صفحات الرأي

أفول ـ إحياء ـ نضوب: سرديّات ديبورا أموس/ وسام سعادة

 

 

في محاضرة له بجامعة هارفرد مطلع هذا الشهر، وجّه نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن الإتهام لحلفاء بلاده في منطقة الشرق الأوسط بالإسهام في تمويل وإمداد تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى أنّ أصبح حالة مستعصية على الحرب اللابرّية التي تقودها واشنطن عليه. واذا كان قسمٌ ممّن ذكرهم جو بايدن يشاركونه هذه الحرب، فقد فجّرت الحصّة التركيّة من الإتهام أزمة حادّة مع حكومة أنقره، وتوجّب على بايدن مهاتفة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والإعتذار، مع التملّص من جملته في هارفرد بـ»أن مشكلتنا الكبيرة هي مع حلفائنا في الشرق الأوسط» من خلال نفي كل قصد وعمد تركيين في دعم «ايزيس» أو «داعش».

في وقت راح فيه بايدن «يلفلف» الأمر، كانت ديبورا أموس، وهي المراسلة الخارجية لـ»الراديو الوطني العام» الأمريكي، تعدّ تقريراً ميدانياً من منطقة الحدود التركية السورية تتناول فيه شبكات إمداد تنظيم «الدولة» بالمقاتلين عبر الأناضول، فيما سمّي «الطريق السريع للجهاد». ثم نشرت مقابلة مطوّلة مع أحد المهرّبين، يوضح فيها كيف غضّ الأتراك الطرف لسنتين، ولم يسألوا كثيراً عن أعمار الشباب وجنسياتهم، اذ كان التوجيه العام يقضي بالتسامح مع «تدفّق المقاتلين»، وهذا توجّه ما كان ليفرّق، كثيراً، بين فصيل جهاديّ وآخر، الى أن تبدّلت الحال بعد تعاظم شأن تنظيم «الدولة»، وهذا ترصده المراسلة، عرضاً، في عراك نشب بالأيدي داخل حرم «جامعة اسطنبول» على خلفية المعركة الداعشية – الكردية، أو في جو متعاطف مع مقاتلي «الدولة الإسلامية» بين مرتادي المساجد في منطقة «فاتح» الشعبية المحافظة في اسطنبول.

ما تسجّله ديبورا أموس يدخل في نطاق تزايد ملحوظ في شعبية «داعش» في مختلف البلدان المحيطة بالمجال الحربي العراقي السوري، خصوصاً بعد مسارعة الإدارة الأمريكية نفسها في مناقشة تعثّر حربها اللابرّية، وبعد الحملة الداعشية على الفصائل الكردية في الشمال السوريّ، الأمر الذي عقد «صلة تعبوية» بين الجنوح «الأممي الاسلامي» عند «داعش» وبين النعرتين القوميتين الشوفينيتين التركية والعربية بازاء الأكراد.

الملفت أنّه، في وقت ترصد فيه المراسلة أموس خطوط الإمداد لـ»داعش» وتبدّل المزاج منها اليوم، والتداعيات التركية الداخلية للحرب، ومناخات «الصحويّة السنّية العربية التركية» بشكل عام، تنتشر ترجمة عربية صدرت قبل أشهر، لكتاب أصدرته أموس عام 2010، أي قبل اندلاع «الثورات الربيعية العربية»، بعنوان «أفول أهل السنّة». والطبعة العربية أنيقة، من منشورات «الشبكة العربية للأبحاث والنشر»، لكنها بدّلت في العنوان التحتي للغلاف فجعلته «التهجير الطائفي وميليشيات الموت وحياة المنفى بعد الغزو الأمريكي للعراق»، بعد أن كان في أصله الانكليزي يكتفي بثلاثية «السلطة والمنفى والانفجار في الشرق الأوسط». كذلك العنوان الأساسي، فيه انزياح دلاليّ نسبيّ، يتيحه النقل من الانكليزية الى العربية طبعاً، لكن غرضه «توظيفيّ» بامتياز. فالترجمة المحايدة للعنوان الأصليّ أقرب ما تكون الى «أفول السنّيين». في حين أن الترجمة المعتمدة، «أفول أهل السنّة» هي أدق من الناحية الدينية والبلاغيّة، لكنها متحيّزة خطابيّاً بما يفيض عن مقصد المؤلّفة. بمعنى آخر، منتج ديبورا أموس السابق عن «الأفول» معادٌ استصداره «صحويّاً» اليوم، على قاعدة «تنبّهوا واستفيقوا»، في وقت يفصله عنّا أربع سنوات من تراكم الشهادات التي جمعتها ديبورا أموس بعده، على هامش الحريقين العراقيّ والسوريّ وامتداداتهما.

في كتابها عن «أفول السنّيين» تفتّش أموس على السرديات الصغيرة، سرديات المنفيين واللاجئين العراقيين السنّة حتى العام 2010. تميط اللثام عن أمر أساسيّ قام به الاحتلال الأمريكي للعراق: اتاحة الغلبة لـ»القوم الشيعي» على «القوم العربي السنّي»، وبالتالي استكمال «موضعة» سنّة العراق العرب في «قوم» منفصل، يتعرّف على نفسه في معادلة «الأفول» والشتات والمكابرة على الأفول والشتات.

ومع أن عدّة الكتاب بعيدة كل البعد عن المسوح الديموغرافية، الا أن الهاجس الديموغرافي يجتاز كل السرديّات الصغيرة المستجمعة فيه. وفضله أنّه يذكّرنا بأن الغالبية العظمى من النازحين عن العراق بعد الاحتلال الأمريكي له هو من العرب السنّة (ستون بالمئة) ثم المسيحيين العراقيين، ناهيك عن حركة نزوح كثيفة عربية سنية داخلية أخرجت السنّة عملياً من «العاصمتين»، بغداد والبصرة. تدرك المؤلّفة ان ملايين الشيعة والأكراد أجبروا على الخروج من العراق في ظل نظام صدّام حسين، لكنها تبدو «مكتفية» بحجّة مفادها أن النزيف الشيعي والكردي امتدّ لعقدين من الزمن، في حين أن النزيف العربيّ السنيّ سريع وشامل في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي والغلبة المذهبية الشيعيّة.

كلّ هذا، ولم تكن الثورة السوريّة قد اندلعت بعد، وكانت ضواحي من دمشق تعرّف بـ»بغداد الجديدة». فهل كانت مرحلة ما بعد صدور النسخة الأصلية للكتاب هي مرحلة تحوّل «أفول السنييّن» من النطاق العراقي، إلى «أفول أهل السنّة» على الصعيد المشرقيّ العام؟

بمعنى من المعانيّ، «الأفول» هو «الصحوة»، والصحوة هي الأفول. فتجميع ديبورا أموس للسرديات الصغيرة هو اللحظة الأولى، واعادة توظيف ما جمّعته كإسهام في معرض انتاج سردية صحويّة سنّية «كبيرة» هو اللحظة الثانية. يمكن بسهولة ويسر، تخيّل جزء ثان من «أفول أهل السنّة» يتعلّق بسوريا، الثورة والحرب والمجازر والتهجير، وجزء ثالث يتعلّق باليمن بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء، واستنجاد القبائل بتنظيم «القاعدة».

وهذا يطرق في المخيال الجمعي «السنّي» فكرة أنّ الانتصار السنّي في هذا الشرق لم يحدث الا بعد أفول وخبو. فالمدّ الشيعي، الفاطميّ والقرمطيّ والبويهيّ والحمدانيّ، قوّضته السلطنات الاحيائية، السلجوقية والأيّوبية ثم المملوكية. والاحياء الاحيائي ابتداء من القرن الحادي عشر الميلادي، وانتصار السلاجقة على البويهيين، كان احياء ثلاثيّ الأبعاد. لم يكن احياء من أعلى فقط، ولا احياء من أدنى فقط، كان احياء ثلاثيّ المراكز، مصدره في آن واحد، أو بالتتابع، حسب الأقاليم، السلاطين، وعلماء الدّين، وعامّة الناس.

سواء في كتابها عن «أفول السنيين» أو في مراسلتها المستمرّة عن أخبار الجهاديين، تراكم ديبورا أموس لنا مادّة. مادّة من لحمنا ودمّنا، وأقوالنا الصادقة والكاذبة، تلك التي تنطلي على مراسلة غربية وتلك التي لا تنطلي. لكن الفارق بين هذه المادّة القيّمة وبين توظيفها، هو الفارق بين منظارين في السرد وفي التأريخ. المنظار الأوّل عالق بالتصورات الدائرية للزمن: «أفول – احياء – أفول – احياء». المنظار الثاني مدرك أكثر للخلط التفجيري: «الأفول الاحيائيّ».

ما يجمع السرديّات المحتقنة، سنية أو شيعيّة اليوم، هو التزاحم على تسويق الزمن الدائري. كاريكاتيرياً فقط يمكن توظيف الوقائع والأحداث في هذا الشرق العربي للخروج بلوحة «ثورة سنّية» من الموصل حتى أبين، أو بلوحة «ثورة شيعيّة» من «عصائب أهل الحق» حتى «الحوثيين» مروراً بـ»حزب الله». كاريكاتورياً فقط. لأنّ أي استهلاك توظيفيّ واعتباطيّ لتراث دينيّ أو ثقافيّ كفيل على مدى زمني معيّن بايصال هذا التراث الى حالة نضوب، لا يعود قادراً بعدها على امدادنا بالصور والإحالات والتسميات، فكيف اذا كان الاستهلاك تزاحمياً، بهذا الشكل، بين أصحاب سرديّة «الثورة الشيعية» وبين أصحاب سرديّة «الثورة السنّية».

يبقى أن الآلاف من شباب بعمر الورد، ممتلئين حمية وعزيمة، سيتدفّقون على حقول الموت، عابرين الأناضول وغير الأناضول، أو نابتين من الأرض، قبل أن تسدل ثلاثية «أفول – احياء – نضوب» الستارة.

 

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى