أحمد نظير الأتاسيصفحات الرأي

محاولة لفهم الإنتفاضة السورية

 


بقلم: د. أحمد نظير الأتاسي

إننا أمام واحدة من تلك اللحظات التي قد ترسم تاريخ البلد لعقود قادمة. ويحسب القارئ للتاريخ أن التغييرات الجوهرية في أي مجتمع بطيئة بطبيعتها وتأخذ سنين طوال لإتمام مسيرتها. لكن الحقيقة هي أن بعض المنعطفات قد تكون سريعة ومزلزلة وبعيدة الأثر، خاصة إذا قادها نظام سلطوي قمعي مثل النظام السوري الحالي، والذي أعتقد أنه المسؤول الأول والأخير عن هذا التغيير المزلزل باعتبار أن سلطته مطلقة وشاملة لكل مناحي الحياة في المجتمع والدولة (وهذا ما يجعله قادراً على إحداث مثل هذا التغيير السريع). إن “صدفة” البوعزيزي قادت إلى الإطاحة بنظام بن علي في تونس مما خلق موجة تغيير جارفة وعارمة في المنطقة العربية لن يسلم منها أحد، وأتمنى أن يستفيد منها الجميع، ولن تنتهي بانتهاء الإنتفاضات. إنها موجة مماثلة لموجة الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر والحروب النابليونية أوئل القرن التالي. ونعرف أن تلك الموجة لم تنته إلا بعد حوالي نصف قرن حين قررت الملكيات الأوروبية ركوب موجة الليبرالية والقومية بدل معاداتها. ليس من وقت غير مناسب في التاريخ، ولهذا علينا أن نناقش الحدث الجاري ونوجهه اعتماداً على فهمنا للتاريخ وللمجتمع صاحب هذا التاريخ.

الشرخ في المجتمع السوري

لا أحد ينكر وجود شرخ كبير في المجتمع السوري من حيث موقف فئاته المختلفة من الإنتفاضة. والمثير للإستغراب في الأمر هو أن الإعتراض على شكل الإنتفاضة وأهدافها المعلنة قد أخذ شكل الموالاة لنظام أمني بامتياز حكمَ المجتمع السوري بقبضة من حديد لأكثر من أربعين عاماً. وبما أن أذى النظام قد طال مختلف فئات المجتمع الطائفية والطبقية والمهنية والثقافية فإنه من المستغرب تخوف العديد من السوريين، وخاصة من المسيحيين ومن العلويين، من الإبتعاد عنه والإنحياز إلى هدف الإنتفاضة المعلن بإسقاطه. وباعتقادي أن هذا الشرخ الذي أعزوه لأسلمة المجتمع السوري ليس وليد اللحظة الراهنة وحالة إنعدام الأمن المرافقة لأية انتفاضة، وإنما بدأ من حوالي عشرين عاماً في بداية التسعينات من القرن الماضي حين تغيرت موازين القوى العالمية وبدأ الأسد الأب بتحضير سوريا والسوريين لمرحلة ما بعد موته وما رافق ذلك من إعادة هيكلة للإقتصاد السوري ولمؤسسات النظام من حزب وجيش وأجهزة أمنية وبيروقراطية وقطاع عام. وقد تبع ذلك إعادة هيكلة للمجتمع السوري بأسره.

لقد بدأت ملامح الشرخ المذكور أعلاه بالظهور مع الجدال الذي دار حول تغيير قانون الأحوال الشخصية عام 2009، وتوطدت مع الجدال الذي تبعه عام 2010 حول نقل 1200 من المعلمات المنقبات إلى وظائف إدارية، وتطبيق سياسة غير معلنة بمنع الطالبات المنقبات من دخول حرمات الجامعات العامة والخاصة. ثم جاء مسلسل “ما ملكت أيمانكم” التلفزيوني ليثير جدالاً فرعياً عن نفوذ القبيسيات والتيار الإسلامي المتشدد في المجتمع والدولة السوريين. وأفضل نقاش باعتقادي لخلفيات هذه الجدالات هو مقالة قصيرة للكاتب بكر صدقي ظهرت على موقع صفحات سورية (22-آب-2010) بعنوان “ملاحظات في العلمانية والنقاب وما يتصل بهما من مسائل”. لم تعرض المقالة تحليلاً مفصلاً ومطولاً لجدال النقاب وإنما قدمت محاور أساسية لتحليل مستقبلي وأعادت الجدال إلى واقعه الحقيقي، وأعني السياسي، بدل الفضاءات الثقافية والدينية والفكرية التي وضعته فيها مقالات أخرى اتسمت بالسجال واتخاذ مواقف بدلاً من التحليل.

الليبرالية الإحتكارية وأسلمة المجتمع

في غياب القطب السوفيتي تمكنت الولايات المتحدة من تعميم الليبرالية كنمط إقتصادي (لأن هناك ليبرالية فكرية)، وهذا هو الجزء الإقتصادي من العولمة. دخلت جميع دول العالم نادي الليبرالية من أبواب مختلفة، وأعجب النظام السوري بالمثال الصيني ففضل الليبرالية المقننة والمسيرة، وهو ما أطلق عليه نمط اقتصاد السوق الإجتماعي. لكن نظام الأسد التسلطي الشمولي لا يستطيع أن يتعايش مع الليبرالية الأوروبية لأنها تعني حرية النشاط الإقتصادي وتحويل الدولة إلى ميسّرة لهذا النشاط بدل أن تكون مسيّرة. الليبرالية تعني فقدان السيطرة المطلقة على الإقتصادي وبالتالي فقدان السيطرة التدريجي على الحكم والمجتمع (ولهذا يربط الغربيون بين الليبرالية والديمقراطية لأن الأخيرة تاريخياً كانت الوجه السياسي للأولى). فعمد النظام إلى حل ليس بالخارق الذكاء، لأن كل الانظمة التسلطية الشمولية العربية عثرت عليه في الوقت نفسه، وأعني احتكار الليبرالية من قبل دائرة صغيرة ومغلقة من الأفراد المرتبطين بنظام الحكم، وخاصة أسرة الحاكم وأقرباءه وأصدقاءه المقربين. وهذا الحل يتمثل ببيع القطاع العام لأفراد هذه الدائرة وربط أغلب شركات القطاع الخاص الكبرى والمؤثرة بهؤلاء الأفراد. وبهذا يتحول القطاع العام، الذي كان يعتبره النظام ملكاً له إلى ملكية خاصة به بالفعل. ويعبر الناس عن هذه السياسة بعبارة تحويل البلد إلى مزرعة خاصة، وسنسميها هنا بالليبرلية الإحتكارية.

نعود هنا إلى الشرخ الذي ذكرناه في بداية المقالة. إن تسيير مافيا ضخمة مثل النظام السوري لا يحتاج إلى معرفة نظرية وإنما إلى دراية بأمور الولاءات والتحالفات العشائرية والطائفية التي برع بها حافظ الاسد. لكن إعادة هيكلة الإقتصاد، التي بدأت بهدف التأقلم مع الوسط المحيط ومن ثم إحداث توريث سلس للسلطة من الأب إلى الإبن، تحتاج إلى خبرات ورساميل واستثمارات لا يملكها النظام، ولذلك بشار الأسد ونظامه الجديد فبحاجة إلى فئة كانت مغيّبة ومهمشة طيلة عقود من الزمن، وأعني فئة أثرياء السنة المتمركزين في المدن الكبرى الذين اقتصر نشاطهم الإقتصادي على القطاع الخاص المهمش والمضبوط بقوانين ضريبية وإجرائية هائلة. إن نظاماً قمعياً وطائفياً كما النظام السوري الحالي لا بد أن يضمن ولاء المقربين منه بطريقة طائفية أيضاً، ولذلك فإن استقطاب هذه الفئة سيمر عبر انتمائهم الطائفي، أو هكذا يعتقد النظام. وباعتبار أن لا مجال لإدخال أثرياء السنة في دائرة القرار السياسي لاقتصارها على العائلة الحاكمة فقد كان لا بد من إشباع رغباتهم القيادية في مجالات أخرى. وباعتبار أن نظام التسلط والأمن لا يستطيع أن يسمح حتى بإنشاء جمعية خيرية فإن هذه المجالات الأخرى ستكون محدّدة طائفياً وعشائرياً وهي المجالات الوحيدة التي يفهمها النظام ويسمح بها. من هنا نفهم تكاثر المدارس والمعاهد الدينية السنية ومراكز تحفيظ القرآن والجوامع والطرق الصوفية والتي كانت الطرق التقليدية القديمة لبناء شبكات النفوذ الإجتماعي والإقتصادي في المجتمعات السنية العثمانية. وحسب هذه الطريقة القديمة-الحديثة في بناء التحالفات فإن التاجر أو الثري يتبرع ببناء المسجد أو المدرسة أو التكية أو الخانقاه مقابل بناء سمعة طيبة ونفوذ في المجتمع سيعود عليه بالفائدة الإقتصادية والسياسية لاحقاً. لا بل رأينا عودة أسماء قديمة لعائلات قدّمت شيوخاً للطرق الصوفية أو ربطت أسماءها بمساجد أو مدارس.

لقد أغلق النظام السوري المجتمع في وجه التأثير الفكري الوهابي لسنوات طويلة لا بل أمدّ هذا الفكر بمعلميه من الإخوان المسلمين الذي طردهم في السبعينيات والثمانينيات. لكن أحداث أيلول عام 2001 ومن ثم الإجتياح الأمريكي للعراق أجبرت النظام على إعادة حساباته الإقليمية والداخلية. إن اجتياح العراق وانفراط عقد المجتمع هناك في حرب أهلية وحشية غذاها التمييز الطائفي الأمريكي وتحطيم الدولة العراقية قد زلزل النفوس العربية عامة والسورية خاصة لقربها من العراق ولاستقبالها العدد الأكبر من اللاجئين العراقيين. المشروع الأمريكي المسمى بالشرق الأوسط الكبير كان يشمل تغيير الأنظمة في العراق وبعده في سوريا وإيران وبلدان أخرى، مما أرعب النظام في سوريا وأجبره على التقرب من شعبه ذي الغالبية السنية. هذا التقرب كانت أسسه قد أرسيت في عملية هيكلة الإقتصاد وما تبعها من التقرب من أثرياء السنة. بعد عام 2003 دخل التيار السني السلفي في كل مناحي الحياة في سوريا بما فيها الدولة وحزب البعث واطلقت أيدي المشايخ التقليديين ومريديهم في مجالهم التقليدي (خاصة وأنه بعيد عن السياسة ظاهرياً) ألا وهو مجال التعليم (التعليم العام والخاص والتربية الدينية غير المدرسية). أضف إلى ذلك الهزة العنيفة للهوية العربية الإسلامية التي شكلها الغزو الإمريكي وسقوط بغداد المريع والتي أحدثت ردة دينية حتى في تونس التي كانت تتباهى بنظام علماني منيع على حد زعم النظام هناك. هزة الهوية هذه ما كانت لتأخذ الشكل الديني الذي رأيناها لولا تنازل الفكر القومي العربي ذي الطابع الإشتراكي عن علمانية الدولة بتدريسها للدين في المدارس وسيطرتها على الهرمية الدينية وإدخالها للإسلام في الدستور كدين للدولة وكمصد للتشريع، خاصة في قانون الأحوال الشخصية.

هذه العودة المفاجئة والقوية للرموز السنية القديمة ولخطابها المعهود حول فرض الشريعة الإسلامية وأسلمة الفضاء العام وتحويل المسيحيين إلى ذميين أرعبت الأقليات الدينية في سوريا وأعطت فرصة ذهبية للنظام لإظهار بشار الأسد بمظهر القائد العلماني الذي يكرّس الوحدة الوطنية ويمنع الفئات المتصارعة من الدخول في فوضى طائفية لا تبقي ولا تذر. هذه الوظيفة التوحيدية عبّر عنها اليمن القديم بلقب المقرّب الذي كان يُطلق على الملوك إشارة إلى كون الملك هو الملاط الذي يُبقي المجتمع متلاصقاً ويحميه من الإنحلال والفناء كجماعة.

من صحوة دينية إلى أزمة مجتمعية

وكما هو الحال في كل المجتمعات الإسلامية، فإن الصحوة الدينية المزمنة ليست في الحقيقة إلا صحوة سياسية في دول لا مجال فيها للعمل السياسي، فتتحول هذه الصحوة بالتالي إلى معركة سيطرة على العقول والأجساد وخاصة عقول الرجال وأجساد النساء. الصحوة الروحانية المزعومة لا تتكلم في الروحانيات أبداً بل تتحكم بأدق تفاصيل حياة الإنسان بهوس جارف لاستعادة السلطة المفقودة التي سرقتها الدولة القمعية الشمولية. أضف إلى ذلك أزمة ذكورية حادة سببها تحطيم أسس الرجولة الشرقية، وأعني حضور الشخصية التنافسية الواثقة من نفسها وامتلاك مقاليد السلطة الإقتصادية والفكرية والجنسية داخل العائلة. الحضور الذكوري التنافسي يعيقه غياب الفضاء العام (خاصة السياسي) والحضور الخانق لعنف السلطة الجسدي والعقلي، والرجل المعيل لايجد مصدراً للرزق، وخروج المرأة من البيت طلباً للعمل أو الدراسة أو حتى التسوق يفضح العرض المستور ويجعل المرأة عرضة للمؤثرات الخارجية التي تعيد بناء تصفيفة شعرها وثيابها وحتى جسدها. ولهذا كانت ولا تزال ساحات التعليم والأخلاق العامة وجسد المرأة ساحات المعارك المفضلة عند الإسلام السياسي. والنظام الباحث عن الشرعية المفقودة والدعم الداخلي اتقاءاً لأخطار خارجية محدقة لا يستطيع إلا أن يفسح المجال لمعينه الجديد، أي الإسلام السني المديني بشكله السلفي الوهابي الجديد الذي تغذيه الفضائيات الخليجية. هذا الإسلام مديني بمنشئه (انتشر الإسلام خارج الجزيرة العربية من المدن) ويتغذى على الطبقات الفقيرة في المدينة (باعتبار التقاليد هي الحاكمة في الريف والتي تشمل نوعاً من الإسلام المهجن البسيط)، ولا نقص في أعداد هذه الطبقات إذ تغذيها هجرة الريف باستمرار. هذه الهجرة تقضي أيضاً على التقاليد والعشائرية الريفية وتضع المهاجر وحيداً في مهب الريح الإقتصادية الرأسمالية وبعيداً عن المجتمع الريفي المغلق البسيط. ويستبدل المهاجر انتماءه العشائري بانتمائه الإسلامي وتقاليده الريفية بتقاليد الإسلام المديني السني المهووس بالتشريع والقانون وضبط حركة النساء. ولهذا أول ما يكون التغيير في ثياب النساء فالمنديل الريفي والثوب الريفي يحل محلهما النقاب والمعطف الإسلامي الثقيل.

أول معارك السيطرة على المجتمع كانت حول مشروع قانون الأحوال الشخصية عام 2009، الذي أعاد مفردات أهل الذمة وأهل الكتاب إلى التداول، وأقرّ بإلغاء عقد زواج المرتد، وخفض سن الزواج العملي إلى 15 سنة للذكر و13 سنة للأنثى، وبدا بصياغته وكأنه كتاب في التشريع السني مكتوب عام 1300 ميلادية. رغم تدخّل الأسد وإلغاء مشروع القانون في اللحظة الأخيرة إلا أن هذه المعركة أظهرت ضعف النظام أمام حليفه السني الجديد الذي تغلغل في مجاله الطبيعي، أي مجتمع المدينة السنية. النظام ضعيف لأنه يحتاج إلى حليفة الإقتصادي الجديد ويحتاج إلى سلطة المشايخ لحماية وجوده من التهديدات الخارجية (ولذلك لا يقضي النظام الديكتاتوري على الإسلام السياسي قضاءاً كاملاً فهو سيحتاجه يوماً ما)، ويحتاج إلى الفضائيات الخليجية لإرضاء مستثمريه الجدد، ويحتاج إلى الإسلام لرأب الصدع في الهوية العربية الذي أحدثه الغزو الأمريكي للعراق. هذه المعركة أظهرت للعيان الشرخ الجديد في بنية المجتمع السوري بين سكان الضواحي من الريفيين المهاجرين (أو بتحول بعض القرى إلى ضواحي) ومن أهل المدينة الذين أفقرهم الرأسمال الإحتكاري ودفع بهم إلى الضواحي نفسها، وبين طبقة من الرأسماليين المحتكرين الذين تقوم ثروتهم على التجارة والإستهلاك المفرط (ونجد هذه الطبقة المعولمة الإستهلاكية في كل بلدان العالم) وأساليب التسويق الغربية القائمة على استخدام الجسد النسائي كأداة لجذب المستهلكين.

العولمة بثقافتها الغربية الضحلة واهتمامها بالمظاهر واستغلالها لجسد المرأة كوسيلة للدعاية اصطدمت بالصحوة الإسلامية الجديدة في ساحة معاركها المفضلة، جسد المرأة. أضف إلى ذلك ان الأقليات الدينية في سورية لم تر في الصحوة الإسلامية إلا استفاقة لعدو قديم أخضعها لقانون أهل الذمة وعاملها كضيفة في بلدها الأم. وقد وجدت هذه الأقليات في النظام الطائفي وحليفه الرأسمالي الإحتكاري الإستهلاكي ملاذاً لها من الملتحين جزازي الرؤوس (أو هكذا بدوا لهذه الأقليات من خلال صور أقرانهم في العراق وأفغانستان والسعودية) والحالمين بعودة سطوة الخلافة الإسلامية وإمبراطوريتها المنقرضة (خاصة في نسختها العثمانية العقيمة والعنصرية). هذا الملاذ وجد رمزه في علمانية مزعومة لنظام البعث. البعث لم يكن يوماً علمانياً لأن الفكر القومي العربي (كغيره من الأفكار القومية المنقلبة إلى فاشية) استولى على الرموز الإسلامية ووظفها لأغراضه، والنظام السوري لم يكن يوماً أيديولوجياً لأن أيديولوجيته الوحيدة هي بقاء النظام، ومؤسسة البعث تم تفريغها من وظيفتها الأصلية كمؤسسة لتوزيع الثروة وكسب الولاء من قبل حلقة الرأسماليين الجدد لا بل اخترق الإسلاميون مؤسسة البعث في محاولة منهم لكسب بعض من سلطتها القديمة. وعندما شعر النظام بالمأزق الذي أدخل نفسه فيه عاجل بعقليته القمعية إلى تأكيد سلطته المطلقة فأوعز لمؤسساته بإصدار تعميمات (وليست قوانين) لجس النبض وإرسال رسالة واضحة للقوى الإسلامية الجديدة وهذا ما رأيناه في قضية إقصاء المعلمات المنقبات ومن ثم في جدال منع النقاب في الحرم الجامعي. هذه القضية كانت سياسية بحتة، لكن تغييب الفضاء السياسي حوّلها إلى قضية فكرية ظاهرياً. وإن نظرة إلى المعسكرات المتناحرة ترينا انقسام المجتمع السوري بين معسكر المتدينين الجدد (الضواحي والإسلاميين ومشايخهم المدعومين من أثرياء السنة الجدد) وبين معسكر الأقليات والطبقة الرأسمالية الإستهلاكية. الرموز كانت علمانية النظام المزعومة وحرية المرأة. ومن شدة الشرخ دعم المعسكر الثاني قرار الحكومة الذي ليس في الحقيقة قراراً أيديولوجياً وإنما محاولة من النظام لاستعادة سيطرته المطلقة على المجتمع.

الليبرالية الإحتكارية وسقوط دولة الإعالة

إن الليبرالية، بأي من أشكالها، تتطلب سلسلة لا تنتهي من القوانين لتنظيم عملها، فهي نظام متكامل ومختلف طبعاً عن النظام الإشتراكي ومركزية الإقتصاد. وليس هذا فحسب، فإن شبكة الأتباع والموالين الذين كان النظام يطعمهم من القطاع العام (عن طريق تضخيم مؤسسات الدولة وتوسيع شبكات الرعاية والضمان المملوكة من الدولة) أصبح من الضروري إما فطمهم عن آلة الرضاعة هذه أو إطعامهم من القطاع الخاص الإحتكاري الذي تسيطر عليه الدائرة المقربة السابقة الذكر. ولهذا تبعات إجتماعية ضخمة، فمؤسسة الإعالة وتوزيع الغنائم المسماة بحزب البعث أصبحت عالة على النظام وضعف نفوذها، خاصة أن تسيير القطاع الخاص الإحتكاري اعتمد على الأجهزة الأمنية لأنها قوة ضاربة فوق القانون، أي أنها تصنع القوانين بنفسها مما يسهّل أعمال هذا القطاع بتفادي بيروقراطية الحزب التي لا تنتج أي ربح أو قيمة زائدة. طبعاً ما غاب عن المخطِط الأولي لهذه النقلة النوعية هي أن الحكم التسلطي الشمولي ليس مسؤولاً أمام أحد عن دفاتر حساباته ولا يهمه الربح بقدر ما يهمه الولاء، أما القطاع الخاص وإن كان إحتكارياً، فهدفه توليد الربح، وهو مسؤول عن دفاتر حساباته أمام المستثمرين الذي لا تربطهم بالنظام أية روابط مؤسساتية وإنما روابط مادية بحتة تنتهي بانتهاء المنفعة وانعدام الربح.

جشع الرأسمالية هذا، المتمثل بطلب الربح المستمر، سيجري في دماء المحتكرين حتى وإن كان هدفهم تسيير الإقتصاد بدلاً عن النظام ومؤسساته. ولما كانت الزراعة الصناعية مورد رزق سريع (إستثمار ضئيل في وسائل الإنتاج) فسيسيل لها لعاب الإحتكاريين باعتبار أنهم يبحثون عن المردود السريع، ولذلك بدأ النظام باحتكار الأراضي الزراعية بعد أن قضى نظام البعث ثلاثين عاماً يشتري ولاء الفلاحين من خلال قوانين إعادة توزيع الأراضي وتحديد الملكية الزراعية وإنشاء التعاونيات ومنح القروض الزراعية الرخيصة من أجل شراء البذور والسماد والآلات. بطلُ الفلاحين هذا الذي حولهم من مرابعين وعمال زراعيين إلى ملاكين في الستينات سحب البساط من تحتهم وتحول هو نفسه إلى إقطاعي كبير مدعوم من أجهزة قمعية لا ترحم. إضافة إلى ذلك فإن مؤسسات الدولة التي تضخمت في السبعينات والثمانينات لاستيعاب كل الطالبين للإعانة المادية جذبت الريف إلى المدينة حيث تتمركز هذه المؤسسات وأبعدتهم عن مصدر اكتفاء ذاتي هو الأرض، ومن ثم تركتهم فريسة سهلة للرأسماليين الإحتكاريين. فلا وظيفة الدولة أصبحت مضمونة (وما يتبعها من ضمان صحي وتقاعدي)، ولا وساطة حزب البعث المهمش أصبحت كافية، ولا السلع الإستهلاكية الأساسية باتت مدعومة (مثل الخبز والسكر والوقود). لقد انتقل إقتصاد سوريا خلال عشر سنين من نظام إعالة (عن طريق الدولة والحزب والجيش والمخابرات ووظائفهم) إلى نظام رأسمالي إحتكاري يأكل كل شيء ولا يشارك أحداً في شيء، أي من الأقصى إلى الأقصى. ولهذا سنرى أن أغلب المشاركين في الإنتفاضة السورية هم من أهالي المدن الصغيرة والقرى، إضافة إلى المدن المهمشة مثل درعا وحمص وحماة التي لم ينجح فيها تحالف الرأسمالية الإحتكارية أو لم يحصل أصلاً.

الإنتفاضة السورية

ثم جاءت الإنتفاضة فثارت الطبقات المهمشة إقتصادياً وسياسياً (أي الضواحي والمدن الصغيرة والقرى التي كانت قاعدة البعث في الماضي القريب) لكن النظام وجد ضالته في الشرخ الحديث العهد حتى يجيش قسماً كبيراً من قاعدته الطائفية ومن الأقليات ومن حلفائه الإقتصاديين الجدد الذين جيشتهم قضية النقاب وقانون الأحوال الشخصية من قبلها، فادعى بأن الإنتفاضة ما هي إلا استمرار لجدال النقاب، أي أنها مؤامرة إسلامية سلفية لقلب النظام وإقامة إمارة إسلامية في الضواحي والقرى الثائرة التي أصبحت في الماضي القريب ملاعب التجييش الإسلامي السابق الذكر أعلاه. والمضحك في الأمر أن النظام عندما أراد أن يتحدث إلى هذه الإنتفاضة توجه إلى المشايخ المدعومين من الأثرياء السنيين الجدد لاعتقاده بنجاح مخططه بقيادة المجتمع السني من خلال حلفائه السنيين الجدد. هؤلاء المشايخ من أمثال البوطي والنابلسي وغيرهم لم يخذلوا النظام ووقفوا معه مما سبب جلبة كبيرة في صفوف المنتفضين الذين حسبوا أن مشايخ السلطة هم حلفاؤهم الطبيعيون.

لا أنكر أن مطالب الثائرين قديمة قدم النظام، وهي تمس في الحقيقية الجدال الأساسي الذي غيبه النظام القمعي، أي الجدال السياسي والمشاركة في سلطة اتخاذ القرار. لكني لا أستطيع أن أنكر التحولات التي حدثت خلال العشرين سنة الماضية والتي غيرت هيكلة وأيديولوجيات المجتمع السوري ودفعتها في طريقي إسلامي يمكن أن يحتل الساحة في أية لحظة. من التوريث إلى الإنتفاضة عشر سنوات قلبت المجتمع السوري رأساً على عقب وأتمنى أن تكون الإنتفاضة على قساوتها إعادة لتوازن المجتمع الفكري بتركيز الإهتمام على القضية الأساسية أي النظام القمعي الشمولي وغياب الحريات بكل أشكالها وليس الدين أو النقاب. وما خوفي إلا من مشايخ السلطة ومموليهم من أثرياء السنة الجدد أن يقلبوا ولاءهم ليضعوا أنفسهم في قيادة المجتمع المديني الجديد من خلال أيديولوجيتهم الإقصائية التكفيرية التي كانوا يغذونها في انتظار معارك مطلبية مع النظام مثل معركة النقاب مثلاً (ولذلك رايناهم يصطادون في الماء العكر بأن يشرحوا الإنتفاضة بانها ثورة ضد نقل المعلمات المنقبات ومنع النقاب في الجامعات). وللأسف فإن القروي العلوي الذي جنده النظام في أجهزة الأمن بقي مهمشاً إقتصادياً ومجيشاً فكرياً وهو لا يزال في واجهة المجابهة بين النظام وشعبه الثائر وأول الضحايا دفاعاً عن النظام وسيكون أول الضحايا في حال سقوطه. وإن نجاح النظام بالإستفادة من الشرخ المجتمعي السابق الذكر في إقناع الأقليات الدينية بعلمانيته المزعومة وتخويفها من الإنتفاضة بإظهارها كثورة دينية سنية يزيد من خطر إنشقاق المجتمع السوري إلى طوائف متصارعة في حرب أهلية عقيمة لا نهاية لها. أخيراً، لا أزعم بأن هذا التحليل هو الحقيقة أو حتى يقترب منها، لكنها دعوة إلى حوار وطني يعصم سورية من نزاع أهلي ويعيدنا إلى الهدف الأساسي الذي هو إنهاء القمع وإلغاء إحتكار السلطة وإنهاء الفساد الإقتصادي والإداري.

خاص – صفحات سورية –

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى