صفحات الثقافةهيفاء بيطار

البحث عن مواطن سوري سعيد


هيفاء بيطار

أتحدى أن يوجد مواطن سوري سعيد!

لستُ سوى مواطنة سورية، أحمل صليب الألم وأمشي في رحلة درب الآلام بانتظار القيامة والحياة الحقة المعمّدة بالكرامة والحرية… لستُ سوى مواطنة سورية تتشارك مع 23 مليون سوري، الإحساس بآلام لا تطاق.

آلام طاحنة لدرجة يبدو ألم السرطان أشبه بنكتة مقارنة بها. يمشي السوري متخماً بآلامه، شاعراً بالقهر والعجز وفقدان الصبر، لكنه يحاول أن يستمد شعوراً زائفاً بالشجاعة لمجرد أن قامته منتصبة!

مع طلوع الفجر، ثمة سؤال يتفجر في أعماق كل سوري: إلى أي حد أستطيع أن أتحمّل؟ يحاول أن يواسي نفسه بالقول بأن الوقت يشفي الجروح، يكرر لنفسه تلك العبارة دون أن يصدق كلمة منها!

لكن أكثر ما يعنيني أطفال سوريا، وجعي الأكبر، إن لم أقل الوحيد. أطفال سوريا الذين سيغدون شباب المستقبل، وصناع المستقبل بعد سنوات قليلة! فكيف حالكم يا أحبائي…

اسمحوا لي أن أكتب عنكم لأن طفولتكم وبراءتكم انتهكهما الكبار وقتلهما الرصاص…

سأبقى في الظل وأترك للمشاهد أن يعبّر عن حال أطفال سوريا.

في شوارع اللاذقية الضيقة وأزقتها تجد عشرات الصبية الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين 5 سنوات و14 سنة، يلعبون في فريقين: «الجيش الحر» و«الجيش النظامي»، وكل طفل يحمل بندقية بلاستيك بالكاد تختلف عن البندقية الحقيقية المحشوة بالرصاص الحي، ولا أعرف ما الغاية من صناعة هذه الدمى للأطفال.

ولا يمكنني أن أفهم إلا، أن العقل المدبر لابتكار هذه الدمى، والجهات التي تـُدخلها إلى البلد، تهدف إلى تغذية الروح العدوانية وإحياء النزعة الشريرة في أرواح الأطفال الذين ليسوا سوى عجينة في يد الكبار، يشكـّلونها كما يريدون.

هذه لعبة سوف تتحول بعد سنوات إلى حقيقة وواقع.

اعتقدتُ انني أول من لاحظ هذه الظاهرة، لكن فوجئت أن صديقة لي كانت تسكن في مخيم اليرموك في دمشق قبل أن تنزح إلى اللاذقية، قالت لي أن لعبة الأطفال هناك هي الانقسام إلى فريقين يقتل كل منهما الآخر!

أطفال سوريا اليوم يتسولون بثيابهم الرثة، وكل منهم يحمل علبة علكة، يستجدون المارة ورواد المقاهي، أن يشتروا العلكة. صرتُ أشعر أن العلكة أهم مادة في الحياة. بدل أن يكون هؤلاء الأطفال في المدرسة، فإنهم يسرحون في الشوارع بالمئات، يتسولون المارة كي يبيعوا العلكة!

مئات الآلاف من أطفال سوريا سحقت طفولتهم وروعوا. كنتُ شاهدة بحكم عملي كطبيبة على عشرات الأطفال كانوا يصابون بنوب من ضيق النفس الشديد الأقرب للاختناق، وحالة من التشنج الشديد بسبب صوت القصف المروع، فيضطر أهلهم، إن استطاعوا تجاوز مطر الرصاص، أن يحضروهم إلى المشفى لإعطائهم دواء لاسترخاء العضلات.

هنيئاً لكم أطفال سوريا كم عُقدت مؤتمرات تناقش ظروفكم الكارثية، وكم تتجمل إنسانياً بكم فضائيات تطالب بجمع التبرعات لكم. هنيئاً لكم أطفال سوريا، يا لإبداع الكاميرا التي تصوركم مذبوحين وملتاعين وراكضين حفاة، أو راقدين تحت الأنقاض، يحنو عليكم كفن من غبار، هنيئاً لكم كم يتاجر بكم الكبار.

أي تعاطف مقرف ومخادع بأطفال سوريا؟ ما معنى تلك اللقطة، طفلة بالكاد تعلمت النطق، بالكاد عمرها ثلاث سنوات، لوثوا وجهها بأصبغة ملونة ووضعوا في يدها صورة، ولقنوها أن تقول: «إعدام، إعدام».

من يفكر بشعور طفلة تتعلم أن تنطق أول كلمة في اللغة: إعدام…

تتعلم أن تقول إعدام، بدل أن تقول، ماما، بابا، الله، أخي، مدرسة، عصفور ووردة.

من يبالي بمشاعر آلاف، بل عشرات آلاف الأطفال السوريين الذين مات آباؤهم؟ من يبالي بمشاعر عشرات آلاف الأطفال السوريين الذين يتأبطون حقائبهم المدرسية متوجهين إلى مدارسهم عندما يتوقفون للحظات أمام اوراق نعي آبائهم؟

من يهتم بمشاعر آلاف الأطفال السوريين الذين عُطبوا، خسروا عيناً أو يداً أو قدماً، أو بذور فرح كانت كامنة في روحهم الطاهرة…

في علم نفس الطفل هناك حالة تسمى (تدمير الروح) وتعني انه حين يتعرض الطفل إلى أنواع رهيبة من القسوة والوحشية وإلى درجة عالية من العنف، فإن إرادة الحياة أو شهية الحياة تـُدمر في روحه، ويتشوش ذهنه بالرعب والذعر، فتموت روحه، ويتحول إلى إنسان آلي بلا مشاعر ولا أحاسيس، ويصير منفذاً لأوامر الكبار كإنسان آلي، ويصير عبداً لهؤلاء الذين يتاجرون بالأطفال ويتحاربون بهم، فيحولونهم إلى دمى وبهاليل يُزج بهم في معارك الكبار، ويكتبون على وجوههم بأصبغة ملونة، ويحولونهم إلى مهرجين ويلقنونهم كلمات يرددونها كببغاوات.

ثمة صورة تروعني كلما شاهدتها، صورة طفلة لم تكمل عامها الأول تحملها أيد ٍ وتجلسها على ظهر دبابة! صورة ستنطبع كوشم في ذاكرة هذه المسكينة التي تعتقد انها في حماية الكبار والتي لا حول لها ولا قوة سوى ما يرغب الكبار أن يفعلوا بها!

هؤلاء الأطفال الذين شهدوا مجازر وفظائع يعجز عقلهم عن استيعابها، هؤلاء الذين شهدوا مجازر لأطفال في عمرهم وأجساد بضة مكومة بعضها لصق بعض أو فوق بعض، لعلهم يحبسون أنفاسهم والذعر يتقصف في مفاصلهم متسائلين هل سيكون مصيرنا مثل هؤلاء الأطفال!

لعل الرأفة الوحيدة التي تنعمون بها أحبائي أطفال سوريا كون عقولكم غير الناضجة بعد، عاجزة عن استيعاب كل هذا الشر والوحشية حولكم.

كاتبة من سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى