صفحات سوريةميشيل كيلو

نعم… الحرية أمن والامن حرية

 


ميشيل كيلو

تسمي بلداننا العربية أجهزتها القمعية ‘أجهزة أمنية ‘. لا يقول أي نظام أن ما لديه من أجهزة مهمته القمع، بل يقول إن ما لديه هو أجهزة أمن، فكأن الأمن والقمع شيء واحد أو وجهان لعملة واحدة يحملان اسمين مختلفين. في مثل هذه النظرة: من الطبيعي أن يكون الأمن مجرد قمع والقمع جوهر الأمن.

لكن الأمن في حقيقته الجوهرية مسألة لا تنفصل عن الحرية، بل هي تتوقف عليها وتتعين من خلالها، مثلما تتوقف هي على الأمن وتتعين من خلاله. في الوعي العام والبسيط، يقال عن شخص إنه آمن إن كان حرا لا يخشى مخاطر غير محسوبة أو منظورة تهدد وجوده أو شخصه أو بيئته، ويقال إنه حر إن كان آمنا: أي إن عاش وعمل وقال خارج قبضة أية قوة تنتهك أمنه.

حيث لا تكون الحرية مسألة أمن، يكون قمع، والأمن والقمع عالمان متنافيان لا يرتبطان بأي رابط، كما يظن من يمارسون الثاني منهما، فالقمع ينتج الكبت والخوف، هما نقيض الأمن لأنهما نقيض الحرية، لذلك تراه لا يقيم ولا يحفظ أمنا، وإن حافظ لبعض الوقت بالإكراه والقسر والخوف على أمر قائم، يتطلع ضحاياه إلى التخلص منه فيصير مصدرا للاضطراب لا الأمن، فإن تغيرت الظروف التي تستدعي، ثم تفرض، تغيير طرق التعامل الرسمي مع الواقع، ظهر ما يحدثه القمع من خلل هيكلي على حقيقته، وبات عبئا على النظام القائم. وليس سرا أن القمع هو علاقة عنيفة بين طرفين: قاهر ومقهور، غالب ومغلوب، ظالم ومظلوم، بينما الأمن تراض وقبول وإجماع من طبيعة طوعية وعامة غالبا.

من هنا: إذا كان القمع يضمن استمرار أوضاع قائمة، فإن وسائل وأساليب محافظته عليها كثيرا ما تكون أحد أسباب تقويضها، وسببا في انتفاء الأمن، وتاليا في التمرد أو الثورة على ما يفترض أن القمع يحميه ويعمل على إدامته. أصل هنا، إلى فارق ثان بين الأمن والقمع، إلى جانب فارق التراضي والإجماع الذي لا يكون بدونه أمن، ويقوضه القمع، هو أن القمع لا بد أن يكون حالة عابرة وجزئية، ذات مدى زمني محدود وتنصب على أشخاص بعينهم ومواضيع أو مناطق محددة، بينما الأمن لا يكون إذا لم يكن دائما.

وما دام القمع لا يجوز، ولا يمكن أن يكون حالة دائمة، ولا يجوز تاليا أن يشرعن بأية طريقة قانونية، عادية كانت أم استثنائية، فإن اعتماده كأداة لإدارة مجتمع ودولة أو سلطة يقوض المجال السياسي برمته، بما في ذلك الرسمي منه، أو يقلبه رأسا على عقب، بأن يجعله مجالا للتنافي وليس للتكامل والتفاعل المتبادل، ويشحنه بروح الإقصاء والإبعاد، التي تتركز على نفي الآخر: سياسيا وتنظيميا في الأحوال العادية، وجسديا في حالات التمرد والعصيان.

باختصار: لا أمن مع القمع ولا قمع مع الأمن، ما دام تطبيق القانون، وهو ركن من أركان تحقيق الأمن، يعني العدالة ويقوم على أجهزتها كالقضاء والصحافة الحرة، ولأن القمع يبطل بمجرد وجوده أي قانون غير قوانينه، التي تلغي حقوق من يخضع له، خاصة حقه في أن يكون مختلفا، وفي أن يجد فسحة يعبر من خلالها عن اختلافه.

ومن يتأمل القمع، يجد أنه يتمحور حول هذه النقطة بالذات: نفي الآخر، بينما الأمن، وهذا هو الفارق الثالث بينه وبين القمع، يرتكز على الاعتراف بشرعية وجوده وحقوقه، وعلى إقامة توازنات متوافق عليها يدار من خلالها الشأن العام وينظم حقل السياسة: سلميا وقانونيا وبالتالي شرعيا. لا عجب إذن أن الدول التي تعتمد القمع وسيلة للاستئثار بهذا الحقل هي أقل الدول أمنا، وأكثر تعرضا للصراعات العلنية والمكبوتة، المتفجرة دوما، التي تتعاظم تكلفتها من انفجار لآخر.

لا عجب أيضا أن الأمن يعني الحرية والمعرفة والتنوع والتواصل، بينما لا ينمو القمع إلا في شروط وأجواء تبطلها تقوم على الكبت والجهل والقطيعة والعزلة. ولعله بات واضحا أن البلدان التي تعتبر أجهزتها القمع حاملها السياسي وحزبها تعيش على عدد محدود من الشعارات التي تكررها في كل مناسبة، فإن اكتشف عجزها وفات زمانها استبدلتها بشعارات تفرض كقوالب جامدة على العقول، تتكفل التدابير القمعية طبعا بمنع أحد من إخراج رأسه منها، وإلا تعرض للعقاب. يضع يدنا هذا على فارق آخر بين الأمن والقمع، فالأول فضاء مفتوح، والفضاء لا يكون مفتوحا إذا لم يكن متنوعا وتعدديا وبالتالي مجتمعيا، والثاني سجن مغلق، وبالضرورة سلطوي، والسلطة التي تخاف مجتمعها، وتنكر حقه في أن يكون متعددا ومنفتحا، تقمعه، فالقمع علامة خوف لا قوة، وإن أخذ على الدوام أشكالا عنيفة يخال أصحابه خطأ أنها تعبر عن القوة أو تعادلها، فيمعنون في تبنيها، مع أنها تستفز أشكالا مختلفة من التمرد، تأخذ أكثر فأكثر طابعا مجتمعيا وعاما.

ليست السلطة القمعية سلطة أمن. لو كانت كذلك، لما احتاجت إلى الشدة والقسر في تعاطيها مع مواطنيها، ولاكتفت باللعبة السياسية الحرة، ولما كانت ضعيفة أو غير مستقرة، ولما تعرضت بين حين وآخر لهزات واضطرابات تتزايد شدتها، ولما مارست سياسات محافظة منفتحة على آفاق رجعية مفتوحة ومؤدلجة، تخشى الجديد وتنبذه وتعمل لكبته، وتخاف التغيير وتحارب القائلين بضرورته، ولما هزمت، أخيرا، أمام المهام الكبرى التي تنجزها سلطة شرعية تدير شؤون دولة مدنية، ولحققت بنجاح إنجازات تغطي جميع مناحي وجود ومصالح الدولة والمجتمع والفرد، ولأرست كيانها على المواطنة وحقوق الإنسان وحكم القانون، وأخضعت مفهوم القمع وممارساته لمبدأ الأمن، وهو سياسي بامتياز، ولما ألحقت الأمن بالقمع وهو نقيضه الذي ينفيه، ولما صرفت جهودها إلى السيطرة على شعبها واحتلال عقله بواسطة لا وعي جمعي، دمجي وأحدي المضمون والألفاظ، ولرأت أخيرا في الحرية حاضنة وضمانة أمنها، ورافعته وحامله، وفي الأمن بيئة الحرية، التي تقوم بدورها على التنوع والتواصل، ولا تنمو وتتوطد خارج السلام الأهلي والمدني، والمواطنة والازدهار.

الأمن من طبائع الدول، التي تنتج نفسها وشرعيتها من تحت، من مجتمعها، والقمع شريعة سلطة تعمل لإنتاج مجتمعها من فوق، من رأسها، ليأتي على صورتها ومثالها، ويستكين إلى ما تفعله، حتى دون تدخل منها.

لهذا، تكون السلطة ومصالحها هي المسألة المركزية الوحيدة في نظم القمع، حيث يعد كل شيء ثانويا وتاليا بالمقارنة معها، بينما يترتب الأمن على توافق في الفضاء المجتمعي بين قوى وتيارات متنوعة تعبر عن نفسها بواسطة كيانات سياسية مختلفة، تبدأ من أدنى السلم الاجتماعي وتصل إلى قمة الدولة، يعلم كل من يشارك فيها أو يسهم في نشاطها من المواطنين الأسس التي تنهض عليها وطرق عملها، بما أنها تعيش من العلانية وعليها وتموت بدونها، بينما لا يعلم أحد في القمع أي شيء عن طرق عمله وعن القائمين عليه، لأنه يتصرف في البلدان التي يجسد روح سلطتها القائمة وكأنه تنظيم سري يجب أن يبقى بعيدا عن الأنظار وخفيا، وإلا وقعت الواقعة وعرضته العلنية للضعف والانكشاف!.

أخيرا، الأمن مفهوم ومبدأ شامل، والقمع أجهزة وممارسات سلطوية، لذلك لا يقوم الأمن إلا حيث يكون محصلة تفاعل قوى متكاملة، أي متباينة ومتعارضة، فهو ليس هنا حامل السياسة ومحددها، بل يتوقف هو نفسه على محددات تقع خارج مجاله الخاص: مدنية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية، ولا يتوفر حيث ينعدم التوازن والتفاعل بين قوى غير أمنيه الطابع والوظيفة. بالمقابل، تحمل أجهزة القمع الحقل السياسي الذي ينفرد به النظام القائم، وتصبح أكثر فأكثر الجهة التي تعيد إنتاجه وتقرر مصيره، والتي تعود إليها كل سياسة مهما كان مجالها وميدانها. بالنسبة إلى القمع، السياسة خطر ماثل ونشاط محظور أو مقيد، لكنها بالنسبة إلى الأمن مادة الدولة والمجتمع، وفضاء الشأن العام.

كانت أجهزة القمع في تونس ومصر تعتدي بانتظام على أمن المواطنين، الذين يقولون اليوم بطلاقة: إنهم لم ينعموا بالأمن إلا بعد إطاحة أجهزة القمع والتخلص منها، بانتصار الحرية. ألم تقل عزة نجم بعد سقوط مبارك وتشتت أجهزة أمن النظام المصري السابق: جه الأمن، ما فيش خوف تاني، ما فيش ظلم تاني؟

بينما قال المواطن التونسي وصاحب المقهى الشعبي أحمد الحفناوي بعد سقوط نظام القمع: لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية، لحظة الحرية، وبدأنا نشعر بالأمن!.

لا يتساوى الأمن مع القمع. إنه نقيضه المباشر. وليس الأمن ولا يمكن أن يكون نتاج القمع. الأمن حرية، والحرية أمن. أما القمع فهو نفيهما. لا عجب أن المواطن العربي في تونس ومصر رأى في سقوط نظامي القمع هناك بداية زمن الأمن والحرية، بما هما أسمان لمسمى واحد، يثري كل منهما الآخر ويغتني من خلاله، في زمن عربي جديد نأمل جميعا أن يقوم على الحرية والأمن!.

‘ كاتب وسياسي من سورية

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى