صفحات الثقافة

هل ينقذنا الشعر من الشاعر؟


الياس خوري

كان احتفال الكنيسة المارونية اللبنانية ببلوغ الشاعر سعيد عقل عامه المئة كئيباً ومثيرا للأسى. فعلى الرغم من الاطار الجامعي الذي وُضع فيه الاحتفال، فــــإن طابعه الطــــائفي المحدد والمحدود القى بظلاله على كل شيء. بدا الأمر وكأن الشاعر هو الناطق الأخير باسم قبيلة لم تعد تستطيع ان تتكلم الا لنفسها.

الكآبة التي طبعت الاحتفال، لا تمت بصلة الى شعر سعيد عقل او الى مواقفه السياسية والفكرية، فقد ملأ الرجل الدنيا بضوضاء شعره، قبل ان يملأها بعظامية لبنانوية مصنوعة من كوميديا البلاهة، لينتهي الى ذلك الموقف المخجل والعنصري خلال الحرب اللبنانية، والى اعلان فرحه بالاحتلال الاسرائيلي للبنان عام 1982.

رجل تحوّل من مهرّج اللغة العامية والحرف اللاتيني الى داعية للقتل، عندما صكّ خلال الحرب اللبنانية شعاره العنصري ‘على كل لبناني ان يقتل فلسطينيا’، وانتهى به المطاف مع رفيقة شعره مي المر الى مدح شارون والتغني بجيش اسرائيل.

لكن سعيد عقل ليس مجرد عُظامي اخذه فشل مشروعه اللبنانوي الى هاوية العنصرية، انه شاعر، وربما كان احد اهم شعراء المدرسة اللبنانية، اذ اوصل هذه المدرسة الى ذروتها الرمزية، وصنع ارضية الحداثة الشعرية العربية، في اعماله الكبرى: ‘بنت يفتاح’، ‘قدموس’ و’رندلى’.

هل يستطيع الشعر انقاذ الشاعر؟

لا اعرف الجواب، لكنني شعرت بالأسى وانا ارى الرجل الذي صار في عامه المئة، جالسا على الكرسي المتحرك، محاطا بطغمة الاكليروس، وهو يتلقى عبارات المديح عن انجازات عمر ضاع اكثره في هباء الكلام.

ما العلاقة بين الشعر والهباء؟

في كتابه النثري ‘لبنان ان حكى’، بدأ ذلك الهوس الذي لا معنى له، وارتفع الشعار الأجوف عن لبننة العالم، وبدا وكأن الشعر لم يعد يكفي. وصل الشاعر الى ذروة لم يعد يستطيع البقاء فيها. انتشى بنفسه وانصرف الى تأسيس لغة لبنانية مكتوبة بالحرف اللاتيني، ووجد شعره مكانة خاصة في التراث الفيروزي- الرحباني. لكن الزمن كان يتغير، بدأ المشهد يختلف جذرياً مع شعر الحداثة، اختفت صنمية اللغة الذهبية، التي كان سعيد عقل آخر رموزها، وجاء السيّاب بأنشودة مطره ليقلب المشهد الشعري رأسا على عقب، ودخل الشعر في الاسطورة والبحث عن المعاني، وانكسر عمود الشعر الذي انتمى اليه سعيد عقل عبر رخام الكلمات.

كان سعيد عقل آخر الشعراء العباسيين، لكنه ولد في غير زمنه، وفي غير مكانه. كان يجب ان يكون هناك، الى جانب الشعر المحدث في العصر العباسي. لذا لم يكن امامه سوى ان يستبدل محدث ابي تمام برمزية فاليري، ثم وجد نفسه اسير قاموسه ورؤيته للجمال المصنوع من المرمر، فانكفأ الى ما يشبه العجز وعبد اللغة العربية ثم كرهها، وانصرف الى عبادة ذاته.

كان يمكن للظاهرة السعيد عقلــــية ان تكون حكاية ادبيــة أخرى تجد لنفسها مكانا في كتاب الأغاني الحديـــثة الذي ينتـــظر كاتبه، وان يجري التعامـــل معه في وصـــفه مؤلـــف ‘رندلى’، وهو من عيون دواوين العرب، وان ننظر الى لغته اللبنانية البائسة في وصفها جنوناً اصاب الشاعر عندما عجز عن تطويع لغته لمقترب الحداثة. لكن سعيد عقل اطاح هذه الحكاية عندما اعلن نفسه اماما للعنصرية، وحوّل لبنانويته الى ممسحة لتاريخ الطغاة والصهاينة، وارتضى ان يكون اول المرحبين بجيش الغزاة.

لا شيء يمحو هذا العار الأخلاقي. لقد مرّغ سعيد عقل نفسه بعار الاحتلال، واساء الى الشاعر، ومحا صورته بيده التي كتبت عن الضحية الفلسطينية ما لم يجرؤ الصهاينة انفسهم على البوح به.

لذا كان تكريم الشاعر بائساً، وبدت سنوات العمر وكأنها عبء على الشاعر، وصار الرجل الكهل الذي يتلقى التكريم العدو الأخير للشاعر الذي يستحق ان يجد مكانه ومكانته في تاريخ الشعر العربي.

هل يستطيع الشعر انقاذ الشاعر؟

لا اعتقد، فالرجل حكم على نفسه بنفسه ولم ينتظر حكم التاريخ. جلّ ما يستطيع الشعر ان يفعله هو ان ينقذ نفسه من شاعره، وهنا تأتي احدى المفارقات الكبرى التي لا يستطيعها سوى الأدب.

الشعر ينقذ نفسه من الشاعر، ويدخل في المدونة الأدبية الكبرى مُجردا من صاحبه، هذا ما تبقى لسعيد عقل، بعد سنوات الدم اللبنانية الصاخبة.

هنا فقط نستطيع ان نستعيد الشعر ونتغنى برندلى وبموسيقى الكلمات:

‘مُرخىً على الشعر شالْ

لرندلى

هلا هلا

به بها

بالجمالْ’.

او نبحر مع ذاكرة الجمال: ‘اجمل من عينيك حبي لعينيك’.

او نذهب مع صوت فيروز الى بردى:

‘مُرَّ بي يا واعداً وعدا

مثلما النسمة من بردى

تأخذ العمر تبدده

آه ما اجمله بددا’.

او نذهب الى الأغنية باللهجة العامية وننتشي:

‘يا ريت

انت وانا بالبيت

بشي بيت ابعد بيت

ممحي ورا حدود العتم والريح

والتلج نازل بالدني تجريح’.

او نسكر بحب لا يلائم مزاجنا لكنه يثير فينا صورة لما لن يكون:

‘لوقعُكِ فوق السريرِ مهيبٌ

كوقع الهنيهةِ في المطلقِ

لأنكِ في الليلِ فالليلُ نارٌ

ونارٌ يداكِ على مفرقي’.

بردى لم يبدد العمر، لكن الشاعر بدد صورته، فصار تكريمه عبئاً على الشعر، ودخل سعيد عقل في سجن الطائفية الذي ادعى براءته منها، لكنه كان الناطق الأخير باسمها.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى