مراجعات كتب

وليام ت. كافانو مفككاً «أسطورة العنف الديني»/ محمد مهدي عيسى

 

 

«لماذا يكرهوننا؟» سأل جورج بوش أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول. ولأن الأسطورة جاهزة دائماً لتقديم إجابات يصعب تفنيدها وإخضاعها للمساءلة، وبالتالي قادرة على التملص من مراجعة تاريخ السياسة الخارجية للنظام الأميركي، فقد وجد بوش الجواب فوراً: «إنهم يكرهون حرياتنا؛ حريتنا الدينية وحريتنا في التعبير عن آرائنا». تبرير بوش يجد مرجعيته في واحدة من أكثر الأساطير شيوعاً في الغرب، هي: «أسطورة العنف الديني» التي تقول إن الدين ذو نزعة أصيلة مشجعة على العنف، ينبغي الحد من تبعاتها وآثارها المدمرة بالحؤول دون وصول الدين إلى السلطة العامة. أما إن لم نفعل ــ أو لم يفعلوا ــ فإن حرياتنا بل وجودنا سيظل مهدداً وآيلاً إلى التلاشي في أي لحظة.

عليه، يمكن عد كتاب وليام ت. كافانو، أستاذ الدراسات الكاثوليكية في «جامعة دو بول»: «أسطورة العنف الديني: الأيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث» (2009) الذي نقلته «الشبكة العربية للأبحاث والنشر» أخيراً إلى المكتبة العربية (ترجمة أسامة غاوجي)، نوعاً من الفضح العلمي لالتباسات هذه الأسطورة وهشاشتها انطلاقاً من مساءلة ادعاءاتها التفسيرية. خلافاً لتوجهات باحثين آخرين سعوا إلى تبيان خطورة العنف المتولد عن المؤسسات العلمانية في محاولة لإعادة توزيع اللوم بين العلماني والديني، أو إلى نزع الصفة الدينية عن صانعي العنف باسم الدين، يتخذ كافانو طريقاً آخر أكثر جدية. يطرح إشكالاً تجاوزته البحوث المغلفة بالبداهة: كيف تم تأسيس ثنائية الديني والعلماني؟

في مقدم كتابه، أي بعد تحليله لآراء عدد من الأكاديميين حول منشأ العنف الديني، يخلص كافانو إلى أن اللبس الحاصل عند هؤلاء في التمييز بين ما هو ديني وما هو علماني، راجعٌ في أساسه إلى تشوش ظاهر في مسعاهم إلى تعريف الدين تعريفاً مقنعاً وقادراً، ومن ثمَّ الفصل بين العنف الديني والعنف العلماني. فالتناقض الداخلي والتردد بين توسيع دائرة تعريف الدين، لتشمل أدياناً لا تؤمن بالمفارق كالكونفشيوسية أو البوذية مع ما يؤديه ذلك من إدخال لظواهر علمانية كالشيوعية والقومية في الدائرة نفسها، أو تضييقها وما يعنيه ذلك من إبعاد لعدد كبير مما يمكن أن يكون ديناً، هو العقبة الأولى التي عجز هؤلاء الأكاديميون عن تخطيها. أما الثانية، فتقع في الفهم الجوهراني للدين حيث يُدرس الدين بوصفه مكوناً عابراً للتاريخ وللثقافة، وهو ما يثبت كافانو بطلانه. إذ يحاجج بأن مقولة الدين هي مقولة اخترعها الغرب كجزء من أيديولوجيته الناشئة إبان عصر الحداثة وتحت تأثير توزيع وترتيب جديد للسلطة انعكس في إقامة ثنائيات: العام/ الخاص، الكنيسة/ الدولة، الدين/ السياسة… واحتكار الدولة للعنف الداخلي وتدشين مشروعها الاستعماري. إن تأسيس هذه المقولة هو الذي سمح بالفصل بين العلماني والديني؛ فما دام الديني محدداً ومتميزاً، فإن عملية الفصل ممكنة. وبما أنها ممكنة، فإن الخلط بين المجالين، ما هو إلا تعصب وطائفية وعنف غير مبررين.

لقد أسهم اختراع هذه المقولة كذلك في تسهيل عملية نقل الولاء العمومي من المسيحية إلى الدولة القومية. من خلال قدرتها على الفصل والتخصيص، فقد جنبت المواطن المسيحي عيش صراع الولاء بين الدولة والكنيسة. ولهذا لم تكن مقولة الدين «وصفاً لواقع اجتماعي جديد، بل إنها ساهمت في جلبه إلى الوجود وتدعيمه». أما مفهوم الدين خارج الغرب، فلم يتأسس إلا تحت تأثير الاستعمار الغربي. على سبيل المثال، لم يكن في الهند ما قبل الاستعمار مصطلح مكافئ لمصطلح الدين؛ حتى إن مصطلح «هندوسي» لم يكن معروفاً في الهند الكلاسيكية. أما البوذية، فلم تكن ــ حسب فيليب ألموند ــ إلا ابتكاراً غربياً ظهر في مكتبات الاستشراق وفي المعاهد الغربية، والأمر نفسه ينطبق على الكونفشيوسية والشنتو. لكن ما الهدف من تأسيس مقولة الدين خارج الغرب؟ إن هذه المقولة التي تولدت بهدف التغريب والتحديث، تشكل بحسب كافانو أداة للعلمنة وتطويق العناصر المهمة في الثقافات غير الغربية، وتحويلها إلى شؤون فردية منفصلة عن الشأن السياسي العام. وهذا ما يضمن تطويع إرادة المستعمَر وإحكام سيطرة المستعمِر عليه.

يصف كافانو أكثر القصص استحضاراً عند الحديث عن عنف الدين وهي قصة الحروب الدينية بين الكاثوليكية والبروتستانتية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بأنها أسطورة الخلق الخاصة بالحداثة. وصف هذه الحروب بالحروب الدينية هو أول ما يستوقف كافانو. فالحروب ــ كما يبين أكثر من مرجع تاريخي ــ لم تكن بين البروتستانت والكاثوليك حصراً كما يشاع. إذ نشبت حروب بين الكاثوليك بعضهم بعضاً وأخرى بين اللوثريين أنفسهم، في حين تحالف اللوثريون والكاثوليك في أكثر من موضع. فإن قلنا مستنتجين بأن عوامل غير دينية كانت مؤثرة في تسعير هذه الحروب والنزاعات، فإلى أي حد يمكن فصل العوامل السياسية والاقتصادية وغيرها عن العامل الديني لنقيس أثر كل عامل في إشعال هذه الحروب؟ إن عزل الأسباب وقياس حجم تأثيرها أمر متعذر كما يعتقد كافانو، وبالتالي فإن تحديد المسبب الموضوعي لهذه الحروب ليس بالسهولة التي يظنها بعضهم. أما بخصوص الجزء المكمّل للأسطورة ــ القصة، الذي أقره فلاسفة الحداثة الأوائل كسبينوزا وهوبز ولوك ثم تبناه الفلاسفة والمفكرون الليبراليون المعاصرون كرولز وفوكوياما والقائل بأن الدولة الحديثة هي التي وضعت حداً لهذه الحروب الدينية، فإن كافانو يتبنى رأياً راديكالياً مخالفاً يقول بأن نشوء الدولة الحديثة لم يكن حلاً لهذه الحروب كما يصور هؤلاء، وإنما كانت نفسها سبباً لإذكائها في صيرورة انتقال السلطة من الكنيسة إليها أو بمعنى آخر «هجرة المقدس» من الكنيسة «الى الدولة المدنية» إله هوبز الفاني. إن الدولة الصاعدة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والساعية إلى حصر السلطة في يدها مع ما يعنيه ذلك من مواجهات داخلية من أجل دمج سلطة الإكليروس والمدن والإقطاعيات المستقلة تحت سلطتها، ومواجهات خارجية من أجل تعديل حدود أراضي هذه الدولة، لم تكن الخلاص من دوامة العنف وإنما هي متورطة في تسعيره وإطالة أمده.

هذه الأسطورة الخاضعة في نشأتها وازدهارها وشيوعها لترتيبات السلطة ومحدداتها بحسب كافانو، هي خاضعة للمنطق نفسه في استعمالاتها. فهي إذ تمنح الشرعية المطلقة للدولة العلمانية في ضبط المكون الديني وفي تحديد ما هو ديني وما هو غير ديني، تعمل في الوقت عينه على نزع الشرعية عن بعض العنف المسمى دينياً، وعلى منح الشرعية للعنف الذي تنتجه العلمانية. هكذا يصبح عنف الدين عنفاً غير مبرر لأنه ينشأ عن أسباب غير موضوعية ولأهداف تقع في العالم الآخر. أما عنف المؤسسات العلمانية المحسوب والعقلاني الذي لا يحمل طابعاً رمزياً ومقدساً، فيصبح عنفاً مطلوباً، وخاصة إن كان في مواجهة شعوب البلاد التي لم تتعلم بعد كيف تتخلص من عنف الدين. وفق ترتيبات هذا المنطق، يصبح التخلص من المتشددين والمعادين للنموذج العلماني خياراً مشروعاً، فما دام هؤلاء مصرين على المحافظة على عقائدهم اللاعقلانية والخطرة، فإنه ــ ولا حرج ــ من «المبرر للبشر المتسامحين أن يقتلوهم» كما يصرّح سام هارس. إن تحييد دراسة سياسة الغرب الاستعمارية تجاه العالم غير العلماني والبحث عن أسباب «أكثر عمقاً» كامنة في المكون الديني والثقافي لهذا العالم، هو واحدة من الاستراتيجيات الكثيرة الهادفة إلى تبرئة الذات الغربية وتأبيد العنف الشرعي للدولة العلمانية.

ملحق كلمات

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى