صفحات الرأي

التطرّف بما هو فشل أو مرض عقلي/ إبراهيم غرايبة

 

 

 

«تقاس قوة العقل بمدى قدرته على تحمّل الحقيقة».

نيتشه

تحتاج ظاهرة «التفكير البطولي والسلوك البراغماتي» إلى توقّف ونقد متكرر، فأن يكون السلوك مختلفاً عن التفكير يعني أن أحدهما خطأ ويجب أن يصحّح. وبالطبع، فإن السلوك البراغماتي سلوك عقلاني يدل على خطأ التفكير المناقض، وليس المقصود دعوة المتطرفين والأبطال لفظياً إلى سلوك متطرف منسجم مع ما يقولونه، لكن لإعادة النظر في أفكارهم وطريقة تفكيرهم.

الظاهرة خطيرة للمناسبة، ولا تقل خطورة عن السلوك المتطرف لأن أصحابها وإن كانوا ليسوا متطرفين، فإنهم في غالب الأحيان إن لم يكن دائماً، يترفعون عن المشاركة الإيجابية العامة أو يدخلون في مواقف سياسية واجتماعية منفصلة عن الواقع، ويعتقدون أنهم بسلبيتهم منسجمون مع أنفسهم، لكنهم يعطلون أو يضعفون التأثير الاجتماعي الممكن إنجازه في السياسات والتشريعات واتجاهات الأسواق والحكومة والمجتمعات والأفراد. وهم في الواقع يدخلون أنفسهم وقطاعاً من الجماهير والمجتمعات في حالة سلبية منفصلة عن الهموم اليومية والنسبية، ليتعلّقوا بالمطلق الأقرب إلى الوهم أو المستحيل.

والخطورة الثانية في الظاهرة، أن كثيراً من دوافع التطرف السياسي والأيديولوجي (النظري) ليست مرتبطة مباشرة بالموقف الفكري المعلن، لكنها مستمدة من الشعور بالظلم أو الميل الى العزلة أو الفشل أو العجز عن الانتماء والمشاركة، أو مشاعر وهمية مَرَضِيّة بالاستعلاء والتميز أو انتماءات اجتماعية أو دينية فرعية تتغلب على الانتماء الوطني أو الانتماء الى المكان أو المصالح الاقتصادية والاجتماعية العامة والكبرى، أو عدم القدرة على الربط بين التطلعات الفردية والاتجاهات السياسية والاجتماعية.

وفي أحيان، يكون التطرف غطاء للمصالح الفاسدة والمشبوهة وتحالفات اقتصادية واجتماعية وسياسية تضرّ بمصالح المجتمع أو تتضمن تجاوزات قانونية وأخلاقية وتهرباً ضريبياً ورشاوى.

هي بطولات وأفكار ومواقف في مبالغتها في التطرف والرفض وفي تناقضها مع السلوك الواقعي تبعث على الريبة والقلق، فعدم الانسجام أو التطرف الانتقائي يؤشر إلى الفشل، إذ يجب أن يكون السلوك والموقف مستمدّين من فكرة أو فلسفة منشئة لهذا السلوك.

لكن أسوأ ما في الظاهرة، أنها يمكن أن تنتج انسجاماً وتطابقاً بين الفكر والتطبيق، فذلك الانسجام ليس سوى مرض عقلي خطير على الذات والسلامة العامة والمجتمعات والعالم، فالذين مضوا بجدية وصدق في متابعة مقولاتهم المتطرفة والمستعلية، ألحقوا بأنفسهم وبالعالم كارثة يصعب نسيانها. النازية والفاشية والقوميات و «القاعدة» و «داعش» وغيرها كثير، دمرت دولاً وشعوباً ومنحت «مجانين أذكياء وجلودين» فرصاً وهيمنة لممارسة الجنون. هتلر والبغدادي والقذافي والزرقاوي…، وقائمة طويلة من المجانين العباقرة الدؤوبين الذين سلكوا في قيادة العالم والدول والجماعات على نحو مرعب!

والحال، أن إقحام الأيديولوجيا في السياسية مرض عقلي ولعله أسوأ الأوبئة التي لحقت بالعالم بعد الطاعون، من الأيديولوجيا الوطنية إلى الأيديولوحيا القومية إلى الأيديولوجيا اليسارية إلى الأيديولوجيا الدينية، وبالطبع هناك ضرورات للمقاومة والدفاع عن الأوطان والعمل الفكري والاقتصادي والسياسي المستمد من أفكار ومشاعر قومية وإقليمية، والنضال لأجل العدالة الاجتماعية، والعمل لأجل الأفكار والقيم الدينية واستحضارها لأجل الارتقاء الروحي بالفرد أو للإصلاح الاجتماعي والسياسي. لكنها في تفاعلها مع السلطة السياسية والصراع السياسي، تتحوّل إلى قوة تدميرية لم تفد إلا الشر والشيطان!

كيف نمنح السياسة القيم والدوافع الجميلة والروحية؟ كيف نحافظ عليها نسبية وعدم يقينية وقابلة للتصحيح والنقد والمراجعة؟ كيف لا نتركها تنزلق إلى الاستبداد ولا يهيمن عليها مجنون؟.

* كاتب أردني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى