صفحات مميزةعزيز تبسي

لم يبق في الميدان غير حديدان: عزيز تبسي

عزيز تبسي

في واحدة من أغنياتها العاطفية الأثيرة على قلوب المراهقين والمراهقات،طالبت المطربة”لطيفة”بكلام حازم لا لبس فيه،أن يكون الغرام واضحاً في كلامه ولونه،أبيض أو أسود،وأدانت بحزم اللون الرمادي في كل من الغرام ومسالك الغلام،وهذا شأنها وحقها على كل حال.

-1-

ونحن من فئة الثوريين الراعفين بالحرية،نطالب تلك “القيادات”السياسية التي وفرت لها شروط الأمر الواقع ،إذاً لا الجدارة ولا الكفاءة ولا الكفاحية،قيادة العمل السياسي،أن تحدد بوضوح موقفاً أبيض أو أسود،فإن كانت قد طرحت على نفسها مهمات عاجزة عن تنفيذها،ينبغي أن تخفضها بعجالة ودون نأمة،وأن تقوم بنقد ذاتي علني أمام الجمهور الإفتراضي التي تزعم أنها تمثله وتعبر عنه،وإن عولّت ضمناً في تنفيذ تلك المهمات على تدخل إمبريالي أطلسي ،وهذا يندرج بلا لبس في باب الخيانة الوطنية وله حديث آخر،وقام هذا الأخير عبر موظفي الدرجة الثالثة المكلفين بمتابعة شؤون هؤلاء المعارضين “بالضحك عليهم”وخذلانهم واللعب بهم،كما لعب بمعارضات أذكى منهم وأكثر خبرة وتنظيم وتمثيل ميداني وفعالية،عندما رهنت نفسها للمشروع الإمبريالي، كمنظمة التحرير الفلسطينية من1987حتى اليوم،والمعارضةالعراقية1993 -2003….وتسبب تخطيط وإقصاء وتمويل هؤلاء الموظفين المختصين في تقويض الثورات، بقلب موازين القوى داخل تلك الحركات والتجمعات والمعارضات،بعد كشفها وسبرها وتعقبها،ذللت كل الموانع لصعود وتأهيل حركة حماس الفلسطينية وجماعات إسلامية أخرى لتلعب دوراً بارزاً في المرحلة اللاحقة وتمكينها من إحتلال المواقع الأساسية التي كانت بحيازة منظمة التحرير،الحركة التي لم يكن لها وزناً مهماً قبل الإنتفاضة الشعبية1987وكانت قد أعلنت موقفاً سلبياً منها.كذلك تذليل العقبات أمام صعود قوى طائفية في العراق،كانت بلا وزن قبل 1993،حيث كان الحضور طاغياً لثلاث قوى بارزة المجلس الأعلى للثورة-الحكيم-والحزب الشيوعي العراقي-عزيز محمد-والإتحاد الوطني الكردستاني-جلال طالباني،ليصعد بعدها بقوة حزب الدعوة والحزب الإسلامي-الأخوان المسلمون العراقيون-وتجمعات عشائرية…الخ

لابد من تَذّكرْ وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر ومن “عَوّل “على سياسته وذكائه ودهائه،وهو يقارب أوضاع المنطقة العربية بعد حرب1973،عمل هذا الرجل على حزمة من الإجراءات السياسية،ساهمت بعمومها بتفجير المنطقة وإعادتها عقود نحو الخلف:إستبعاد الإتحاد السوفياتي عن المشاركة بأي حل للأزمة المترتبة عن الصراع العربي الصهيوني/تجاهل منظمة التحرير الفلسطينية/عزل سياسات مصر عن عمقها العربي…./دفع الوضع اللبناني إلى الحرب الأهلية/تفجير الوضع العراقي عبر إيران الشاه والقضية الكردية..

-2-

رغم حضور بعض من وجهائها،وهم غير رجال الإنتفاضة وشبابها ونسائها للمؤتمرات التي يرعاها رجال صهاينة،وتبركهم ببول المبادرات الخليجية وتمسحهم بكل المرتكزات الإمبريالية في المنطقة العربية،وإقتناعهم بالعدالة والحرية الإنتقائيتن،وإنتاجهم وتسويقهم لخطاب طائفي مضاد يرضي حواضن المداجن الفكرية الصهيونية-الإمبريالية-الرجعية العربية،وخيانتهم لقضية الشعب الكردي في إرضاء واضح”لحليفهم” أو راعيهم التركي،وحين كانت الجموع المقهورة المحاصرة تهتف”ياالله مالنا غيرك”كان هؤلاء يهمسون في الغرف المغلقة لمن يتخيلونهم عن جد لاعن هزل حلفاؤهم”ياناتو مالنا غيرك “،خلصنا من هذه الورطة التي صارت رغم مشيئتنا ثورة،والناتو سيأخذه الحنان، بعد أن يستمع عبر صغار موظفيه وهم ينقلون نقيق وإستجداءات هذي الدجاجات.

دعنا نقول بوضوح لا يقبل الدحض،أنه لا الطغمة العسكرية هي من إنكشف أمام الشعب في سيرورة الإنتفاضة الشعبية الثورية فحسب ،بل معارضتها التقليدية من المجلس الوطني على وجه الخصوص،لكون الآخرين لا يمكن إعتبارهم معارضة مهما وسعنا حدودها وضيقنا أفقها التحرري.

ويبقى المنبر الديموقراطي صوتاً سياسياً رصيناً بثقل أخلاقي حي،لكنه بلا قوى فاعلة تسانده على أرض الصراع الميداني وتحتفي بمقولاته وإطروحاته .ولكون الصراع السياسي يستلزم عناصر قوة من خارجه،كتسييل أموال الريع النفطي،والمستشارين المتعددي المهام وتوفير المنابر الإعلامية وتمويلها …التي تتكفل بمجموعها بتحويل القرود إلى نجوم زاهرة في سماء إستنبول والقاهرة.

إنكشف على سبيل المثال أن لا الطغمة العسكرية تتفسخ وتتشقق وتخترق بل القوى السياسية التقليدية كذلك،لأسباب لا علاقة لها بمقاربات الوضع الثوري وشروطه وإحتمالاته إنما بأثر من ترسبات الثقافة الإقطاعية بحمولاتها الطائفية والعشائرية والمناطقية والوعي المفوّت المنبثق عنهم، وتمحور الزعامات على أفراد وجماعات بعينها،وجاذبية المراكز المالية العربية ودخولها بسهولة إلى هذه المعارضة من بوابتها المفتوحة على مصراعيها والعمل على سبر حدودها لإحتوائها وتفتيتها من داخلها،دون الإكتراث عما يسببه هذا التشقق من آثار على الإنتفاضة ومركز جذبها ووحدة أهدافها،وتبين إستعدادهم وجهوزيتهم لتحويل كل القضايا إلى سلع قابلة للبيع والشراء والمساومة،وانه ليست الطغمة العسكرية فاسدة فحسب ،بل هؤلاء كذلك يتلقون الرشى ويتمتعون بها،ويسرقون الدعم الآتي للإنتفاضة ويبددونه على أعوانهم وغلمانهم وصويحباتهم لتعميق تبعيتهم،ويسوّقون أناس فاسدين ويدفعون بهم إلى صدارة المشاهد السياسية والإعلامية،وباتت تتضخم ملفات فسادهم المالي وألبومات صورهم في الملاهي الليلية ونزهاتهم وبذخهم……ولا يعلم هؤلاء أن تلك الملفات باتت على أرفف أجهزة مخابرات الدول التي يقيمون فيها(تركيا-مصر-قطر-السعودية-أمريكا-فرنسا..)وأنها ستستخدم لإبتزازهم في اللحظة المناسبة والضغط على قوى الإنتفاضة من خلالهم،لإنتزاع مواقف سياسية محددة.

يبقى هؤلاء أصغر بكثير من الإنتفاضة الشعبية الثورية،سقفهم السياسي ومثالهم الأعلى غدى معروفاً وبيناً لمن يريد التبصر في أحوالهم،ولن يستطيعوا التفلّت من حتميته التي تلاحقهم كقدر (حميد كرازاي-محمود عباس-نوري المالكي-سيلفا كير…)وستنتظرهم في المستقبل محاكم شعبية ثورية.

بعد أحد إجتماعات المجلس الوطني الذي طالما أظهره بنيانه البيروقراطي موحداً،تبين أنه منقسم إلى ثلاث كتل أساسية:كتلة إستنبول/كتلة العمل الوطني/كتلة العشائر،وتتوفر قابلية في كل كتلة للإنقسام والإستقطاب،يضاف لهم الحالة العسكرية الناشئة في الداخل من كتائب وألوية الجيش الحر غير الموحدة،وهي حالة تستوجب مقاربة مختلفة،لكونها تأسست على لامركزية قروية،وعززت فيما بعد بتبني قيم سياسية وأيديولوجية متفارقة وقد تكون متناقضة في مقاربة الإنتفاضة وحدودها ومآلاتها،وبمصادر تمويل خاصة بكل وحدة عسكرية.

-3-

إعتمدت الطغمة العسكرية على مجموعة من العناصر التي تمكن مشروعها من الإستمرار:تحالفات قوية معلنة(روسيا –إيران- الصين..)/الإعتماد العميق على حقيقة أن معظم الأنظمة العربية تقف ضد الإنتفاضة الشعبية الثورية في سوريا وغيرها من البلدان، منها علناً وصراحة(الجزائر-السودان-العراق-موريتانية)ومنها مواربةوخلسة(أنظمة الخليج)/عجز وتردد القوى الإمبريالية في إطلاق مشروع جاد لحل الإنتفاضة لأسباب متعددة أبرزها مفاعيل الأزمة الإقتصادية،والمصلحة الإستراتيجية للكيان الصهيوني،مما خدم موضوعياً الجنون الفاشي ودفعه للتمادي في العدوانية الحربية لسحقها وتدمير أسس الحياة الآدمية في طريقه.

بينما إعتمدت هذه الجماعة من المعارضة التقليدية: على علاقات دولية ظرفية لا ترتقي لمستوى التحالف تعتمد في عمومها على طرح التظلمات المفضية إلى التسولات،في علاقات دولية تتأسس على حزمة واسعة من المصالح المرسومة بدقة والمحمية بقوة نيران لاترحم/التمويه على حقيقة مواقف الأنظمة العربية الرجعية من الإنتفاضة،وتجنب نقدها والعمل على مسايرتها،والتواطئ معها ضد حركات إحتجاجية في بلدانها،بالصمت عنها والتهكم منها ووسمها بما ليس فيها،متجاهلين حقيقة لا يمكن تجاهلها:أن قدرنا كشعوب عربية مطرودة من التاريخ،أن ننهض معاً أو نتبدد معاً في الرمل التاريخي وفعل رياحه السموم….

ويتم تجاهل غياب التضامن العربي والعالمي مع الإنتفاضة الشعبية السورية،الذي يعبر عن نفسه بمظاهرات وإعتصامات للضغط على الحكومات…على عكس ما ظهر بوضوح بعد العدوان على لبنان2006وعلى قطاع غزة2008 وعلى الإحتلال الإمبريالي للعراق2003،حين هدرت المدن الأوروبية بملايين المتظاهرين وإنبثقت مئات مبادرات التضامن والإغاثة، بينما ترسل تجمعات هؤلاء المعارضون الهامشيون صوراً عائلية في المنتزهات الأوروبية على إعتبارها وقفة تضامنية”شعبية”مع الإنتفاضة السورية تظهر في طرفها لوحة تكاد ترى تحمل عبارة”أوقفوا القتل”وهي من غوامض العبارات التي باتت تملئ ال”تي شرتات” في أوروبا والأمريكيتين ولاتشير إلى معنى محدد،تبدأ بوقف قتل أنواع معينة من السمك والطيور المهددين بالإنقراض ولاتنتهي بالمذابح في نيجريا، ويعجز هؤلاء المعارضون الأغبياء “ضاربين كفاً بكف”عن تفسير كيف تسمح إدارة قناة السويس”السنية”تدفق البارجات البحرية الإيرانية”الشيعية” المحملة بالأسلحة المدمرة بالعبور والوصول إلى العدو”العلوي” في اللاذقية زاعقين من حين لآخر”شي بيحط الأعل (العقل)بالكف”!!

إذاً،من هذا الذي يتضايق ويقلق ويسهد من آثار قصف المدن والقرى وتسويتها بالأرض،الشركات العقارية التركية والقطرية والسعودية المتحفزة كضباع متوحشة لمرحلة إعادة البناء،شركات الأسلحة والأدوية……..الأمراء المنقوعين بمغاطس المياه المعطرة،كحيوانات منقرضة من العصر الجليدي.

ومن هو النظام الذي يريد إسقاطه هؤلاء الأغبياء؟يعجز هؤلاء الأميون عن تشخيص النظام ومراكز قوته وتحالفاته،وتوضعها،وقوته التمثيلية في المجتمع والتحالف الطبقي الذي يقوده بتشابك المصالح العابرة للطوائف والأثنيات وعمقها،فتارة نظام علوي،وأخرى عائلي،وبعدهما أسدي،ويليهم أقلوي.ماالذي تريد إسقاطه يا”حبوب”وهل أنتم من سيسقطه يا”غنادير”!!

من حوّل أحزاباً إلى عصابات من المرتزقة من اللذين لايفكرون سوى بحقوقهم المالية الإمتيازية قبل التفكير بالثورة،سيعجز عن تشكيل وزارة،ومن قضى عمره”يبعبص”في التحالفات السياسية ليدمرها،لن ينجح في تشكيل مشروع بديل لدولة الإستبداد الفاشي.ومن كان يقبض من دم الشعب العراقي عبر ضباط مخابرات صدام حسين،لايملك أي صدقية في الحديث عن الديموقراطية،ومن بلع لسانه أثناء عدوان تموز على الشعب اللبناني 2006والعدوان على الشعب الفلسطيني في غزة 2008لايمكنه الحديث عن الوطنية والتضامن بين الشعوب العربية،كيف عاد هؤلاء الأيتام لتسلق هضبة الثورة بعد أن سقطوا عنها لمرات وإنكسرت رقبتهم،من أحيى رميمهم ورماهم كقرود بين صفوف المنتفضين .قد يشكل هؤلاء الأغبياء بديلاً عن شخصيات السلطة الحاكمة بدعم إمبريالي لاغيره،لكنهم عاجزون بالمطلق عن تشكيل بديل وطني ديموقراطي عن الطغمة العسكرية.

-4-

من حق أي”قيادة”سياسية اللعب في وعلى الكلمات،ومن حقنا أن نسخر منها ونطالب العامة ونحن منهم أن يسخروا منها،وأن لا يأخذوا كلامها على محمل الجد،وأن يتهيؤا للبصق في وجهها ورميها بالحذاء المهترء في أقرب وقت.

في يوم التالي لهزيمة الطغمتين العسكريتين في مصر وسوريا –حزيران1967-أعلنتا أمام دهشة شعوبهما أنهما لم تهزما-لايتجرأ فريق كرة قدم على إعلان نتيجة مخالفة للحقيقة في اليوم التالي-،بل إنتكستا فحسب،ولحسن حظهما أنهما لما تصابا بأنفلونزا الطيور أو الخنازير مع تلك النكسة،وأعلنتا بعدها بحزم بأنه لاصوت يعلو فوق صوت المعركة،إقرأ:الملعقة،بعد شروعهما بغرف وأكل بقايا الحقوق،التي سهو عن قضمها قبل تلك الهزيمة،والتي من الفضائل المباشرة لتلك النكسة تذكيرهم بها لا بغيرها من واجبات.

لكن الشعوب لا تصغي عادة لحكامها المهزومين والأفاقين ومعارضيها المرتشين وعديمي الضمير من اللذين يعدون أنفسهم كمشاريع طغاة في المستقبل،فإنطلقت بعد الهزيمة العسكرية أوسع حركتين ثوريتين،حركة ثورية طالبية في الجامعات المصرية1968،وتوسعت بقوة زلزالية حركة المقاومة الوطنية الفلسطينية،ورافقهما تكوّن تيارات سياسية جديدة في كل المنطقة العربية،وإندفاع الحوارات السياسية والفكرية على أشدها داخل كل التنظيمات الحزبية،بما فيها التنظيمات التي إعتمدت عليها الطغمتان في تسويق خطابهما السياسي-الأيديولوجي(الإتحاد الإشتراكي-حزب البعث)……

عملت وتعمل الجماعات السياسية عبر التاريخ،على تجنب المواجهات المصيرية بالحيلة والدهاء والفطنة،والعمل على إنتاج تسويات وتثبيتها.لكن ماذا لو فرضت عليك الحرب؟في التاريخ مخزون كبير للتجارب المتعددة في شروطها التكوينية ومآلاتها،نزاعات يسعى لتجنبها والمساومة فيها وعليها،وتبقى الأخطر المواجهات التي لايمكن الفرار منها،حين يقتحم الغزاة مدينتك وحيّك وبيتك،وبوقار ديموقراطي يستفتونك:إختر شكل موتك.

في النهاية،وكما هي في البداية”لن يبقى في الميدان إلا حديدان” الشعب السوري المنتفض،بإمكاناته الواقعية والقابلة للتوسع وتراكماته الكفاحية،وتضحياته الملحمية التي يقدمها كل ساعة،وصموده أمام حراب القتل وقنابله.

حلب آب2012

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى