صفحات العالم

عبدالناصر والاخوان والثورة


الياس خوري

من المنطقي والعقلاني ان اتفق مع شريف يونس وخالد فهمي والعديد من المثقفين المصريين، على ان ثورة 25 يناير لم تُسقط حسني مبارك عن عرش جمهوريته الوراثية فقط، بل قامت ايضا باسقاط المنظومة الشرعية التي اسسها الإنقلاب العسكري الذي اتخذ شكل تغيير اجتماعي وسياسي كبير واصطلح على تسميته باسم ثورة 23 يوليو.

كما ان قراءتي الشخصية لهزيمة الخامس من حزيران/يونيو، اوصلتني الى قناعة بأن شرعية الانقلاب العسكري تهاوت بعد فضيحة الفشل في بناء جيش قوي، وبعد هزيمة كارثية حلت بمصر خلال ثلاث ساعات استغرقتها عملية تدمير سلاح الطيران. فتفكك الجيش وتشرّده في سيناء كان دليلا على ان البنية نفسها كانت مضروبة، اذ رغم الكارثة التي حلت بالطيران، وهي غير مفهومة عسكريا الا بوصفها تقصيرا يعادل الجريمة، فإن انهيار الجيش لم يكن حتميا، الا لأنه كان فاقد الأهلية لخوض الحرب.

ومع ذلك فإن عبدالناصر لا يزال يحتل مكانة خاصة في وجدان الكثيرين، وهذا ما جعلني انتشي وانا استمع في ميدان ‘عابدين’ في القاهرة، الى اغنية ‘وطني حبيبي الوطن الأكبر’، واهتف تحت صورة كبيرة لناصر مع الجموع التي احتشدت من اجل اعلان تشكيل التيار الشعبي المصري مساء الجمعة 21 ايلول/سبتمبر.

هل هي النوستالجيا الى صورة الأب؟

كان عبدالناصر يحمل صفة مزدوجة: كان الأب بما تحمله الأبوة من مهابة وشعور بالآمان، وكان الابن بما يعني ذلك من استعداد الناس لمغفرة الأخطاء. وهو عكس خلفائه ومقلديه من المستبدين العرب، الذين استبدلوا صورة الزعيم الأب بصورة الوحش المخيف. لا يمكن ان يرى المواطن في تماثيل المقلدين الكاريكاتوريين لناصر وصورهم سوى الترهيب والتخويف، فهم فوق الناس، وضخامتهم توحي بقدرتهم على دوس الجميع بأحذيتهم.

اغلب الظن ان فرحي وفرح يسري وناهد نصرالله ومجموعة الأصدقاء والصديقات المصريين الذين كانوا معي، وهؤلاء لم يكونوا ناصريين بل كانوا من اشد المنتقدين للتجربة الناصرية، باستعادة شيء من اجواء الحقبة الناصرية، جاء من مكان لا علاقة له بالحنين، بل من لحظة مرتبطة بمسألتين:

الأولى هي المناخ السياسي والثقافي في مصر بعد انتخاب الاخواني محمد مرسي رئيسا. فلقد حملت خطب الرئيس الجديد شيئا من ثأر الجماعة من الخمسينيات و الستينيات، اي من زمن ناصر، حين استطاع الرجل ان ينتصر ايدولوجيا وسياسيا على الفكر الاخواني، عبر مشروعه السياسي المناهض للهيمنة الاستعمارية، وعبر مشاريع التصنيع التي بدأها مع السد العالي، وعبر محاولته بناء دولة الرعاية الاجتماعية. لن اكرر المكرر هنا لأقول ان مقتل التجربة كان في تسليط حكم المخابرات واخراج الشعب من السياسة، فالبنية الديكتاتورية لم تحصّن النظام الا لتقوِّضه بعد ذلك، وهذا ما اشارت اليه السهولة النسبية التي حقق فيها انور السادات انقلابه السياسي على الناصرية.

غير ان نجاح الاخوان الانتخابي، والذي يعود جزئيا الى عجز التيارات القومية واليسارية والليبرالية والاسلامية المستنيرة عن التوحد في مشروع سياسي- انتخابي، اعاد النقاش، ولو بشكل موارب، الى الماضي. لكن لا بد من التنويه بأن تجربة ميادين الثورة منعت الشطط الذي كان من الممكن ان يدمر كل شيء، فيما لوتم الانحياز الى مرشح النظام القديم احمد شفيق بصفته ممثلا للمؤسسة العسكرية التي انتجت الناصرية.

هذا الثأر من ناصر، لم يأت بسبب اخطاء نظامه، بل جاء نتيجة العقلية القديمة التي تحكمت بالاخوان، وقادتهم الى اخطاء سياسية قاتلة في زمن ناصر، وقد تقودهم اليوم الى مصير مشابه.

والثانية هي شعور نخب الثورة وشبابها بأن ميدان التحرير قد سُرق منها. وان الجماعة الاخوانية التي ترددت في الانخراط في الثورة في البداية، ثم راوغت ورقصت تانغو التعديل الدستوري مع المجلس العسكري، كشفت عن مشروعها الذي يجسده المليونير خيرت الشاطر، الذي يستعد للعب دور احمد عز في النظام الجديد، وفاوضت الامريكان وقدمت كل التنازلات المطلوبة، قد نجحت في الاستيلاء على السلطة والثورة، وهي تسعى اليوم الى أخونة مؤسسات الدولة.

خيبة الأمل شعور سابق لأوانه. فالثورة ليست نشوة ايام ميدان التحرير التي تحولت الى اسطورة مصرية جديدة، بل هي مسار طويل ومعقد وبالغ الصعوبة. الثورات ليست جميلة الا في الكتب، لكنها في الواقع اليومي مريرة وصعبة ومأسوية ايضا. والناس لا تثور كي تتمتع، لأنها تعلم ان نشوة الثورة قصيرة، وان ما ينتظرها هو الهول. لا يثور الناس الا حين تنفجر الثورة فيهم، اي حين تصير الثورة مسألة لا مفرّ منها، لأن الناس لن تخسر فيها سوى قيودها. والا كيف نفسّر هذا الاصرار البطولي الاسطوري الذي يبديه الشعب السوري على الاستمرار في ثورته، رغم الدمــار والقتل والمجازر والقصف الوحشي.

انتخاب مرسي كان متوقعا ومنطقيا، فالنظام القديم تم استبداله بالقوة الوحيدة المنظمة التي بنت نفوذها من خلال شبكات اجتماعية، ومد ايديولوجي اصولي، احتل الفضاء الاعلامي من الخليج الى الخليج. لكن هذا قد يعني ايضا ان حكم مرسي وجماعته ليس سوى مرحلة قد تقصر او تطول. سقوطها ليس مرهونا بفشلها في تقديم حل لمشكلات مصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فقط، بل مرهون ايضا بمدى قدرة البدائل السياسية من ديموقراطية وقومية ويسارية على تعلم السياسة والتشكل في قوى منظمة وفاعلة وتحمل رؤية جديدة.

هذا لا يعني ان بديل الاخوان سوف يكون عودة الناصرية، فالناصرية كمشروع لا يقوم بغير ثلاثة عوامل: الجيش والزعيم الكارزمي والأزمة العامة.

مصر في ازمة انتقال، لكن بعد عقود طويلة من حكم االجيش وصيحة الميدان باسقاط حكم العسكر، فمن غير الممكن ان يملك الجيش شرعية الحكم، خصوصا بعد اخراج الفاكهة الفاسدة من مواقعها بسهولة مطلقة، مثلما حصل مع المشير طنطاوي والفريق عنان، اما الزعيم الكاريزمي فلا وجود له ولا جدوى من انتظاره.

العودة الى اغاني مرحلة الناصرية، ليست سوى محاولة لبناء توازن نفسي في مواجهة صعوبات المرحلة الجديدة من الثورة المصرية، توازن يستعيد شيئا من المعاني، وينقذ اللغة السياسية من التسطّح الذي يسم الفكر الأصولي، لا اكثر. اما المستقبل فمرهون بنضج النخب السياسية المدنية وقدرتها على تقديم رؤية من اجل ان تكون مصر وطنا لجميع ابنائه بطوائفهم المختلفة، حيث تسود قيم المساواة والعدالة.

عند خروجنا من ميدان ‘عابدين’، قال احد الأصدقاء ان تحليلي جيد ومنطقي، لكنه لا يتناسب مع نشوتي في الميدان، وسألني اذا كنت احب عبدالناصر.

طبعا احبه، ولكن!

ابتسم صديقي وطلب مني ان لا استخدم كلمة ولكن، وقال ان مصر الحديثة عرفت حضورين لا يمكن مقاومة سحرهما: ام كلثوم وجمال عبدالناصر.

هذا صحيح قلت، واردت ان اكمل بكلمة ولكن، لكنني وجدت ان هذه الكلمة لم تكن مناسبة في تلك اللحظة على الأقل.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى