صبحي حديديصفحات الثقافة

أنف أورويل وسرديات الرائحة/ صبحي حديدي

 

 

قد لا يطول الوقت حتى نقرأ دراسات عن عينيّ جين أوستن، وفم شارلز دكنز، وأصابع سكوت فتزجيرالد، وأذن فلاديمير نابوكوف، يقول أحد أطرف التعليقات على كتاب «أنف أورويل: سيرة مَرَضية»، للناقد والأكاديمي البريطاني جون سذرلاند. المؤلف، بادئ ذي بدء، صاحب أعمال لا تقلّ إدهاشا: «أيمكن أن تكون جين آير سعيدة؟»، «هنري الخامس، مجرم حرب؟»، «القصة وصناعة القصة»، «المحقق الأدبي: 100 لغز في الرواية الكلاسيكية»، وسواها من الأعمال التي تميزت بالجمع بين رصانة البحث، وطرافة الخلاصات، والتركيز على جوانب غير منتظَرة في أمهات الأعمال الأدبية.

ومنذ بعض الوقت فقد سذرلاند حاسة الشمّ، بالفعل، فأعاد قراءة أعمال الروائي والكاتب والصحافي والناقد والناشط السياسي البريطاني جورج أورويل (1903 ـ 1950)، في ضوء هذا التطوّر الحاسم الذي طرأ على توازنه الفيزيولوجي، وامتدت تأثيراته إلى ذائقته القرائية، والنقدية، كما قدّر، وكما حاول أن يبرهن في كتابه هذا. وما يعرضه هنا، على امتداد 256 صفحة (مدخل، ومقدمة، وفصل واحد طويل، وثلاثة ملاحق)، محشوّ ــ بالمعنى الحرفي، ولكن الإيجابي، للمفردة ــ بتفاصيل مدهشة عن علاقة أورويل بالروائح، الزكيّ منها والكريه، الطبيعي والصناعي، المحلي والغريب، الواضح والغامض، المرئي والخفيّ، الحسي والروحي…

وإذا كانت السيرة، ومحطات حياة أورويل التي احتشدت بالتفاصيل والمفاجآت والتقلبات، والرائحة بوصفها محور التشديد الأبرز، هي الخطّ الناظم المنهجي في مؤلف سذرلاند، فإنّ الخطّ الآخر، المذهل أكثر، والأشدّ جاذبية ومتعة وإثارة للاهتمام في الواقع، هو الشخصية المَرَضية التي ظلت كامنة، أبدا، في تجليات الرائحة عند أورويل. لقد امتدح، بطرائق متغايرة، روائح الجثث الهامدة، وعطور الموتى في مقابر الكنائس، وذمّ، في المقابل، روائح المال والسياسة، وتشهى، في بورما، روائح الأطعمة الشهوانية، كما انتبذ، في حواضر كبرى مثل لندن وباريس، روائح الأثاث الفخم ومناشف الفنادق والمدارس الداخلية و… الملفوف المسلوق!

باختصار، كان أورويل «خبيرا خيشوميا»، إذا جاز هكذا تعريب المصطلح الذي ينحته سذرلاند، الذي يهتدي، في تعقّب إشكالية «سردية الرائحة» عند أورويل، بعبارة سيغموند فرويد، ومن قبله الروائي الإنكليزي جوناثان سويفت: الحضارة هي المسافة التي يضعها الإنسان العاقل بين أنفه وبرازه! وليس الأمر شكليا، كما قد يلوح للوهلة الأولى، أو كما يشير التأويل الضيّق لمنهجية سذرلاند، والدليل أنّ قارئ جين أوستن، على سبيل المثال، لا يعثر على الروائح إلا في عمل واحد وحيد، هو «منتزه مانسفيلد»، وعلى نحو عابر هنا أيضا. في المقابل، كيف يمكن أن يغيب «بُعد الرائحة» عن صفحات «عوليس»، رواية جيمس جويس الفذة، أو د. هـ. لورانس، في «عشيق الليدي شاترلي»؟

ملحق الكتاب الأول يتوقف عند علاقة أورويل بالتدخين، من زاوية ما يخلّفه التبغ من روائح بغيضة، والملحق الثاني يتناول سردية الرائحة في «ابنة القسّ»، 1935، رواية أورويل التي تحفل بسلسلة من «الانطباعات الروائحية» التي تضخها الصبية دوروثي أينما حلّت وتنقلت في مشهدية السرد، والملحق الثالث يعرض «خيشوميات» أورويل في كتابه «الطريق إلى رصيف ويغان»، الذي تضمن تحقيقات سوسيولوجية حول الأوضاع المزرية للطبقة العاملة في يوركشير ولانكشير، في شمال إنكلترا ما قبل الحرب العالمية الثانية. وفي هذه الملاحق، كما في أقسام الفصل الوحيد الطويل جمعاء، ثمة تلك الحكمة الأورولية المركزية: «أن يرى المرء ما هو أمام أنفه، أمر يحتاج إلى مجاهدة»!

وإذْ يعتمد على مركزية الروائح في استقصاء المنعطفات الكبرى، الشخصية والعامة، الأدبية والسياسية، في حياة أورويل، فإنّ سذرلاند يفلح، على نحو مدهش أيضا، في إماطة اللثام عن جوانب بالغة السلبية، بعضها قبيح مستهجَن في الواقع، بصدد مواقف أورويل من المرأة (حيث يفضّلها في المطبخ، غالبا)، والجنس (الغريزي الصرف، والشاذّ العنفي أحيانا، والـ»إكزوتيكي» كما في مواقعات بورما مثلا)، والانتماءات الحزبية البريطانية («مزرعة الحيوان»، مثلا، صارت واحدا من أمضى الأسلحة الدعاوية في صفوف حزب المحافظين)، فضلا عن الروائح ذاتها (بمعنى الإدمان على تبجيلها أو امتهانها، إلى درجة مَرَضية، نفسية/ باثولوجية)…

بذلك فإنّ سذرلاند ينتهي إلى مقدار عالٍ من تفضيح مثقف عامّ اكتسب، خلال السنوات الأخيرة من حياته خاصة، صفة «القديس»، رغم سلسلة الإشكاليات، القائمة أولا على شبكة تناقضات، اكتنفت مسارات حياته. هذا مؤلف شهير مرموق، عُدّ في خانة سياسية وعقائدية عجيبة، هي أنه «اشتراكي حزب المحافظين»، هو الذي قاتل مع الجمهوريين، في المقابل، خلال الحرب الأهلية في إسبانيا، والذي تردد أنّ رغائبه انطوت على غرائز قصوى (بينها شهوة التعرّض للجلد، مثلا)، ووقّع رواية شهيرة، «1984»، نُشرت سنة 1949، وعادت إلى الصدارة مؤخرا على نحو فريد حقا، إذْ تضاعفت مبيعاتها بنسبة 6000 في المئة، ليس بسبب «الأخ الكبير» السوفييتي، بل ذاك الأمريكي هذه المرّة!

فلِمَ لا يذهب سذرلاند إلى تلك المنطقة الفريدة، بالغة الخصوصية ربما، في أدب أورويل، ليرصد أبعاد الرائحة، الاجتماعية والسياسية والثقافية، الأدبية والرمزية والمجازية، في أعمال صاحب «مزرعة الحيوان»؟ ولِمّ لا تتكشف «سرديات الرائحة» عن تداعيات معاصرة، خافية عن أبصارنا، ومتخفية عن وعينا، فتتضح وتنفضح، و… تفوح روائحها؟

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى