صفحات الحوار

أليس كابلان: كامي صوّر عالما كولونياليا يُهمّش العرب

 

 

حميد عبد القادر

يس كابلان، أستاذة الأدب الفرنسي بجامعة ييل الأميركية، سيرة ذاتية لرواية ألبير كامي “الغريب”، في كتاب صدر عام 2016 في الولايات المتحدة الأميركية بعنوان: بحثا عن الغريب looking for the stranger  ، وصدرت طبعته الجزائرية هذا الأسبوع عن منشورات “برزخ”.

واعتبرت كابلان رواية “الغريب” التي نشرت أول مرة عام 1942، في باريس وفي خضم الاحتلال النازي، في وقت بدأ فيه كامي يعاني من مرض السُل، رواية خالدة لا تزال تلقى اهتماما كبيرا من قبل القراء ليس في فرنسا فقط، بل حتى أميركا. وتحدثت كابلان في كتابها عن الظروف التي أحاطت بكتابة “الغريب”، والتي جعلت كامي يشرع في تحصيل مجموعة من الأفكار والأحداث التي أدرجها في روايته، منها الجريمة التي وقعت على شاطئ “بويسفيل” بوهران، والتي قرأها كامي في صحيفة “ليكو دوران” (صدى وهران) في صيف 1939، موضحة أن الصحيفة أوردت اسم “العربي”، الذي لم يذكره كامي في روايته، وبخصوص هذه المسألة اعتبرت كابلان أن الروائي لم يُبد أي ميول عنصرية وهو يُغيب العربي في روايته، بقدر ما عبّر عن واقع كولونيالي يقوم على إبعاد العرب وتهميشهم، وعدم ذكرهم، وذلك ضمن واقعية يمكن أن تتصف بها رواية “الغريب”. كما تحدثت كابلان في كتابها عن الأحداث التي تأثر بها كامي وجعلته يكتب “الغريب”، منها تغطيته لمحاكمة الشيخ العقبي (وهو أحد أقطاب جمعية العلماء المسلمين التي أسسها الشيخ عبد الحميد ابن باديس) الذي اتهمته السلطات الاستعمارية بتدبير عملية اغتيال مفتي الجزائر العاصمة، الشيخ كحول، إضافة إلى الأفكار التي وردت في رواية سابقة نشرها بعنوان “الموت السعيد”، والتي تُعد حسبها بمثابة أول عمل أدبي يُطور من خلالها الكاتب فكرة العبث. كما تحدثت الناقدة الأميركية عن تأثر كامي برواية “ساعي البريد يدق الجرس دائما مرتين” للأميركي جيمس كاين، الذي استعمل تعبير الإغريقي كتسمية أطلقها على أحد شخوص روايته، ومنه استعمل كامي تسمية “العربي”، إضافة إلى تأثره بفلسفة القديس أوغسطين.

هنا حوار مع الناقدة الأميركية جرى أثناء زيارتها للجزائر العاصمة.

سر الاهتمام بـ”الغريب”

(*) ما سر بقاء اهتمام القراء برواية “الغريب”؟

أصبحت قراءة رواية “الغريب” بمثابة طقس من الطقوس الأدبية. أضحى الكتاب يُرافق الانتقال نحو سن الرُشد، واكتشاف الأسئلة الكبرى للحياة. تاريخ قصة “ميرسو”، هذا الرجل الذي يُعتبر اسمه خطوة نحو الموت، ليس اسما عاديا. حينما ماتت والدته، في دار العجزة، أين كانت تقيم، حضر مراسم دفنها. ولما عاد منها، قضى يوما عاديا على الشاطئ، قابل عشيقته، وشاهد معها فيلما كوميديا مع الممثل فيرنانديل. هو شخصية عجيبة ومضحكة. قتل عربيا على شاطئ بالجزائر العاصمة، وحكمت عليه المحكمة بالإعدام، ليس لأنه قتل العربي، بل لأنه لم يحزن على والدته. في ختام الرواية ينتظر تنفيذ الحكم، ولا شيء آخر. لكن تبقى الرواية بمثابة عمل مثير إلى غاية اليوم. وهي رواية آسرة، فاتنة بل وساحرة، بصُورها العادية، التي لا يمكن نسيانها في الوقت ذاته.

(*) كيف أصبح القراء ينظرون إلى هذه الرواية التي مر اليوم أكثر من سبعين عاما على صدورها؟

في كل مرة أتحدث فيها عن رواية “الغريب”، سواء كان ذلك خلال الدروس التي ألقيها بجامعة “ييل”، أم في الأحاديث العامة، أجد أن جميع الناس قرأوا الرواية مرتين في غالب الأحيان. أما النقاش الذي يتبع ذلك، فهو دائما نقاش مستنير ومتوتر. هل بإمكاننا القول إن شخصية “ميرسو” تعكس الوضعية البشرية؟ هل يستحق فعلا مساندتنا له؟ لماذا لم يذرف الدموع أثناء مراسم دفن والدته؟ ولماذا كان يتمنى أن يحضر جمع من الناس لحظة إعدامه، ويستقبلونه بصيحات الحقد؟ وفي كثير من الأحيان يسألني القراء بالإنجليزية هل يمكن ترجمة عنوان الرواية بالغريب أم باللامُنتمي. الجميع يريد معرفة إن كان الوضع الجزائري مهما أم لا، وهل من الضروري أن يكون “ميرسو” فرنسيا من الجزائر في إطار استعماري، ولماذا لا يحوز العربي الذي قتله على الشاطئ على أي اسم. والملاحظ أن كل قارئ لهذه الرواية له تصوره الخاص به.

(*) وماذا تبقى من “الغريب” اليوم؟

ما تزال رواية “الغريب” تثير الانبهار أثناء القراءة، وتحوز على تصورات مختلفة مع كل قراءة. كثير من النقاد اعتبروها رواية تحيل لرمزية كولونيالية، وكتابا حول الوجودية، وصرخة في وجه الأخلاق التقليدية، ودراسة حول الاستلاب، وقيل إنها رواية كفكاوية، كتبها إرنست همنغواي. نحن أمام تحفة أدبية تثير الحيرة بين النقاد.

وأين تكمن أهميتها؟

تكمن في أن كامي أبدع طريقة كتابة روائية جديدة وفريدة، فالحكاية يرويها بصيغة المتكلم، الذي يمكن القارئ من الولوج لتفكير الراوي. لكن الملاحظ أن كامي فعل كل شيء لكي يعجز هذا القارئ عن تحقيق هذا الفعل، فمن المستحيل أن يشعر القارئ أنه قريب من شخصية “ميرسو”. والغريب في الأمر أن شخصية “ميرسو”، البسيطة الخالية من العمق، غير المكترثة لأي شيء، استطاعت أن تثير الاهتمام. بالنسبة للذين يعشقون الأدب تبقى الكتب خالدة. للكتب حياة خاصة بهم. تعود إليها الحياة، كلما عدنا إليها، وتبقى حية لزمن طويل، بعد أن نغلق صفحتها الأخيرة. عمرت الرواية طويلا لعدة عوامل غير ملموسة، منها الموسيقى الصافية لجملها، واللمسة الحسية والشهوانية التي نلمسها في الديكور الجزائري، وكتابتها البارعة، إضافة لهذا التناظر المثالي لهذه الحياة المنقسمة إلى نصفين بواسطة جريمة على شاطئ البحر. كل هذه العناصر تشكل أبعادا جمالية وشكلية، كانت موضوع دراسات عديدة. تدرس رواية “الغريب” منذ الخمسينيات، وأصبحت تندرج ضمن الدراسات الوجودية، والنقد الحديث، والتفكيكية، والدراسات النسوية، والنقد ما بعد الكولونيالي.

فكرة تأليف سيرة

ذاتية عن “الغريب”؟

(*) كيف راودتك فكرة تأليف سيرة ذاتية عن رواية “الغريب”؟

من خلال فهمنا للرواية ولسيرة كامي ما يزال هناك أمر يجعلنا ننشغل في تقديم قراءة مختلفة للغريب. فبقدر التركيز على المواضيع أو على النظريات الجمالية والأخلاقية والسياسية، اعتبر النقاد أن هذا النص أصبح مفهوما. وكان كُتاب سيرة كامي يتناولون الوضعية التي كان عليها أثناء كتابة الرواية، ويعطون أهمية للرجل (الروائي) على حساب الكتاب. صحيح أن كامي كان شخصية مثيرة ومغرية نظرا لنضاله وميوله الإنسانية، لكن قصة حياته الشخصية بدأت تطفو وتعلو على علاقته بالكتابة. نعرف أشياء كثيرة عن ألبير كامي وحياته الشخصية، لكننا نجهل الكثير بخصوص رواية “الغريب” وظروفها، والمسار الذي أخذته لكي تصل إلى منشورات “غاليمار”، وكيف نُشرت أول مرة عام 1942، في خضم الاحتلال النازي لباريس، أي في أكثر الظروف خزيا وجلبا للعار في تاريخ فرنسا الحديث. هذه الرواية تعتبر بمثابة نجاح باهر، أحدثت خلخلة في الكتابة الروائية، لهذا أعتقد أن الرواية تستأهل أن تحوز على سيرتها الخاصة بها، أي قصة حياتها، وتكون حتما مرتبطة بحياة كاتبها، لكنها مختلفة ومنفصلة.

هل هناك مرجعيات تم الاعتماد عليها أثناء التفكير في هذه السيرة؟

خطرت على بالي فكرة كتابة سيرة رواية “الغريب”، لأول مرة، بعد قراءة كتاب ميخائيل غورا حول سيرة رواية “بورتريه سيدة” للروائي الأميركي هنري جيمس. انطلاقا من هذه الرواية، واستنادا لسيرة صاحبها، تمكن غورا من استخلاص أفكار مستنيرة وبليغة وعميقة بخصوص الحياة، والرهانات الأدبية. لقد توقف عند رهانات الكتابة حسب هنري جيمس. وفي ما يتعلق برواية “الغريب”، التي شرع في كتابتها شاب لا يتجاوز سن السادسة والعشرين، وبلا مؤلفات وراءه، وبدون أي شهرة أدبية، كان يظهر لي أن عملي واشتغالي عليها سيكون شاقا ومغريا في الوقت ذاته، لكن وعلى حد تعبير لويد كرامر، على غرار المؤرخ الذي يبحث عن أسباب الحروب، فإن مؤلف سيرة كتاب يبحث بدوره عن أسباب وجوده. وتمثلت منهجية عملي في تتبع كامي في أدق تفاصيل حياته أثناء الكتابة، فاقتربت قدر الإمكان من حالته النفسية بينما كان يكتب “الغريب”، وتركت جانبا طريقة البحث الكلاسيكية، حتى أصل إلى الظروف التي جعلت كامي ينتقل من “الغريب” كفكرة إلى مرحلة الكتابة، ثم النشر بفضل المساعدة التي قدمتها له نخبة من الأصدقاء الذين كانوا على صلة بدار “غاليمار”. وحكاية الكتاب لا تتوقف عند سنة نشره، أي عام 1942، فردود أفعال القُراء كانت في البداية مذهلة وغريبة أحيانا. كان يجب انتظار مقال لجان بول سارتر عام 1943 يمدح من خلاله الرواية لكي تعرف مسارا مختلفا، وتتحول إلى رواية مذهلة، ترجمت إلى ستين لغة عبر العالم، ونشر منها إلى حد الآن في فرنسا لوحدها عشرة ملايين نسخة، وفازت بجائزة نوبل للآداب عام 1957، وأصبحت رواية تمارس تأثيرا كبيرا على أجيال عديدة. فحياة الرواية استمرت بعد حياة كامي التي توقفت سنة 1960، وعمره ستة وأربعون عاما.

(*) ما تزال الرواية تحوز على بهائها إلى اليوم، لماذا؟

نعم، لا تظهر على رواية “الغريب” إلى غاية اليوم أي علامة من علامات التهالك، رغم مرور أكثر من سبعين عاما عن صدورها. ستظل الرواية محل اهتمام من قبل القراء على مدى السنوات القادمة، مع أجيال جديدة تبحث عن أسئلة حول مغزى الحياة. في أميركا مثلا تدرس الرواية اليوم وتثير الاهتمام بفضل تطرقها لموضوع العلاقة مع الآخر. إن مسألة اختفاء العرب تعد مسألة مهمة في الرواية، إضافة لموضوع العلاقة وكيفية التعامل مع الآخر المختلف، كلها عبارة عن مسائل راهنة في أميركا إلى غاية اليوم. وفي التقرير الذي أعدته لجنة جائزة نوبل للآداب حينما أعلنت عن فوز كامي بالجائزة عام 1957 لم تتطرق إلا لرواية “الغريب”، ولم تذكر “الطاعون”، ولا أي عمل آخر لكامي. لهذا أصبحت الرواية أكثر شهرة من صاحبها.

(*) وكيف قاومت الرواية خلال سنوات طويلة وحازت على اهتمام القراء؟

رحل ألبير كامي وبقيت رواية “الغريب”، تقاوم مستقبلا ملتبسا. في عام 1967 تمكنت من الحصول على حياة ثانية، بفضل فيلم المخرج الايطالي الشهير لوشينو فيسكونتي، بعد مفاوضات عسيرة مع فرانسين كامي، زوجة الروائي. كانت الجزائر مستقلة، وهو ما مكن فيسكونتي من التصوير فيها. أراد المخرج الإيطالي أن ينقل القصة ضمن سياق مغاير، حيث يشعر “ميرسو” برعب الأقدام السوداء (فرنسيو الجزائر) الذين سوف يفقدون أراضي ليست لهم. وكان فيسكونتي يتصور أن “ميرسو” بإمكانه أن يعكس روح الثورة الجزائرية، وعنف غلاة منظمة الجيش السري الفرنسية التي حاولت بشكل مأسوي الحفاظ على “الجزائر الفرنسية”، عبر اللجوء لوسائل إرهابية. رفضت فرانسين كامي هذا التصور، ووقفت ضد تصوير الفيلم وفق هذا التوجه. كما رفضت تسمية البطل بـ “ألبير ميرسو” في إشارة من فيسكونتي إلى وجود علاقة بين الكاتب وبطله “ميرسو”. وفي الأخير ترك فيسكونتي هذه التسمية جانبا، وأعطى بطل الفيلم اسما مغايرا هو “أرثر ميرسو”. وفي نفس الوقت شرع في كتابة السيناريو مجددا بالتعاون مع الروائي الفرنسي المولود بالجزائر إيمانويل روبلس، الذي أبدى رغبة في الحفاظ على امتيازات عائلة كامي. وحينما تم عرض الفيلم، حازت الرواية على حياة أخرى. وفي عام 1979 ألف كاتب الكلمات الشهير روبير سميث، أحد أعضاء فرقة “بان كروك” الانجليزية، أغنية مقتبسة من رواية “الغريب”، بعد أن قرأ الرواية خلال دراسته الثانوية، فبعثها من جديد، وأعادها لأذهان القراء.

لماذا غاب اسم العربي؟

(*) لماذا لم يكلف كامي نفسه عناء ذكر اسم “العربي” في روايته؟

تناول ادوارد سعيد هذه المسألة، أقصد غياب العربي في الرواية، وكتب أن العرب في رواية “الغريب” عبارة عن أناس عديمي الأسماء، يظهرون فقط كستار خلفي للميتافيزيقا الكبرى التي كان يستكشفها ألبير كامي. وأبعد ادوارد سعيد كل قراءة وجودية بشأن ألبير كامي، مفضلا الحديث عنه من زاوية سياسية. لكن هذا التصور ليست له أدنى علاقة بالغريزة الإبداعية التي كانت تُرشد كامي عام 1940. بالنسبة إليه تعتبر رواية “الغريب” بمثابة رسم بالأبيض والأسود. أراد أن يعكس عالما كولونياليا عنيفا، حيث بإمكان رجل أن يقتل عربيا، دون أن تكلف العدالة نفسها عناء الاهتمام بالضحية.

(*) هل معنى هذا أن رواية “الغريب” تعتبر رواية واقعية عن نظام كولونيالي جائر؟

رواية “الغريب” ليست رواية واقعية، بل عبارة عن نظرة شخصية، وكابوس. كان كامي يعتبرها لقطة سلبية، وكوجه آخر لإنسانيته. القراءة السياسية للرواية استقبلت خلال مرحلة الثمانينيات وفق تصور جديد. ولا أحد انتبه إلى أن النقد السياسي الموجه لكامي بدأ مع الناقد الانجليزي سيريل كونولي، مقدم الترجمة الانجليزية للرواية. لقد وضع كونولي رواية الغريب”، وبكثير من الجرأة، ضمن السياق الجزائري، وتحدث عن تجاوزات النظام الكولونيالي الذي لا يذكر “العربي” الضحية، المقتول على الشاطئ، ولا حتى شقيقته عاشقة الفرنسي التي تعرضت للضرب والاهانة. وتحدث كونولي عن النظام الاستعماري عام 1946 بينما كانت الإمبراطورية البريطانية تسير نحو التفكك، حيث استقلت الهند سنة بعد ذلك. في تلك الأثناء لم ينتبه النقاد الفرنسيون لهذه المسألة. كانوا تحت تأثير الروح الاستعمارية. حتى جان بول سارتر الذي عاتب ألبير كامي على عدم مساندته لاستقلال الجزائر، لم يتحدث عن غياب “العربي” في مقاله المنشور عام 1943. كان يجب انتظار عام 1961، لكي يتناول المؤرخ بيار نورا مسألة غياب “العربي”، واعتبر أن “ميرسو” يعبر عن لاشعور فرنسيي الجزائر في قتل العرب، بغية الحفاظ على الأرض، وتدمير العدو.  وكان تفسير بيار نورا يتطابق مع النزعة الاستقلالية للجزائر خلال تلك المرحلة. لقد بقي “العربي” في رواية كامي بلا اسم، إلى أن جاء الروائي الجزائري كمال داود عام 2013 برواية “ميرسو.. تحقيق مضاد”، ليعطي له اسمه وهو موسى.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى