صفحات الحوار

بمناسبة إصداره «أنطولوجيا الشعر السوري المعاصر»: الناقد السوري صالح دياب: الكتّاب الذين يدَّعون الارتباط بالواقع هم الأكثر انفصالا عنه

 

 

عبد الله مكسور

يأتي كتاب «الشعر السوري المعاصر» باللغتين العربية والفرنسية صادر عن دار لوكاستور الفرنسية للشاعر والباحث صالح دياب كأول مختارات شعرية شاملة لشعراء سوريين، حيث يؤرخ دياب من خلال مختاراته لأكثر الأصوات الشعرية طليعية في سوريا، بعيدا عن التجاذبات السياسية المرتبطة بكل ما هو سوري الآن. أصدر دياب عدة دواوين، منها «قمر يابس يعتني بحياتي»، «صيف يوناني»، و«تُرسلين سكينا يُرسل خنجرا».

عن الأنطولوجيا الممتدة حوالى قرن من الزمن وكيفية اختيار أصواتها الشعرية كان هذا الحوار..

■ بداية.. ما هو مفهومك للأنطولوجيا؟

□ كلمة أنطولوجيا تعني باقة، يتم اختيار زهورها، لأسباب مختلفة، ليتم فيما بعد حملها وتقديمها هبة وقربانا. كتابي لا يبتعد عن المعنى الإغريقي للمفردة. كل مختارات هي شخصية بالضرورة. مختاراتي تتضمن مجموعة القصائد التي بقيت في ذاكرتي. إنها ثمرة قراءتي الذاتية للأعمال الكاملة لكل شاعر. يمكن القول إنني اخترت القصائد/الأصدقاء، لذلك فهذا الكتاب حميمي بالنسبة لي.

■ ما الذي دفعك إلى هذا المشروع؟

□ مختاراتي هي فعل ثقافي لا سياسي. تهدف إلى أسمى ما في الفعل السياسي، ألا وهو إظهار إنسانية السوريين ومحبتهم للحياة والجمال. هذه المختارات هي الصوت الروحي الأعمق للسوريين، لكن أفقها عربي إنساني بامتياز. ثمة كتب تصدر هنا وهناك لمدعين تتخذ من السياسي والمأساة عنوانا، ويتم الترويج لها عبر العامل السياسي، بوصفها أدبا، لكن لو سحبت السياسي التحريضي لما تبقى منها شيء. كتابي يأتي من منطقة بحثية محض شعرية. فالشعر لا يرتبط بزمن ومكان معينين، بل بالزمن والمكان الإنساني. أردت القول عبر هذه المختارات إن الشعر الذي كتبه سوريون هو نموذج للشعر العربي، الذي يرتبط بالزمن الإنساني وإن سماءه الحرية.

■ وماذا عن مختاراتك التي ترجمتها للفرنسية؟

□ ترجمة المختارات سمحت لي بالدخول إلى مشاغل الشعراء الحميمية، ومرافقتهم خطوة خطوة، في محترفاتهم الشعرية. في الترجمة تلتقي لحظتان لحظة القراءة ولحظة الكتابة، ويصبح المترجم قرين الكاتب وظله. كنت أسعى إلى تسمية العالم بلغة أخرى، وأبتعد عن الفصاحة، كأنما كنت أريد بذلك الإفلات من العزلة داخل لغتي الأم، والذهاب إلى الفضاء الواسع والتحليق فيه. مختاراتي هي للشعراء الخلاقين، المعلمين، بمعزل عن عدد الكتب التي أصدروها. الترجمة جعلتني أقرأ الشعراء قراءة عميقة، وأعمل حفريات في خطاباتهم الشعرية وأتعرف عليهم أكثر. ثمة شيء من الحب في هذه العملية.

■ ما هي المعايير التي راعَيتَها في الأنطولوجيا؟

□ لم أراع منهاجا أو معايير في خياراتي إلا ذائقتي. إنها قصائد تنتمي إلى الشعر المنثور والشعر العمودي وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. تغطي القصائد مدة تصل إلى قرن من الزمن. اخترت قصائد الحب والغياب والسفر والأمل والتوق إلى الحرية والالتحام بالعالم والذوبان في نوره. المختارات تدخل ضمن إطار الأدب المقارن، تم تحديد زمن لمتنها، لضرورات بناء العمل الأدبي، وتقسيمها إلى أربع لحظات شعرية، أخذت مدينة حلب منها لحظتين، فترتي الخمسينيات والثمانينيات، أما بيروت فغطت لحظة الستينيات، فيما أخذت سائر المدن السورية لحظة السبعينيات. لقد تجنبت كل الكتابات التحريضية القشرية. فأن تحشو قصيدتك أو تعنون كتابك بكلمات مثل حرية أو ثورة، أو حب، أو نساء، أو تتصور مع علم الثورة، أو قذيفة هذا لن يجعلك لا شاعر حرية ولا شاعر ثورة ولا شاعر حب.

■ هل توضح كيف تفرز وتنتقي وتتجنب أصواتا وتحتفل بأخرى؟

□ مختاراتي تسمح للقارئ العادي والمختص، بالقيام بإطلالة على التيارات الشعرية التي عصفت بحركة الشعر العربي خلال فترة زمنية معينة، عبر نموذجها السوري. أنا لا أؤرخ لتاريخ الشعر المكتوب في سوريا أو لشعرائها. المختارات عموما تقوم بدور الفيصل بين الغث والسمين، لكن حسب ذائقة صاحبها. البعض عمل أنطولوجيا لمتابعيه على الفيسبوك، والبعض الآخر عن الثورة، أو شعر النساء، أما أنا فعملت أنطولوجيا عن الشعر السوري المعاصر فحسب.

■ وبماذا تتسم هذه الحساسية الشخصية التي اعتمدت عليها أثناء العمل؟

□ أرى الشعر فعلَ إيمان، وشأنا روحيا يزرع فينا الطمأنينة، ويساعدنا على مواجهة قساوة العالم، فضلا عن قلقنا وأسئلتنا الأبدية. الشاعر مسؤول عن العالم كله في قصيدته. أناه هي أنا العالم، وفعله فعل كوني. خياراتي تتفق مع مفهومي عن الشعر. اخترت القصائد التي تحتفظ بالروحي الرومنسي بمعناه الوجودي. وهذا خياري ضد التجريب اللغوي المحض الذي يطرد العالم من القصيدة، ويقتل التصور عند الكائن، ويجعل الشاعر مجرد نحويٍ. اخترت الشعراء الذين يؤمنون بالروح الشعرية. لذلك فالقصائد تلتقي مع مفهومي عن الفعل الشعري ووظيفته الروحية، ومفهومي عن العالم أيضا. تلك هي حساسيتي التي تسهر عليها الرومنسية، كتجربة عميقة لا أفقية.

■ وما علاقة مختاراتك بالواقع والأحداث التي نعيشها؟

□ الشاعر يمرر الحدث في مشغله الشعري، فيصبح رمزا. الكتاب الذين يدَّعون الارتباط بالواقع، وهذه دعوة أيديولوجية، كانوا أكثر الكتاب انقطاعا وانفصالا عن هذا الواقع. من أراد أن يرتبط بالواقع، فما عليه إلا أن يذهب ويلتحق بالواقع الحقيقي، لا الإقامة في المواقع الافتراضية، وتقديم الدروس الخشبية عن الثورة من أوروبا وغيرها. الشعراء المختارون لم يذهبوا إلى قول الأحداث عارية، كما لم يقدموا تنويعات على السياسي الاجتماعي الأخلاقي، بل حولوا الحدث الشخصي والعام إلى رمز، وعبروا عن واقعهم شعريا، من دون أن يسقطوا في المطب السياسي التقريري، بلغة تقدم اقتراحات جمالية جديدة، وتسعى إلى تجديد حساسية القراءة لدى المتلقي، وهذه مهمة ثورية بامتياز.

■ كيف ترى الأنطولوجيات التي بدأت تظهر منذ بداية الحرب حول الشعر السوري؟

□ هذه الكتب معدة لأسباب لا علاقة لها بالشعر. دور النشر الغربية خصوصا، تستثمر في مأساة الدول التي تصيبها الحروب، وهي تقصر حضور هذه الدول على كتابات سياسية وشعاراتية تدعي تحرير المرأة. هذه المطبوعات تجاوب على طلبات السوق، من قبل مدعين أدوات لم يعيشوا لا الحرب ولا تشردوا ولا تهجروا ولم تقصف مدنهم. يتكسبون على دماء الضحايا. لو عملتَ كتابا عن المطبخ الحلبي أو الدمشقي، فأنت أكثر صدقا وجذرية في التعبير عن مجتمعك وشعبك من هذه الكتابات. ليس مطلوبا من الشاعر أن ينشئ حزبا، أو جمعية يتسول عبرها، أو يوثق لعدد القتلى، لأن الشاعر من اللحظة التي يبدأ بالتفكير بالسلطة، أي سلطة كانت، يتوقف عن كونه شاعرا.

■ هل كان لمواقف الشعراء السياسية تأثير على اختياراتك؟

□ لم أقم بعمل بروباغندا لهذا الاسم أو ذاك، ولم أحتم بقناع أو بشعارات أيديولوجية. كنت مع الشعر فحسب. أعتقد أنني باستقلاليتي كنت أقرب في التعبير عن الأعمق لدى السوريين، ألا وهو أصوات شعرائهم التي هي أصواتهم الدفينة. لا يمكنني كباحث وقارئ أن أحاكم النتاج الأدبي تبعا لمواقف الشعراء السياسية والأخلاقية والاجتماعية. أمامك طريقتان إما أن تحرق الكاتب، أو تحرق مؤلفاته، لكن ذلك لن ينفعك. كل الذين تم حرق كتبهم أو قتلهم، تحولوا إلى رموز كبرى في التاريخ.

لم أختر الشعراء لانهم يكتبون نصوصا وينشرون كتبا، بل لأنهم يقيمون علاقات مع العالم واللغة، ويخلخلون العالم ويجددونه عبر تجديدهم للشعر. فكتابي في الأخير لا يرتكز في خياراته على انتماءات الشعراء السياسية أو الدينية أو العرقية. إنه بانوراما أشكال وتيارات، وفضاءات للشعر المكتوب في سوريا. يأتي من خارج السياسي والبروباغندا التي عومتْ الكتابات التقريرية المبتذلة والضحلة، بوصفها أدبا سوريا عظيما باسم الثورة.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى