صفحات العالم

أحصنة طروادة الثلاثة لـ “حزب الله”

دلال البزري

أحصنة طروادة وفيرة لدى “حزب الله”. لا يكفي سلاحه لوحده ليقنعنا جميعاً بحقه الأبدي به. يحتاج الى الأحصنة تلك، للحشد والتعبئة ونيل التأييد… وإلا اضطر الى مصارحتنا بحقيقة عقله القائد. ويخسر في هذه الحالة ثلاثة أرباع مصداقيته، فيصبح عارياً تماماً.

الأقدم من بين هذه الأحصنة، هو حصان “المقاومة”: فلسطين، القدس، الأرض المحتلة… كلها استنفرت جماهير الشرفاء والوطنيين والشجعان غير المتخاذلين. في بدايته، كان هذا الحصان يضجّ بالحق وبأصحابه وأنصاره. كان سهلاً على أي من راكبيه إطلاق أحكام الخيانة والعمالة على من لا يقبضون حصانهم. حتى الإنسحاب الاسرائيلي عام 2000، كان حصانا أبيض، يشبه الملاك، يحمل وعودا بالجنة والخصوبة وإلازدهار. بعد ذلك، أخذ هذا الحصان يخبو، مع تحول الحزب الى حاكم على لبنان، ممسكاً بكافة مقابضه ومفاصله، كاسراً في طريقه كل قانون ودستور… ثم جاءت الثورة السورية، ومن بعد معركة القصير، فأخذ هذا الحصان بالضمور، يترقّق عظمه، يجفّ جلده. فتحولت حشود الحزب وجماهيره المتبقية، الى ما يشبه الرهينة ، تردّد، بخفوت، قول أمينها العام بأن مشاركة حزبه في القصير إنما هي دفاعا عن “المقاومة”؛ أي ان الذين يشارك الحزب بقتلهم مع الجيش النظامي هم “عملاء الصهيوينة والامبريالية”، فـ”اضطر” الحزب ساعتئذ ان “يشارك”…. حصان المقاومة هو الأقدم، الأقل نداوة، الأكثر استهلاكاً وتضرراً من عوامل الزمن. لذلك، تهالكَ خشبه، وتراجعت كل روافده من تحرير القدس أو فلسطين…الخ.

فكانت الحاجة الى حصان جديد، وبطاقة اعتماد جديدة. هكذا تقدم حصان الحرب ضد التكفيريين، المناسب جداً لمعطيات الحرب السورية؛ وهي تضجّ بحَمَلة السلاح الجهادي، تقوم كل أسسهم على تكفير كل لا يؤمن بما يؤمنون؛ وخصوصاً أبناء المذاهب الاسلامية التي يسمونها “رافضة” ويتوعدونها بالموت المحتم. هذا الاختيار ذكي من دون أدنى شكّ. انه يستهدف الجماهير العلمانية اليسارية التي ترى عن حق بأن المنطقة تجتاحها موجة تكفيرية عارمة، وترى عن غير حق بأن “حزب الله” سوف ينقذها من محاكم تفتيشها. تحت نظرية “حماية الأقليات” و”تحالفها”، نحتَ الحزب حصانه هذا، فانهالت التحليلات والمواقف فائقة الحماسة، كأن الأنوار أشرقت عليها عندما تقدم حصان محاربة التكفيريين، فصار لديها أمل بان المنطقة سوف تنجو بفضل الحزب من الموجة السوداء القادمة.

الحصان الأخير، أجدّ من الثاني، ظهر مع المعركة الأخيرة في عبرا (صيدا). وقد شُيِّد على كمية هائلة من الأهازيج والغزل والأغنيات الرقيقة والخطب الوطنية الرنّانة الخ… كلها تقول في الجيش ما لم يقله مالك في الخمر. بدى الحزب في حفلة تدشين هذا الحصان الجديد وكأنه يفتتح مرحلة جديدة من العلاقة مع الجيش لا تقوم إلا على الخضوع لقراره “الشرعي”، واعتماد توجهاته. ومن عوامل تفوق هذا الحصان، انه مشى جنباً الى جنب مع حصان “الحرب على التكفيريين”. فبدا الحزب من بعيد منضوياً تحت راية وقرار الجيش الوطني الشرعي، في حربه من أجل وطن تعددي تحترم كل طائفة فيه إختلاف الأخرى عنها…. والى ما هنالك.

والحال ان الأحصنة الثلاثة ذات مصائر متشابهة، متداعية، آيلة الى التسوّس: الأول، “المقاوم”، قضى الزمن على قدرته التمويهية، أو أن اصحاب القضية الفلسطينية انفسهم انفكوا عنه، بفعل التغيرات الجديدة على الأرض السورية. لا يصدق أحد بأن الدماء التي يهدرها الحزب في سوريا، والقتلى المتساقطين تحت نيرانه ونيران حليفه السوري وقائده الإيراني، هي دماء تروي أرض فلسطين أو القدس….

أما الحصان التكفيري، فهو، على الرغم من جدّته وبريقه، فانه لا يجد صدى إلا في الآذان المطروبة سلفاً لمزاميره. معهم حق أولئك اليساريين والمقاومين ورافعي حقوق الاقليات الدينية ان يتوجسوا كل التوجس من المدّ التكفيري القادم. ولكن هل هم على حق بالاعتقاد بأن حزب الله يحارب التكفير حقاً؟ ألم ينظروا الى تأسيسه، قيامه على مذهبية ورموز مقدسة وإحالات وقيادات وخطاب وفعاليات… كلها مقدسة معصومة عن النقاش والسؤال والحوار؟ أو الى تلك الحالة الدينية الشعبية الغارقة في بحر الثأر من الذين اغتصبوا السلطة منذ ألف وأربعمئة سنة…؟ هل ينسى هؤلاء الجنود في حصان التكفيريين، ان قائد ومؤسس حزب الله، إيران الاسلامية، الخيمني تحديداً، أطلق تقليداً جديداً عصرياً مشت على خطاه كل الجماعات التكفيرية… ألا وهي الفتوى التي أطلقها عام 1988 القاضية بهدر دم الروائي سلمان رشدي؟ وعلى ماذا؟ على مجرّد رواية هي من بنات خياله؟

الفرق الوحيد بين التكفيري الشيعي والتكفيري السني، ان الأول اكتسب حكمة الممسكين بالسلطة، أو التائقين للإمساك بالمزيد، حفاظاً عليها، فصار أقل بوحاً بتوجهاته “الثقافية”. فيما التكفيري السني ناشىء، منفلت من عقاله، عشوائي وناقم. لذا يظهر على الملأ وكأنه مجنون مذهبي، يأكل القلوب، يقطع الرؤوس، يجلد، يبتر، ويخزن السلاح كيفما اتفق ويرجع لأمراء عديدين مبعثرين… ما يزيد من اعتباطيته، وتخبّطه. وما يمنح قوة ضعيفة للحصان التكفيري، لن تقاوم الزمن ولا المنطق.

الحصان الثالث والأخير هو الأغنى إشكالاً. فهو يستند الى “تراث” باتَ عمره الآن عقدين، وقوامه تلك الصيغة التي تجمع بين “الجيش والشعب والمقاومة”، في شيء من التلاحم والتناسق النادرين الوجود في أية بقعة أخرى من هذه الارض: جيش وطني رسمي، يسمع ليل نهار من لسان جيش أقوى منه، بأن الإثنين على توافق تام حول الأهداف… فيما الشعب يؤيد ويساند. حزبٌ يعزّز جيشاً سورياً كان يحتل لبنان، وينخرط الآن في القتال الى جانبه، لا يستشير جيشه المحبوب في قراراته الحربية كلها…. حزب عظمت غلبته على هذا الجيش، وعلى كل المناحي، يريد لنا ان نصدق الآن بأن التغزّل به من باب الهدف الوطني النظيف.

بعد معركة عبرا والمعلومات التي تدفّقت من كل حدب وصوب حول مشاركة حزب الله في المعركة ضد الأسير، بدا حصان الجيش ضعيفاً، لا يصمد أمام وقائع اشتراك الحزب معه في المعارك. حصان الجيش كان طرواديا بالمعنيين الحرفي والمجازي للكلمة: مشاركة قوات من الحزب مع الجيش هو المعنى الأول، ظاهريا اراد اعطاء الانطباع بأن الحرب كانت بين الجيش والشيخ الاسير، فيما هو خلفهما، أو بينهما… أما بالمعنى المجازي، الأخطر، فأتى مع مشاركة الحزب في حرب بشار ضد سوريا؛ كسر المعادلة الثلاثية، “الجيش الشعب المقاومة”، بأن منح نفسه الحق بتجاوز كل خطوطه وحدوده الوطنية من أجل حصانه المتهالك، “المقاومة”. فكان الاختلاط بين الحصانين. وكانت حفلات وعواطف وأغاني من أجل الجيش الوطني…. وإدانة للذين يقفون بوجهه الخ.

مثل كل الأحصنة الطروادية، تعاني أحصنة الحزب من عيب خُلقي، لا يمكنها الإنفكاك عنه. يمكن لها ان تعيش بفعل أحداث متداخلة وحظوظ معقدة وإعلام فصيح. ومثل هذه الأحصنة ايضاً، مصيرها الإهتراء والتهافت، كل حصان على إنفراد أو ثنائياً… بحسب ما تخبئه الأيام المضطربة القادمة. ولكن بأي حساب؟ بأي ثمن؟ ذاك هو السؤال المخيف…

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى