صفحات العالم

العنف الفائض… استراتيجية الأسد

بعد عامين من العنف المتفاقم على امتداد حدودها مع سوريا، سوف يكون من حق تركيا الذهاب للحرب ضد نظام الأسد. ففي الحادي عشر من مايو الجاري، قام كبار المسؤولين في أنقرة بتوجيه اللوم لنظام الأسد مباشرة على واحدة من أسوأ الهجمات الإرهابية التي وقعت في تاريخ تركيا. فقد كان حادث تفجير السيارتين الذي أسفر عن مصرع ما يزيد على 50 شخصاً في مدينة الريحانية التركية، هو ثاني هجوم من هذا النوع يقع بالقرب من الحدود التركية السورية، وكانت قد سبقته أحداث عديدة، مثل تبادل القصف عبر الحدود عدة مرات، وإسقاط الطائرة التركية في يونيو من العام الماضي، وأزمة اللاجئين غير المسبوقة التي شكلت عبئاً كبيراً على تركيا.

وفيضان العنف، وطوفان اللاجئين ليسا أعراضاً جانبية للصراع السوري فحسب، وإنما يمثلان جزءاً جوهرياً من استراتيجية نظام الأسد لردع جيرانه الأتراك، ومنعهم من التدخل لإيقاف حملة قمعه الدموية للمعارضين.

وتفجيرا الريحانية كانا بمثابة استعراض عضلات من جانب جيش الأسد المعزز بمنظومة من المجموعات والمنظمات الوكيلة الموالية له، والتي تنتشر في مختلف أنحاء المنطقة، وتمتد قدرتها على النفاذ والضرب إلى مدى يفوق بكثير ذلك الذي يتمتع به الجيش السوري. وقد وجهت إدارة أردوغان، الاتهام لواحدة من تلك المنظمات الوكيلة، وهي «حزب التحرير الشعبي» التركي، فيما يتصل بالهجمات التي وقعت في الحادي عشر من مايو الجاري، وذلك بعد القبض على تسعة من المواطنين الأتراك المرتبطين بالحزب.

وسواء كان تفجيرا الريحانية قد تما بناء على أوامر مباشرة من دمشق أم لا، فالمؤكد أنه كان لهما تأثير فعال في ردع الأتراك عن التدخل في سوريا. فبعد وقوع ذينك التفجيرين تفجرت مظاهرات في عدد من المدن التركية توجه كلها اللوم لحكومة أردوغان على الهجومين، على أساس أنهما قد وقعا كرد فعل على الدعم الذي تقدمه أنقرة لمسلحي المعارضة السورية. وفي الوقت نفسه أدى الحادث إلى زيادة درجة العداء ضد مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في محافظات تركيا الجنوبية القريبة من سوريا، والتي تتسم بدرجة كبيرة من التنوع العرقي.

ومن الواضح أن أصداء حادث الريحانية كان مقصوداً بها أن تصل إلى إسرائيل والأردن لإجبار حكومتيهما على إعادة النظر في المغامرة بالتدخل على نحو أعمق من اللذي قاما به حتى الآن في فناء الأسد الخلفي. ويرجع السبب في هذه الرغبة إلى حقيقة أن سعي تركيا للنأي بنفسها عن التورط أكثر في الأزمة السورية، وسعي لبنان للبقاء محايداً، أديا إلى تحويل إسرائيل والأردن إلى عاملين رئيسيين في الصراع السوري. فالأردن يعمل كقناة توصيل للأسلحة القادمة من بعض الدول العربية للمقاومة السورية من ناحية، ويعتبر من الداعمين الرئيسيين لحملة الدعوة لتأسيس منطقة آمنة في جنوب سوريا من ناحية أخرى. وفي الوقت نفسه، وفي الخامس من مايو الجاري، قامت الطائرات الإسرائيلية بضرب مواقع جيش الأسد في ضواحي العاصمة دمشق ودمّرت شحنة من الصواريخ التي كانت متجهة -بحسب تل أبيب- لـ«حزب الله» اللبناني، ما أسفر عن مصرع عشرات من قوات الحرس الجمهوري التي تمثل قوات النخبة في الجيش السوري.

وقد هدد نظام الأسد بالانتقام من الهجوم الإسرائيلي عن طريق شبكة حلفائه ووكلائه، مثل «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة» التي تتخذ من دمشق مقراً لها، و«حزب الله» اللبناني الذي هدد بنقل القتال ضد إسرائيل إلى هضبة الجولان التي ظلت هادئة لفترة طويلة. وهناك أنباء بأن الحزب قد قام بالفعل بنشر 40 من مقاتليه في الجولان تمهيداً لشن هجوم هناك، على ما يُفترض.

والوضع في هضبة الجولان يوفر ظروفاً نموذجية للهجمات الفدائية؛ كما أن وجود جماعات مسلحة متعدده هناك، مقروناً بغياب الجيش السوري، سوف يعقد أي مجهود لتحديد المسؤولية عن أي هجوم يقع ونسبتها لأي طرف، ويجعل من الصعوبة بمكان على إسرائيل تبرير أي هجمات انتقامية تقوم بها فيما بعد ضد مواقع «حزب الله» في لبنان، أو حتى ضد نظام الأسد.

ووقوع موجة من الهجمات من مرتفعات الجولان لن يترك أمام إسرائيل من خيار سوى دخول الأراضي السورية وتأسيس منطقة عازلة على الطرف الآخر من خط المواجهة.

ومنذ بداية الصراع حذّر الأسد من أن سقوط نظامه سوف يؤدي إلى إغراق الشرق الأوسط كله في الفوضى. ومن العجيب أنه أشار بشكل خاص إلى التأثير الذي سوف تلعبه الجماعات الإسلامية المتطرفة في نشر تلك الفوضى. فالمفارقة هنا أن هؤلاء المتطرفين هم الذين سمح لهم الأسد بالتدفق عبر حدوده إلى العراق لشن هجمات طائفية خلال فترة احتلال الولايات المتحدة الأميركية لذلك البلد، وهم أيضاً نفس المتطرفين الذين باتوا الآن يحظون بنفوذ متزايد في سوريا. وإذا ما أخذنا وكلاء الأسد باعتبارهم عاملاً من العوامل المساعدة على انتشار الفوضى في الحسبان، فإننا سنتوصل لنتيجة مؤداها أن الأسد ليس مدافعاً عن الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، وإنما هو السبب الأول الذي يحول دون تحقق هذا الاستقرار.

فرغم جيشه المستنزف وعزلته الدبلوماسية شبه الكاملة، يواصل الأسد التمسك بالسلطة عن طريق إرهاب جيرانه وحلفائهم لإبعادهم عن المساهمة في أي عمل حاسم يمكن أن يؤدي لإنهاء الصراع. ومن هنا فإنه كلما أسرع المجتمع الدولي في مواجهة هذه الاستراتيجية التي تشبه استراتيجيات المافيا، كان احتمال عودة الاستقرار الإقليمي للشرق الأوسط أكبر نسبياً.

دانييل نيسمان

مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسسة «ماكس سيكوريتي سوليوشن» المتخصصة في الاستشارات الأمنية

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى