صفحات الرأي

أزمة المهاجرين فاقمت الشعبوية في أوروبا … وبعثت الانقسام بين شرقها وغربها/ إيفان كراستيف

 

 

قبل خمس سنوات، لم يكن السؤال عن خطر تفكك الاتحاد الأوروبي وارداً. وكان الاتحاد هذا يبدو راسخاً. وأثر البريكزيت واستفتاء كاتالونيا في الاتحاد لا يزال مجهولاً، ولكن لم يعد في الإمكان الكلام عن أوروبا على المنوال السابق قبل التصويت بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي والاستفتاء الكاتالوني. والعودة إلى الدول– الأمم ليست خياراً بديلاً قد يحل محل الاتحاد الأوروبي. فكم من الدول هذه تقيض له الحياة إثر تفكك الاتحاد؟ وأرى أن المشروع الأوروبي قادر على البقاء وحيازة مشروعية أكبر. ويجب الإقرار بتغير طبيعة الاتحاد الأوروبي اليوم. وعليه، لا مناص من أن يواكب التغير هذا النقاش حوله.

وأبرز التحديات أمام الاتحاد الأوروبي هي أزمة اللاجئين. وهذه صنو هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة. ففي ذلك اليوم في 2001، تغيرت الأمور كلها. وليس وراء التغير هذا سقوط 3 آلاف قتيل، بل اكتشاف أميركا في لحظة واحدة ضعفها. وأثر المهاجرين في أوروبا يضاهي أثر الهجمات هذه في أميركا. وليس عددهم ما يزعزع استقرار القارة الأوروبية. فهم يحملون معهم بذور تغيير ثوري في القرن الحادي والعشرين. ففي الثمانينات، كان المهاجرون يضطرون إلى اللجوء إلى أوروبا بحثاً عن ملاذ أمان. ولكنهم اليوم يقصدونها بحثاً عن حياة أفضل ولا يخفاهم في عصر العولمة أن ظروف العيش في أوروبا جيدة وأفضل. ويستسيغ المهاجرون الانتقال إلى بلد آخر وتبديل أوطانهم على تغيير حكوماتهم. وهذه خطوة أكثر يسراً، وجلّ ما يحتاجون إليه هو هاتف خليوي وقليل من الشجاعة… وهذا ما يسبغ على الهجرة اليوم طابعاً ثورياً.

وأزمة الاتحاد الأوروبي تُنسب إلى شوائب أساسية في بنيته الدستورية أو إلى ابتلائه بشح في الديموقراطية. ولا مناص من الإقرار بأن أزمة المهاجرين ساهمت في تغيير طبيعة السياسة الديموقراطية على المستوى الوطني، وأن الناخبين يتمردون في أوروبا على النخب وأصحاب الكفاءات والجدارة. وتخفي ثورة المهاجرين ثورة مضادة محتملة. فهي ساهمت في بروز غالبيات تشعر بأنها مهددة وصارت هذه قوة سياسية بارزة في أوروبا. وهذه الغالبيات المهدَدة تخشى أن يجتاح الأجانب بلادها ويهدد طريقة عيشهم. فأزمة المهاجرين هي وراء ذعر أخلاقي في أوساط أوروبيين يخشون الإرهاب، وتقلقهم التغيرات الكبيرة والعنيفة، وهم يشعرون بأن الأمور انفلتت من كل عقال. وفي عصر الهجرة، بدأت عجلة الديموقراطية تدور دوران آلة إقصاء وليس آلة دمج. فأزمة المهاجرين تطعن في أفكار الديموقراطية والتسامح والتطور والمبادئ الليبرالية التي تسم المشهد الأيديولوجي الغربي. فهي منعطف في دينامية المشروع الأوروبي السياسية.

والانقسام بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية عاد إلى البروز مع هذه الأزمة للمرة الأولى منذ سقوط جدار برلين والشيوعية. فالذعر يعم شرق أوروبا من تغير سكاني. فإثر أفول الاتحاد السوفياتي، غادر كثر من أوروبا الشرقية إلى الغرب. فخسرت بلغاريا، على سبيل المثل، مليوني شخص. ومن لم يحمل الرحال ينظر إليه على أنه من الخاسرين، وهؤلاء هم في معظمهم مسنون ويتساءلون إذا كانت الحياة ستقيض لمجتمعاتهم. ويخشون «أفولهم الإتني». ولم تكن دول شرق أوروبا يوماً قوى كولونيالية، وهي لا تعرف «الآخر». ولا تشعر بالذنب إزاء بلدان أفريقيا والشرق الأوسط، وترى أنها شأنهم ضحية، ولكنها ضحية الحرب الباردة. ولكن والحق يقال في الدول الغربية كلها مناطق حالها من حال «الشرق»، أي أن سكانها يشعرون أنهم مهجورون ومتروكون لمصيرهم. وهذا من مفارقات العولمة. فنحن نعيش في عالم متصل أكثر فأكثر ولكن طابعه الجامع والعام ينحسر.

ولا شك في أن الإجماع على سياسات الهجرة سيتعاظم في السنوات المقبلة مع إعلان تعزيز ضبط الحدود الأوروبية الخارجية. ولكن التباين بين الغرب والشرق لن يتبدد أو يندثر. فأوروبا الشرقية تأخذ على ألمانيا مسألتين، استبداد برلين في إلزام الاتحاد الأوروبي سياسة الهجرة الخاصة بها وحمل دوله على الطاعة. وهي، أوروبا الشرقية، ترفض خطاب إعلاء شأن حسنات مجتمعات التعددية الثقافية. ويتعذر الجمع، في آن، بين تسليط الضوء على الجانب الإيجابي من التعددية الثقافية ونفي المشكلات الوثيقة الصلة بها. ومن هذه المشكلات الشعور بانعدام الأمان أو قلق الذين يرون أن عالمهم يتغير أمام أعينهم وهم يتحولون فيه إلى غرباء على المستويات كلها، ومنها ربما عدم الإلمام باللغة السائدة (لغة المهاجرين). واليسار يرفع شأن التعددية الثقافية إلى مصاف النموذج المبتغى، في وقت يشيطنها الشعبويون.

وانتخاب إيمانويل ماكرون في فرنسا كان قرينة على إمكان الفوز بالانتخابات في دولة أوروبا من طريق حملة تؤيد الاتحاد الأوروبي وتدعو إلى تمتينه وترسيخه. ولكن الغيوم ما لبثت أن تلبدت. فنتائج الانتخابات الألمانية قيّدت هامش عمل أنغيلا مركل. ويرى ماكرون أن أوروبا منقسمة إلى نواة وضواحٍ. وفي هذا الحسبان شيء من الغرور. والخطاب ونبرته يخلف أثراً شأنه شأن الأفكار. ودول أوروبا الشرقية لا ترغب في أن تُعامل معاملة المنطقة الأدنى مرتبة. وعلى رغم أن ماكرون مستعجل، هو مدعو إلى الصبر في مقاربة أوروبا الشرقية. فإذا فقدنا الصبر، فقدنا أوروبا. وكاتالونيا هي خير مثال على ما أسوقه: كفة ماريانو راخوي هي الراجحة، ولكن افتقاره إلى الصبر فاقم الأزمة. وعلى رغم أن «لحظة (انتخاب) ماكرون» أثرت إيجابياً في المشاعر التي تعم أوروبا، إلا أن مشكلات الاتحاد الأوروبي على حالها. فأزمة المهاجرين أججت مخاوف المجتمعات الشرق أوروبية، وكانت وراء بروز مشاعر عداء إزاء أوروبا الغربية.

* خبير بلغاري في الشؤون السياسية، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 19/10/2017، إعداد منال نحاس.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى