صفحات الثقافة

الجثة.. المرور من القتل إلى العرض البصري/ حكيم عنكر

 

 

يتيح “العرض البصري” الحوثي لجثة علي عبدالله صالح، وتصويب جسده الخاص لطلقات الكاميرات، بعد أن أدت طلقات الرصاص مهمتها، وهو ملفوف بتلك الطريقة المهينة، والمقصودة، في بطانية صوف ملونة، ومرمي مثل متاع متروك في خلفية سيارة نقل، بينما تتلاعب به الأيدي، وتقلبه للحصول على تصوير “أفضل”، وصولا إلى “العرض المثالي” للجثة… يتيح هذا المشهد المفزع، تأمل موضوع الجثة، حين يغادرها صاحبها، أو بالأحرى حين تغادرها روحه، هل تصير ذات معنى، أم هي إعلان عن نهاية للفعل والكلام وامتلاك رفاهية المرافعة عن الذات ضد خصم أو خصوم، وبداية جديدة للتحلل العضوي في المادة.

خبراء التشريح، يقدمون تفاصيل ما تصير إليه الجثة، بعد يوم أو بعد يومين أو بعد أسبوع أو خلال ستة أشهر أو ما تبقى لها من الاستمرار والتحول شيئاً جديداً في مكانها الجديد في اللحد.

حين كانت جثة معمر القذافي مسجاة ومستباحة عارية للعرض والتصوير في تلك القاعة، لم يفارق الفزع زائريه حتى وهو ممدد بدون روح، كان هناك خوف من أن ينهض من جثته كي يحكم ليبيا من جديد. الخطاب البيّن لمنظمي “عرضه” كان صريحاً: التمثيل بجثة الطاغية. فعلوا كل ذلك بـ”براعة” وبإحكام شديد واستعانة بالطب وعلم التشريح وبرّادات القاعة.

وحين جرى نقل مشهد شنق صدام حسين، في عيد الأضحى ذاك، كان القصد عرض الجثة معلقة إلى حبل وهي تتأرجح في الفراغ، قبل أن تسقط. كل هذا جرى التفكير فيه بدقة متناهية، فالعرض هنا مهم وهو يكتسب ديمومته في الزمان والمكان ويتأبد كحدث ما فوق واقعي، يتأسطر. حدث يحفر كلحظة فارقة في الحياة العامة، ويتحول الجسد المحروس بالقوانين والشرائع وما أفرزته المدنية الحديثة من أشكال المحاكمات العادلة أو غير العادلة، إلى دمية، أو شيء يمكن التصرف فيه، وتعريته وإشاعة موته الخاص كرسالة تهديد إلى الأحياء وهم يأكلون ويتحابون ويمشون في الأسواق ويتقاتلون بالسلاح المشاع ويطيلون الجلوس على كراسي الحكم.

صاغ ديكارت مبدأه “أنا أفكر، إذا أنا موجود”، ليثبت علاقة الجسد بالفكر، سبينوزا يعاكسه تماما، حين يؤكد أن الإنسان هو اتحاد بين المادة والروح. ووفق المبدأ الديكارتي، فإن توقف الإنسان عن فعل التفكير هو نفي لوجوده، ولو أخذنا بقاعدة سبينوزا، لقلنا إن انفصال الروح عن الجسد، هي نهاية للإنسان وبداية لـ”الجثة”.

توفر القواميس والمعاجم الطبية الطريقة المثلى للتخلص من الجثة، دفنها أو إحراقها، وتضع لذلك أمداء زمنية، ولكل عشيرة بشرية طريقتها وطقوسها المرافقة للدفن أو الحرق. قد يدوم “الحفل” لحظة، قد يكون متقشفا أو يستغرق وقتا أطول وباذخاً، كما يليق ذلك بـ”جثة” من علية القوم.

في حالة صدّام والقذافي وصالح، لم تكن الرمزيات تتوقف عند القتل في حد ذاته، بل كان القصد إنتاج سردية أسطورية لما بعد نزع الروح عن الجسد، أو وقف الوجود المادي وتعطيل تفكير الكائن الحي وتحويله إلى جثة، ثم بعد ذلك عرضه على شاشات الأحياء، وحفر اللحظة في أرواحهم وهم يتأملون في هواتفهم النقالة، ثقوب الرصاص وشجات الرأس أو الرقبة المعتصرة حتى النزع الأخير.

لكن، هل تكتسب الجثة في معرض الموت هذا حياة أخرى، أو بصيغة أدق، كيف تسهم وسائط التواصل الاجتماعي، و”التصوير الحي” في إنتاج خطاب سياسي وأخلاقي، أو ربما في تدميرهما معا.

قبل شهرين، أثيرت ضجة حول معرض في جنيف قام بعرض جثث أمام الجمهور ضمن موضوع حول تحولات الحياة. عدد من نواب البرلمان هاجموا المعرض، واعتبروا فكرته سقوطاً أخلاقياً، وحمّلوا المسؤولية للدولة التي لم تعد تملك البصيرة الكافية، ودعت الحملة المناوئة للمعرض المجتمع إلى التحرك لحماية خصوصية هذه الجثت المعروضة.

وضع صالح مختلف تماماً، فقد عمد جزء من المجتمع، الحوثيون، إلى قتله وعرضه، كعقاب على خيانة ما. نزعت الروح كوسيلة انتقام وعرض الجسد الهامد أمام كاميرات التصوير كرسالة لمن يجرؤ بعد ذلك.. ولكن، ما يخفى، أو يستعصي على القبض، أن الكاميرا نفسها ليست محايدة، وفلاشات التصوير تقتل أكثر من طلقات الرصاص، أو قد تقبض على ابتسامة ماكرة للجثة، ابتسامة تسخر، وهي ذاهبة نحو مآلها الجديد.

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى