صفحات العالم

إضاءة شمعة أفضل من لعن الظلام/ حسن شامي

 

 

هناك بلد عربي مشرقي شهد طوال سنوات حرباً أهلية التهمت الأخضر واليابس، ولم تنته فصولها وأطوارها بعد. ما يسمى «النظام» في هذا البلد كان عبارة عن ائتلاف بين ممثلين لقوى وفئات لا تتمتع بالمكانة نفسها داخل السلطة ومراكز القرار. كانت هناك سطوة لفئة تزعم الحفاظ على أرجحية الجماعة التي ينحدر منها جزء من النخبة الحاكمة. ولتبديد الخوف من انقلاب يكسر التراتبية المعهودة والمنتزعة بقوة الأشياء، حرصت النخبة الحاكمة على وضع اليد على مفاصل المؤسسات العسكرية والأمنية والإدارية. وكان كل تراخ في شد القبضة يفتح كوى لانتقال التمثيل إلى قوى ناشطة وزاعمة للجذرية داخل المجتمع المختلط وداخل كل جماعة أيضاً.

في الجهة المقابلة للنظام، تشكّل ائتلاف عريض يطمح الى وضع حد نهائي لما يعتبر امتيازات فئوية أو طائفية لا يتناسب بقاؤها مع مشروع الدولة المدنية الحديثة التي يتساوى فيها الأفراد والجماعات باعتبارهم مواطنين.

خلال الأشهر الأولى للنزاع، اقتصرت المواجهات على مناطق محددة نشأت فيها خطوط تماس، فيما لاذ طرفا النزاع بلغة تعج بأفكار ومصطلحات ومفاهيم مأخوذة من قاموس السياسة الحديثة. لم يمنع ذلك من أن يطاول السجال تعريف الهوية الوطنية للبلد وعلاقته بقوى الخارج وبتعيين العلاقة مع «الغرباء» والأجانب حتى وإن كانوا مقيمين وناشطين داخل البلد. وكانت محاولات العثور على تسويات تبدو في نظر الجذريين لدى طرفي النزاع أقرب إلى الصفقة المعيبة إن لم تكن خيانة صريحة.

هكذا راحت الأبنية الوطنية، وهي هشّة أصلاً، تتصدّع وتوالت الانشقاقات عن الجيش فيما راحت الفراغات الناشئة عن التصدّع تجتذب قوى محلية وطامحة الى دور قد لا يتحصل لها في ظروف أخرى. إنهم أمراء الحرب ومجموعاتهم المسلحة وإن اقتصر دورهم على تزعّم حارة أو بلدة أو حتى زاروب. صحيح أن الجيش حافظ، على رغم الانشقاقات، على قدر من تماسك هيكليته، لكنه فقد الكثير من قيمة مرجعيته الوطنية، بحيث بات ترميم هذه القيمة يحتاج إلى توافق جديد. مع اتساع رقعة المواجهات والاستعانة بالحلفاء في الإقليم وفي الخارج، بات أصغر فصيل وأصغر أمير يعتبر نفسه صانع ملحمة أو معركة ذات بعد كوني.

في كلمة ملحمة لحم كثير وبشري خصوصاً للمدافع والبنادق والسكاكين. وفي كلمة معركة الكثير من العرك، أي من الحرب التي تعرككم عرك الرحى بثفالها على قول الشاعر الجاهلي. وغالبية المرشحين لأن يتحوّلوا، طوعاً أم قسراً، إلى لحم للمدافع هم من فقراء المدن وأحيائها المكتظة بالقادمين من الأرياف القريبة والمتشوقين إلى الخروج من الهوامش ومن عتمة الإقصاء والنبذ والدونية.

هكذا تتحوّل المساحات المتروكة والشقوق المتعاظمة والمتزايدة الاتساع بسبب انهيار الأطر الوطنية إلى مسارح للقسوة والحقد والانتقام. على إيقاع تفسّخ متسارع في البلد المشرقي المشار إليه، حصلت مجازر وحوصرت قرى وبلدات ومدن صغيرة وأشباهها، وجرت محاولات لقضم أجزاء من مدن كبرى أو وسطى، وقُتل أبرياء ومدنيون من كل الأعمار والفئات كما حصلت أعمال نهب وحرق وتدمير لكل ما يحسبه المقاتلون جسم الطرف الآخر وأرضه ومادة بقائه. ينبغي أن يمر وقت طويل وأن يتواصل جهد وعي تاريخي كي يتفطّن كل واحد إلى أن مقتل أي طفل وأي مدني يؤذن بموت شيء في إنسانيتنا ومنها.

نعلم أن طرفي النزاع يلجآن كما هي الحال في كل الحروب والنزاعات، إلى تقنية معروفة: النظر بعيون مفتوحة على أقصاها على جرائم الخصم والعدو والتقليل من أهمية الجرائم التي يرتكبها أبناء جماعتنا. هذه التقنية النفسية – الخطابية الملازمة لحاجات التعبئة والتحريض، تقود أيضاً إلى تبرير ما يفعله المحسوبون علينا بطرق مختلفة، فيما ينصبّ التركيز والاهتمام حصراً على فظائع المحسوبين على الجماعات الأخرى، المعادية تعريفاً. في البلد المشرقي المذكور، ينسب كل طرف إلى الجماعة الأخرى المسؤولية الكاملة عن جملة الدمار والمجازر والقتلى حتى وإن كان نصف القتلى أو ثلثهم من الجماعة الأخرى.

قد يظن القارئ أنني أتحدث عن سورية. من حقه أن يظن ذلك. فصحيح أنني كنت أتحدث في الحقيقة عن لبنان، لكن مقصودي، على رغم الفوارق الكبيرة بين الحالتين، هو الحديث عن الخراب والعبثية الضاربين في سورية وسقوطها المدوّي، قبل سقوط حلب الشرقية وبعدها، في لجّة مجهول لا قرار له سوى المزيد من التغوّل والفظاعة. إلا إذا حصلت أعجوبة لاجتراح حل أو تسوية سياسية ستكون بالتأكيد عرجاء ولا شرف لها سوى وقف النزيف والخراب وتجفيف الدموع وعودة النازحين والمشردين. ولا يمكن أن يحصل ذلك إلا بالتخفف من لغة الثنائيات المطلقة: الأبيض والأسود. فبينهما تنويعات رمادية كثيرة. والرماد هو لون سورية اليوم. هناك بالطبع من يهلل اليوم لسقوط حلب الشرقية وإعادة توحيد المدينة. وهناك من هلل قبل أربع سنوات لسقوطها في أيدي الفصائل المسلحة ونزوح نحو نصف مليون من سكانها إلى حلب الغربية أو مناطق أخرى.

سيكتشف الطرفان أن للانتصار في الحروب الأهلية وجهين متقابلين، وجه نشوة الغلبة الظرفية، ووجه بل مذاق تمزق عميق في اللحمة الوطنية.

التخفّف من الثنائيات أو المانويات الجاهزة يقتضي أيضاً مراجعة نقدية جريئة لما هو ملتبس وغامض ومخادع في طرائق استخدام الشعارات والمصطلحات والأفكار. مأساة حلب تستدعي في العاجل معالجة الوضع الإنساني لآلاف المدنيين المحاصرين أو العالقين. ارتقاء الوعي إلى مستوى المأساة السورية عموماً يفترض الشروع، لدى أطراف النزاع كافة ولدى الكتلة الصامتة، في إقامة جردة حساب قاسية بمقدمات ومجريات سنوات الجمر الحارقة. العنوان العريض لوقف المقتلة هو تثبيت أجندة وطنية تحفظ استقلالية القرار السوري وتحول دون جعل السوريين أرضاً وبشراً مادة حروب إقليمية ودولية وموضوع مقايضات وصفقات. نعلم أن الجذريين والديماغوجيين في أوساط الموالاة والمعارضة سيواصلون كجاري العادة عملية الهروب إلى الأمام.

ونعلم أن كتلة كبيرة من السوريين باتت تدير ظهرها لماضي سورية الوطني القريب، بما في ذلك تاريخها العثماني، وتذهب إلى أزمنة سحيقة تتبدى فيها هويات ما قبل الدولة والاجتماع الوطنيين حالة «طبيعية» وأبدية. إضاءة شمعة أفضل من لعن الظلام.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى