صفحات سوريةطيب تيزيني

العلمانية والسياسة والدين/ طيب تيزيني

 

تتصاعد وتيرة الجدل والحوار في العالم العربي الآن حول العلاقة -إذا كانت موجودة- بين العلمانية والسياسة والدين، وهل هذه العلاقة موجودة بدلالة سلبية، بحيث تبقى الواحدة من القضايا الثلاث قائمة على علاقة تضايف، أو يمكن أن تكون أو أن تصير كذلك فيما بينها؟ وثمة ملاحظة ذات بُعدين اثنين يبرزان في سياق الظاهرة الجديدة في الحياة السياسية الثقافية العربية، وهي ظاهرة «الربيع العربي»، أما ما يجعلنا قادرين على اكتشاف أهمية تلك الثلاثية في تأسيس هذا «الربيع» وترسيخه عربياً وسورياً بكيفية خاصة، فيتمثل في أن ما يربط بين الفريقين المذكورين هو الفعل الوجودي والفعل الوظيفي.

إن السيد حسين إسماعيل الصدر في الحوار الذي أجرته معه قناة «العربية» في الأول من هذا الشهر أوضح أنه في بلد كالعراق لا يمكن تناول الثلاثية إياها بأفق يخدم «الربيع العربي» المذكور إلا إذا وُضعت أطرافها الثلاثة المذكورة والمكونة لها موضع التوافق والتضايف الوظيفي. فأن تجد تلك الأطراف الثلاثة نفسها في بنية واحدة وفي مخاض واحد، إنما هو قراءة محتملة في اللحظة التاريخية التي يعيشها العالم العربي راهناً، أي في لحظة نحددها بمثابتها «حُطاماً عربياً مفتوحاً»، أما انفتاحية هذا الحطام فنكتشف مسوغاتها موزعة على الحقول الثلاثة التالية: العلمي التاريخي والشرعي والبراغماتي، فلا ضرر ولا ضرار.

إن مصالح الشعوب العربية في العصر المعيش الآن تحتمل ما يوحد الأطراف الثلاثة من القراءة المذكورة، حتى في حال كون تلك الأطراف قابلة لأن تخدم حالات أخرى، أو لنقل استراتيجيات أخرى أو حتى في حال كون الأطراف المعنية تقول ما يتوافق مع الأهداف التي يُضمرها الكاتب والقائل:

أولاً، ثمة مسألة لغوية تتصل بكلمة أو بمصطلح «علمانية»، وهذا الأخير -في نشأته الغربية- يقوم على «العالَم» وليس على «العِلم»، ومن ثم فإن مرجعية هذا المصطلح تكمن في الأول «العام» وليس في «الخاص»، وهذا يعني أن الانطلاق من العالم هو الذي يحدد الرؤية العلمانية، وليس الانطلاق من العلم: رؤية العالم بحكم كونه موضوعاً ومنهجاً وآفاقاً، ومن شأن ذلك أن يُفضي إلى التشديد على العالم بوصفه موضوع الراهن والمباشر وليس ما وراء المباشر. ها هنا، أحسن المرجعية السيد حسين إسماعيل الصدر، حين ضبط دلالة العلمانية بالعالم أو بالكون بعيداً عما «وراء» العالم والكون، مما أخرجه من دائرة المناقشة حول الدين ببعده المابعدي، وأبقاه في دائرته البشرية المباشرة، وحينذاك لم يعد الشعار الذي تحدث عنه السيد حسين وجمع فيه السياسة والدين مع العلمانية، أمراً مُحرجاً أمام خصومه من السياسيين وبعض رجال الدين السلفيين الظلاميين، وبتعبير آخر، بدأ بإحالة المصطلحات الثلاثة في الشعار السابق إلى المستوى الكوني الطبيعي، وتابع بحثه دون الوقوع في مستويات لم يقصدها.

إن هذا الذي أسس له السيد حسين كان بمثابة الدخول إلى مستوى التوحيد السياسي المجتمعي للمجتمع العراقي، فهذا الأخير، الذي عرف على مدى عقود مديدة صراعات دينية وطائفية وعرقية وقومية أنهكت بنيته العمومية، وأدخلت فيه غير قليل من النزاعات، بحيث وصلت إلى الحرب، ثم إلى المرحلة الراهنة، التي اختلطت فيها هشاشة الوضع الداخلي بعوامل التدخلات الخارجية فيه، وهذا بدوره حوّل الانتخابات البرلمانية -أي الاستحقاق العراقي الحالي- إلى مشجب يعلق عليه الجميع أو معظمهم مشكلاتهم وآمالهم لهذه المرحلة على الأقل.

إن رؤية وطنية عقلانية ومدنية لما يحدث الآن في العراق تجد عقبات كبيرة تطلقها القوى الطائفية الظلامية في هذا البلد، الذي يعاني منذ عقود أوضاعاً خطيرة من التخلف والتخليف، ومن الفساد والاستبداد، وذلك على نحو يهدد حقاً وتائر الاستقرار والتقدم والبناء. ولا يستطيع المرء أن يُهمل، في هذه الحال الرثة، أصداء «الربيع العربي» التي تكاد تختفي في الساحة العراقية المشغولة بنشاطات شطر كبير منها لا يخرج عن كونه عوامل مُعيقة لرهانات الاستقرار والوقوف في وجه الطائفية الدينية وانتشار السلاح الطائفي.

نحن هنا لا نشك في أن المواقف الوطنية والحكيمة، التي تبديها ثلة من رجال العراق في سبيل رأب الصدع والعودة إلى العمل العقلي النظري والسياسي الحكيم والجامع، يمكن أن تمارس دوراً فعالاً في مواجهة المخاطر المتأتية من المرحلة الراهنة ذات الحساسية البالغة، وفي هذه الحال، كم تحتاج القوى العراقية بكل أطيافها إلى ما يُحيّد نار الطائفية والعرقية وما يرتبط بهما من مجموعات، ضمن مساعٍ تهدف إلى مساعدة القوى الوطنية العقلانية والتنويرية.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى