابات والأهوال التي أذاقها للسوريين، والتي نجم عنها مصرع قرابة نصف مليون منهم، وتخريب عمرانهم، وتشريد غالبيتهم، فضلاً عن أنه يتجاهل دور الأسد، وشركائه في العراق وإيران، بالتسهيل لـ «داعش»، لاستخدامه في إضعاف ثورة السوريين، وعزلها، ووصمها بالطائفية والإرهاب. وقد شهدنا أن «داعش» قاتل جماعات «الجيش الحر»، أكثر بكثير مما قاتل النظام، بينما سكت هذا الأخير عنه قرابة عامين، وهو يتحرك في قوافل سيارة بين باديتي الشام والعراق، منتزعاً منطقة تلو الأخرى. والأهم لمناسبة الحديث عن الإرهاب أن نظام الأسد ارتكب جرائم تفوق بمئات المرات الجرائم التي ارتكبتها الجماعات الارهابية، وضمنها «داعش»، كونه يمتلك قوة نيران، أكبر وأكثر فتكاً وأوسع انتشاراً، سيما مع استخدامه القصف بالمدفعية والطيران والصواريخ والبراميل المتفجرة.

والحال فإن مشكلة الثورة السورية، وهي مشكلة معظم السوريين، الذين يتوقون للخلاص من نظام جثم على صدورهم قرابة نصف قرن، لا تكمن فقط في الإطار المحيط، الدولي والإقليمي والعربي، وانما تكمن أيضاً، في جماعات المعارضة ذاتها، ربما قبل أي أحد آخر.

هنا ينبغي الحديث بصراحة وأمانة ومسؤولية، ولو انها مؤلمة، إذ لم يعد ينفع الإنكار ولا المكابرة، ولا الحديث بالرغبات، فنحن نقف اليوم ازاء واقع كارثي، وهو واقع لا يبعث على اليقين، ويخشى حقاً من استمراره إذا ظلّت الأحوال على ما هي عليه. فبعد خمسة أعوام تقريباً على اندلاع الثورة، أو الانتفاضة، ما زالت هذه الثورة تنتج طبقة سياسية متماسكة، تحظى بإجماع السوريين، وتنال احترامهم. هذا أولاً. ثانياً، لقد نجح النظام بإخراج غالبية السوريين من معادلات الصراع، بفرض الحصار على بعضهم وتشريد بعضهم الآخر، وإشغال قسم كبير منهم بتدبر عيشه في ظل فقدان مصادر الدخل والبيت والأمن. ثالثاً، لم تعد المسألة تتعلق فقط بثورة في مواجهة نظام، إذ باتت تتعلق اكثر بالصراعات الدولية والاقليمية والعربية على سورية، الأمر الذي ينبغي الانتباه إليه، وإدراك مفاعيله، للتقليل من مضاره أو لتغيير مساره. رابعاً، لم تعد القضية السورية بيد السوريين، إذ باتت بيد الفاعلين الخارجيين، الدوليين والاقليميين والعرب، بحيث باتت المسألة تتطلب إيجاد حد أدنى من تماسك السوريين لفرض ذاتهم في هذه المعادلة الصعبة والمعقدة.

المشكلة ان الطبقة السياسية السورية المتشكّلة (في مكونات «الإئتلاف الوطني»)، رغم حداثتها، وضعف تجربتها وخبراتها، وهشاشة مكوناتها، أغلقت أبوابها، بينما كان الأجدى لو اعتبرت ذاتها بمثابة حاضنة للجميع، أو ممهداً لقيام جبهة وطنية سورية، وانها اعتقدت ذاتها بمثابة قيادة ناجزة للسوريين، في حين كان الاصوب لو أنها اعتبرت نفسها معبّراً رمزياً عنهم، وإدارة لأحوالهم إزاء الخارج، كما أنها تسرّعت وتصرّفت كأنها بمثابة وصية على كفاحهم، وتمتلك حق احتكار تمثيلهم، في حين انها تستمد شرعيتها من الإطار الخارجي، الدولي والعربي، «الداعم» لها، اكثر مما تستمدها من السوريين أنفسهم.

أيضاً، تكمن مشكلة هذه الطبقة في أنها لا تمون على الجماعات العسكرية، التي باتت بمثابة اقطاعيات في مناطقها، وأنها لم تدرك معنى، أو تبعات بقائها في الخارج، وعدم قدرتها على الانتقال الى الداخل، ما يتناقض مع كلامها عن فقدان النظام السيطرة على 60 او 70 في المئة من البلد، وأنها لم تقم بأي خطوة لتنظيم السوريين، في المجتمعات التي باتوا لاجئين فيها، في تجمعات كبيرة، في الدول الغربية، لاستثمار طاقتهم، وهو أمر متاح لها، وانها لم تنجح في إقامة مؤسسات أو إطارات جامعة، سياسية أو إعلامية أو إغاثية أو مدنية أو على أي صعيد، من دون التشكيك بالجهود التي بذلت، ومع التقدير لكل ما هو موجود.

الأهم أن هذه الطبقة ظلت طوال الفترة السابقة عاجزة عن إدراك مغزى وتبعات التحولات الحاصلة في الثورة والمجتمع السوريين، وطريقة عمل النظام، وأغراض القوى الخارجية الفاعلة في المشهد السوري، وانها لم تكلف نفسها عناء دراسة الاساليب التي يستخدمها النظام، للحد من تأثيراتها، او لتفويت استهدافاتها، كما لم تدرس تبعات النقلات غير الطبيعية للثورة، ودرجة استعداد شعبها لها، ومدى ملاءمتها مع الامكانات، وجدواها.

ومثلاً، فمنذ إدخال النظام للجيش، بعد الشبيحة، لوأد الحراك الشعبي، تحت شعار: «الأسد أو نحرق البلد»، لم تتفحّص المعارضة كنه هذا الشعار، وتبعاته على مجتمع السوريين. بل استخدمته فقط في اطار فضح النظام، من دون تمثّل كيفية الحؤول دون تمكينه من تدمير البلد، وتمزيق المجتمع، وتخريب البيئات الشعبية الحاضنة، وتشريد سكانها، وتالياً تحويل الثورة الى كارثة أو خراب عميم. هذا كان يحتاج الى استراتيجية عمل مختلفة، وأشكال مختلفة من الصراع، تتجنب إقحام الجيش، أو القصف المدفعي والصاروخي والبراميل المتفجرة، والخروج من فكرة الثورة الناجزة، أو بالضربة القاضية، التي ثبت ان الوضع ليس مهيأً لها. ومعلوم انه في هذه اللحظة، أو هذه النقلة الثورية كان السوريون انتقلوا الى حالة جديدة، فقد كسر حاجز الخوف، وكسرت فكرة «سورية الأسد الى الأبد»، وفقد النظام هيبته.

المغزى أن الأمر هنا لا ينحصر بالسؤال عن جدوى العمل المسلح، وإنما عن جدوى التحول نحوه من دون نضج بنى الثورة، أو تطور مساراتها، ومن دون توافر إمكاناته، ما أدى إلى الوقوع في شراك الاعتماد على هذه الدولة أو تلك، وجعل الحراك السوري مرتهناً لأجندة مختلفة، وأخضع العمل العسكري، بمستوياته وجغرافيته، لسياسات الدول الداعمة، أكثر من خضوعه لمصالح السوريين. هذا يشمل السؤال عن جدوى التسرّع في التركيز على نهج معين من العمل العسكري، يتمثل في السيطرة على مدن أو مناطق، من دون توافر الأدوات التنظيمية، ومن دون حيازة وسائل الدفاع عنها، أو تأمين مستلزمات سكانها، الأمر الذي أفاد النظام بالتخلص من الاحتكاك مع البيئات الشعبية المعادية له، وفرض الحصار عليها، وتحويلها الى حقل رماية لمدفعيته وبراميله المتفجرة. علماً ان المناطق «المحررة» هذه باتت تخضع لإدارات عسكرية، تفرض سلطتها وتصوراتها على الناس بالقوة، بل انها لم تتحمل النشطاء الذين حملوا الثورة في البدايات، بحيث أنها لم تبد كمناطق محرّرة حقاً، وتالياً فهي لم تستطع ان تقدم ذاتها كنموذج أفضل في مواجهة النظام، وهذه كارثة أو خيبة أمل أخرى للسوريين.

واضح من هذه الأسئلة ان المعارضة لم تكن في وارد دراسة عقلانية لما يحصل، فهذا أكبر من قدراتها، ثم انها كانت متسرعة للتخلص من النظام، معتبرة لحظتها المواتية، مع اغراءات التغيير السريع في تونس ومصر والتدخل الدولي في ليبيا، ومع اشارات الرئيس التركي أن «حلب خط أحمر»، وذهاب سفراء الولايات المتحدة وفرنسا الى المعتصمين في ساحتي النواعير والساعة في حماة وحمص، وكلام أوباما ان الأسد فقد شرعيته.

ومن الأصل، فإن المعارضة لم تنتبه إلى أن التحول نحو الخطاب الديني يأخذ البلد نحو الطائفية، وتمزيق مجتمع السوريين، ويؤدي الى ضرب صدقية الثورة، ويضر بشرعيتها، كثورة ضد الاستبداد، ويضعف قدرتها على توحيد السوريين، فضلاً عن انه يخدم النظام، الذي حرص منذ البداية على الترويج إلى انها ليست ثورة سياسية وانما حرباً أهلية طائفية ودينية. وهكذا وصلنا الى ظهور جماعات اسلامية متطرفة لا تحسب نفسها على الثورة، ولا تعترف بمقاصدها، ووجود جماعة تابعة لـ»القاعدة»، وأخرى تعتبر نفسها «دولة اسلامية في العراق والشام»، مع قادة من تونس والاردن والسعودية والكويت والشيشان، والأخطر من كل ذلك ان خطابات هذه الجماعة ازاحت خطابات المعارضة السورية، وطبعتها بطابعها.

الآن، يواجه السوريون، ومعارضتهم السياسية والعسكرية والمدنية، أربعة تحولات، أو أخطار: أولها، تتعلق بمحاولات التغيير الديموغرافي في سورية، الذي تشتغل عليه إيران، وهو ما تجلى في فرض هدنة قوامها كفريا والفوعة مقابل الزبداني ومضايا. وثانيها، دخول روسيا على الخط وارسالها قوات عسكرية للدفاع عن نظام الأسد. وثالثها، تحول القضية السورية الى قضية انسانية أو قضية لاجئين. ورابعها، محاولة بعض أركان النظام الدولي تعويم الأسد.

الفكره هنا ان المعارضة السورية ما زالت قاصرة عن ادراك مغزى وتبعات هذه التحولات، ومتخلفة عن مواكبتها، ورافضة لإجراء أي مراجعة لمسيرتها، وهي مشغولة في لوم العالم اكثر مما هي مشغولة في بناء إطاراتها، ومشغولة بخلافاتها الداخلية اكثر مما هي مشغولة في مراكمة قوى شعبها، واستثمار طاقته في مواجهة النظام.

في الغضون لعل الأجدى للمعارضة ان تدرك ان الصراعات السياسية لا تشتغل وفقاً للحقيقة والعدالة، ولا بالتضحيات فقط. خذوا قضية فلسطين مثالاً، وهذا لا يقلّل من مشروعية ونبل ثورة السوريين، ولكنه دعوة للتوقف عن ترداد نفس الخطابات، والعمل بطرق مختلفة، وبعقليات منفتحة ومختلفة عن السابق، كي لا يصبح السوريون بمثابة فلسطينيين جدد.

* كاتب فلسطيني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى