صفحات العالم

سوريا بين الهدنة والتسوية


سليمان تقي الدين

انعطفت الأزمة السورية في طريق التسوية. استنفد الطرفان المتصارعان قدرتهما على الإلغاء. كان يمكن معرفة ذلك قبل هذا الاختبار الدموي الرهيب. لكن الأهم الآن استخلاص العبر والدروس حتى لا تكون النتائج الحالية سبباً لتجارب أخرى.

لا يوجد منتصر، وحجم الخسائر الوطنية يفوق كل تقدير. تخلّع المجتمع السوري وفقد الكثير من عناصر قوته ومناعته. انفتحت سوريا على تأثيرات الخارج كما لم يحصل في أي زمن سابق. لم تسقط الدولة لكن اختراقها حصل تحت سلطة قرارات مجلس الأمن والمراقبة والمحاسبة.

كل حديث عن استنقاذ السيادة لا صدقية له. كل منطق المواجهة مع الغرب والمؤامرة وانحياز المجتمع الدولي انهار أمام هذه المظلة الأميركية الروسية التي تدير التسوية. خسر العرب موقعاً آخر كان يتمايز عن سياسات الاحتواء الدولية. إذا لم تكن لدينا هذه الرؤية الواقعية نظل نرتكب الأخطاء ونضع لافتات النصر.

انكسرت المركزية السياسية للنظام وضعفت شوكته وانشلّت بعض أدواته وحصلت المعارضة على اعتراف بوجودها وشرعيتها برغم كل تشوّهاتها. قد يكون كل هذا بداية مسار للنهوض بسوريا في مشروع سياسي جديد وقد يكون بداية مسار التفكّك. على السوريين الذين تحوّلوا إلى كتل وجماعات خارج العقد الأمني الإكراهي أن يواجهوا هذه المعطيات وأن ينطلقوا منها في الاتجاه الصحيح. كانت «المصالحة» مطلباً قديماً وصارت اليوم فريضة وطنية. ضحايا العنف المتبادل، أشكال العنف البشعة، التأثيرات على التعايش والتواصل والتعاون، تفترض المصارحة والمصالحة.

يقوم الخارج الآن بالتفاوض عن السوريين. هذه حقيقة لا يفيد إنكارها. القوى الدولية والإقليمية هي التي ترسم التوازن السياسي والأمني وإلى حد بعيد دور سوريا وموقعها. على الشعب السوري أن يدير الحوار الوطني بنفسه للحد من خسائر هذه الوصاية.

حبذا لو أن المعارضة من غير وهم اتحادها، وهي معارضات ومصالح وارتباطات، تبلور مشروعها السياسي وخطابها للسوريين. علينا أن نعرف بالضبط ما إذا كانت هذه المعارضة قد صارت تابعة للجماعات المسلحة ومنخرطة في نزاعات النفوذ الإقليمية، أم أنها فعلاً تستطيع أن تصوغ برنامجاً لسوريا ديموقراطية حديثة يأخذ مصالح الشعب السوري كهدف، حتى لو كانت ضعيفة التنظيم أو ضعيفة الارتباط المادي بحركة الاحتجاجات الشعبية. إما أن تكون المعارضة قيادة سياسية أو تتحول إلى زائدة وطارئة على المشهد الوطني.

هل يمكن الآن لهذه المعارضة المرتبطة بحاجات الشعب وتطلعاته أن تعيد تقديم مطالبها في جدول إصلاحات، في مجموعة من الخيارات الدستورية والانتخابية والاقتصادية والوطنية، أم أنها أسيرة تلك اللحظة التي فجّرت تناقضات المجتمع فصارت ملتحقة واستعراضية؟

لا عذر الآن لهذه المعارضة المكبوتة سابقاً وقد ارتفعت إلى المنابر الدولية إذا لم تقدم مبادرتها وأوراق مطالبها وملفات قضاياها لحوار وطني هدفه التسوية التي تطمح إلى صياغة الدولة السورية كحاضنة وطنية، وليس إلى تفكيك هذه الدولة بحجة تغيير النظام. قد يكون الوقت ملائماً في ضوء هذه الجولة التدميرية التي حفّزها الخوف المتبادل أو الكره أو الوهم أو الرهان وسوى ذلك.

اللبنانيون الشركاء، على أكثر من صعيد، للسوريين يستعيدون تجربتهم لكي يلفتوا إلى المنزلقات الخطرة التي تؤسس لنزاعات ليست في أصل المشكلة وليست في متناول القوى المحلية ولا طموحاتها.

علينا أن نحذر من كل مبادرة خارجية، ونحن نرى مشاريع الحلول تدور فوق رؤوسنا والمراقبين الدوليين يأتون لفحص نوايانا وسلوكياتنا. وعلينا أن نتواضع أمام كرامة شعوبنا ونعترف بأن «الأجنبي» قد دخل مجدداً إلى بيوتنا وإلى إرادتنا بعناد منّا أو بغير وعي أو بسبب وجاهة السلطة والمطامع. لا شيء مما يجري في سوريا يطمئن ونحن ننتظر حبكة البيان وبنوده وتفاصيله في مجلس الأمن بالنيابة عنا وبالوكالة عن كياناتنا حكّاماً ومحكومين. ولا شيء يثلج الصدر في أن تنعقد الحوارات الإقليمية على دور إيران وكم سيكون لها من نصيب في أمننا وكم يبقى لها من مساهمة في دعم قضايانا. ولا شيء يوحي بالأمل حين ينكشف معظم النظام العربي عن حماية أميركية مزعومة بوجه التحدي الإيراني ثمنها هذا الاستنزاف المتمادي لثروات المنطقة والتشويه المتعاظم لثقافتها والتأطير المتعمّد لحراك شعوبها تحت سقف التبعية والهيمنة وكأننا بلا إرادة وبلا خيار. لقد صار مسلسل الأزمات المتفجّرة أشبه بمشاريع تعهدات لهذه الوصاية الدولية في اليمن وليبيا والبحرين والسودان وكأننا نضع كل الداخل العربي جملة وتفصيلاً على مائدة التنافس الدولي. لم نكن نستطيع حل مشكلاتنا القومية وصرنا عاجزين عن حل مشكلات كياناتنا الصغيرة وعلاقات التنافر بين حكّامها ومحكوميها.

منذ عقدين أو ثلاثة نحن كعرب جدول أعمال الأمم المتحدة شبه الوحيد. نحن هدف القرارات التي بدأت بحروب العراق حتى حرب لبنان.

نحن العالم الوحيد الذي يتدخل الأجنبي في شرعية حكوماتنا ويدلي بدلوه في أحزابنا ورموزها ويرعى ويحضن ويدجّن ويفاوض ويساوم حركات سياسية تدّعي القداسة الدينية. نحن وحدنا من لا يقايضنا الغرب إلا على أمننا. نحن من يشغلنا الغرب ونشغله باستخفاف بقضايا تجاوزتها كل شعوب الأرض، ونقبل أن ينزع من أولوياتنا التحدي الصهيوني عموماً والتجاهل المتمادي لقضية شعب فلسطين.

فهل تكون سوريا خاتمة الأحزان أم خاتمة عهود الاستقلال الذي لم نستحقه بعد؟!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى