صفحات الثقافة

لسان مقطوع… وسجون

 


عبده وازن

قطع رئيس إحدى القبائل في اليمن لسان الشاعر وليد الرميشي عقاباً له على هجائه القبيلة التي يقال إنها تنتمي الى المعارضة اليمنية. الشاعر هذا يقول الشعر قولاً أو يلقيه ولو أنه يكتبه فقط لقطعوا أصابعه. الشعر الشعبي أو النبطي أنقذ أصابعه لكنه لم يحفظ لسانه. وفيه وجد الرئيس علي عبدالله صالح مادة للتندّر السياسي والهجوم على خصومه. مع أن الشاعر، بحسب بيان اتحاد الكتّاب اليمنيين، عبّر عن رأي حرّ في الأحداث التي تشهدها بلاده، فلم ينحز الى جهة دون أخرى، بل هجا الإجرام على اختلاف مصادره. استنكر اتحاد الكتّاب هذه الجريمة الخطرة التي «أخرست» الشاعر الشعبي، والجرائم الأخرى الأخفّ وطأة التي تعرّض لها الكثير من الكتّاب والكاتبات في الجهتين المتقابلتين. أما الشاعر الذي قطع لسانه فهو لن يستسلم حتماً وسينتقل الى الكتابة ليعلن المزيد من غضبه على الظلم الذي يحصل.

ولئن نجمت هذه «الجريمة» عن إحدى القبائل التقليدية، فهي تظل مستغربة ومستهجنة جداً. كان في وسع «الزعيم» أن يقتل الشاعر ببساطة، لكنه كان أشد حنكة وخبثاً، قطع لسانه وتركه حياً، يتعذّب ويتألم متذكراً دوماً هذا العقاب الآثم. هذه طريقة وحشية في معاقبة «الخصوم». إقطع لسان خصمك ودعه حياً ولكن عاجزاً عن الكلام. كانت الرؤوس تقطع وما زالت. وكذلك الأيدي والأصابع… ثم باتت تقطع (أو تجدع) الأنوف، والآن الألسنة. واللسان بحسب العرب هو اللغة أيضاً واللهجة… هو الكلام الذي يؤكد إنسانية الإنسان ويجعله فرداً داخل جماعة. هذا إرهاب جديد: اصمتوا أو قطعنا ألسنتكم! هذا حصل في اليمن وعلى يد زعيم إحدى القبائل.

في الأيام الأخيرة أيضاً فتحت أبواب السجون في سورية. وقيل إن خيماً نصبت داخل أسوار راحت تستقبل المتظاهرين الذين قبض عليهم بعدما ضاقت الزنزانات، على وفرتها. وبين المتظاهرين الذين سجنوا مثقفون وكتّاب حتماً لم نعلم إلا ببضعة أسماء منهم. لكن الكاتب عمر كوش سجن لدى عودته الى وطنه. قبض عليه في المطار للفور. لم يتركوا له بضع ساعات ليزور عائلته ويشعر أنه عاد الى بيته كما يقتضي فعل العودة. عاد الى السجن وكأن السجن بات رديفاً للبيت والعائلة. ولا أحد يعلم أين هو الآن، هذا الكاتب المسالم والمثقف الذي لم يمتهن إلا الكتابة. والقرّاء يعرفون أنه لم يكتب إلا في حقل الحضارة والتاريخ الحضاري والأدب والفكر. قبض عليه لأنه كان آتياً من مؤتمر عقد في تركيا حول التاريخ. هل بات العيش في التاريخ ممنوعاً أيضاً؟ ألا يكفي طرد المثقفين من واقعهم؟ الخوف ألا يقع عمر كوش ضحية «سوء فهم» – كما يقال – فتتلاعب به أيدي الأجهزة وترميه في ما يشبه المتاهة. لا يستحق هذا الكاتب السوري، مثله مثل الكثر من المثقفين ومنهم فايز سارة، أن يسجن ويذل ويعذّب…

في المغرب أيضاً سيق الشاعر والصحافي رشيد النيني الى السجن لأسباب غير جرمية طبعاً، إلا إذا باتت المقالات تصنّف في خانة الجرائم كالقتل والاغتصاب والسرقة و «العمالة»… رشيد النيني شاعر من الشعراء الشباب في المغرب الذين أحدثوا ما يشبه «الانقلاب» في مسار الشعر المغربي، متمرّدين على القصيدة التقليدية، البلاغية واللفظية، خالقين شعريتهم الجديدة والحية، المنفتحة على هواء الحياة وشمس العالم… يذكر قراء الشعر المغربي ديوان رشيد النيني «قصائد فاشلة في الحب» الذي كرّسه شاعراً ذا نبرة فريدة، احتجاجية، تقتحم المطلق بحثاً عن معادلات شعرية نابعة من الواقع البشري المفتوح على الحلم والمخيلة. وكما عرف رشيد بجرأته الشعرية عرف بجرأته كصحافي يكتب بحرية ولا يهاب العواقب مهما كانت وخيمة. لم أقرأ المقال الذي أودى به الى السجن، لكنه حتماً لم يتجنّ على أحد ولم يزوّر أو يدّع أو يكذب. من يعرف رشيد النيني يعلم جيداً أن هذا الكاتب هو من فئة المثقفين الحالمين والملتزمين الذين لا يداهنون ولا يهادنون أياً تكن كلفة عنادهم.

من قطع اللسان الى فتح أبواب السجون… ولا أحد يعلم ماذا سيطرأ على القائمة «السوداء» من أفعال أشد شناعة. لكن السجانين يعلمون جيداً أنهم مهما سجنوا وصادروا من حريات سيظلون عاجزين عن القضاء على الحلم، الحلم والمخيلة، وعلى الرجاء والأمل، الأمل الذي لا بد منه كي تصبح الحياة قابلة للعيش.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى