صفحات العالم

المعارضة السورية: خلافات رأي أم حرب زعامات؟


منذ انطلاق «الثورة السورية»، قبل تسعة أشهر، ارتفعت أصوات كثيرة للمطالبة بتوحيد صفوف المعارضة، وتنسيق الجهود بين مختلف فصائلها، من أجل تشكيل هيئة موحّدة تتولى المرافعة باسم الحراك الشعبي السوري في الخارج. لكن هوة الخلافات تتزايد، يوما بعد يوم، بين مختلف أطياف المعارضة السورية، وبالأخص بين هيئتيها الأبرز «المجلس الوطني» و«هيئة التنسيق». «الأخبار» استطلعت في هذا التحقيق مختلف الفعاليات السورية المعارضة حول أسباب هذه الخلافات والعقبات التي تعترض توحيد صفوفها.

جدلية التوافق والإقصاء… والنـموذج الجنوب ــ إفريقي (1/4)

منذ بداية الأزمة في سوريا، ارتفعت الأصوات المطالبة بتوحيد صفوف المعارضة من أجل تشكيل هيئة موحَّدة تتولى المرافعة باسم الحراك الشعبي في الخارج. واعتُبر تأسيس «المجلس الوطني السوري» خطوة في هذا الاتجاه وهو ما فسّر موجة التفاؤل التي رافقت الإعلان عن تأسيسه في الداخل السوري، قبل أن يعود التشاؤم سيد الموقف. هكذا تظهر قصة المعارضة السورية مسألة خلافات سياسية وشخصية وحرب زعامات

عثمان تزغارت

باريس | منذ تأسيس «المجلس الوطني السوري» في مطلع تشرين الأول الماضي في إسطنبول، سرعان ما خيّب أداؤه التوقعات المتفائلة بإمكان تجسيده محطة جامعة للمعارضة السورية في الخارج على الأقل، إذ لم ينجح في إخراج المعارضة من بؤرة النزاعات الإيديولوجية وصراعات الزعامة. وكان لافتاً أن هوة الخلافات بين فصائل المعارضة ازدادت حدتها بعد تأسيس «المجلس»، حيث اعترضت العديد من تيارات المعارضة على ما سمته «محاولات الهيمنة» التي تنادي بانضمام الجميع إلى «المجلس الوطني»، معتبرةً أن ذلك ينمّ عن «فكر أحادي يعيد إنتاج الاستبداد، ويؤسس لأشكال جديدة من التسلط لا تختلف كثيراً عما عانت منه سوريا على مدى نصف قرن». أما بعض التيارات الأخرى، فقد عابت على «المجلس الوطني» غياب رغبته الجدّية في الانفتاح على من يخالفونه الرأي من المعارضين السوريين.

والأدلة بالنسبة إلى هؤلاء كثيرة، منها أنه «عِوض أن يتحاور المجلس مع من يختلفون معه للتوصل إلى أرضية توافقية مشتركة يسعى إلى إقصائهم أو تهميشهم، ولا يتردد في الاستقواء عليهم بقوى خارجية كما حدث في باريس عندما تدخّل المجلس لدى وزارة الخارجية الفرنسية لمنع إقامة مؤتمر صحافي لميشيل كيلو، أو باللجوء إلى العنف مثلما حدث في القاهرة خلال الاعتداء الذي تعرّض له وفد هيئة التنسيق الوطني من أجل التغيير الديموقراطي لمنعه من الدخول إلى مقر الجامعة العربية للقاء أمينها العام».

هذه الخلافات المزمنة التي تتخبط فيها المعارضة السورية تدفع بالناشط في «تجمع الجاليات السورية في المهجر»، فهد المصري، للقول إنّ «المعارضة السورية في الخارج غير قادرة حتى الآن على أن ترقى إلى مستوى الحراك الشعبي داخل سوريا، فقد مضت أشهر على انطلاق الثورة في سوريا، والمعارضة في الخارج لا تزال تنهش بعضها البعض، ولم تستطع أن تتجاوز الخلافات الإيديولوجية والسياسية التي تتخبط فيها، فضلاً عن الصراعات الشخصية ومعارك الزعامة». ويرى المصري أن «كل هذا يعطي الانطباع بأن المعارضة في الخارج لا تعمل من أجل دعم الحراك الشعبي في الداخل، بل تسعى إلى ركوب الثورة من أجل تحقيق مكاسب مناصبية أو حزبية ضيقة».

بدوره، يعترف الدكتور منذر ماخوس، نائب رئيس لجنة العلاقات الدولية في «المجلس الوطني»، بأن حالة التخبط الذي تعاني منها المعارضة السورية لا ترقى إلى مستوى اللحظة التاريخية التي تواجهها البلاد، ويفسر ذلك بقوله: «هناك مشاكل ونقائص كثيرة في صفوف المعارضة السورية. ومن دون الغرق في التفاصيل، يمكن الاشارة إلى أن كل فصائل المعارضة مسؤولة، بنسب متفاوتة، عن الوضع الحالي»، لافتاً إلى أن السبب الرئيسي لهذه الإشكالية «يعود إلى غياب أي فضاء سياسي حرّ في سوريا منذ خمسة عقود».

ويوافق رئيس «هيئة التنسيق الوطني» في المهجر، الدكتور هيثم مناع، على هذه الرؤية، على قاعدة أنّ «الديموقراطية ليست تقليداً راسخاً، لا في المجتمع السوري ولا في تعبيراته السياسية والمدنية. ونحن نقرأ ونسمع بالفعل في خطاب بعض المعارضين ما لا يختلف في منطقه الاستقصائي والمتعالي عن ديكتاتورية آل الأسد، لذا يجب أن نحرص جميعاً على تخليص ذواتنا وتطهير محيطنا باستمرار من رواسب الديكتاتورية». في المقابل، يشير «عميد» المعارضين السوريين، ميشيل كيلو، إلى أنه، كـ«معارض مستقل غير منضوٍ في المجلس الوطني ولا في هيئة التنسيق»، صاحب رؤية توفيقية تنادي بتكاتف جهود الجميع من أجل دعم الحراك الشعبي والمجتمعي في سوريا، وذلك في مناخ تعددي يحترم خصوصية كل فصيل من فصائل المعارضة. وفي هذا الموضوع يشدد على أنه «يجب أن تعمل المعارضة السورية على تنسيق جهودها من أجل التوصل إلى أرضية مشتركة تتوافق عليها مختلف الفصائل، بدلاً من محاولة إدماج الجميع في تنظيم موحَّد. لأننا نريد أن نذهب إلى الديموقراطية، ولا يمكن أن نصل إليها عبر تنظيم أحادي». وفي إطار عدم اعتراضه على وجود عدة تجمعات للمعارضات السورية، يخلص كيلو قائلاً «كفانا ما عانيناه من التنظيم الواحد. نريد أن تبقى لدينا تنظيمات وأطياف سياسية متعددة، بشرط أن تلتقي جميعها في دعم القضية الكبرى، أي قضية سوريا ووحدتها وحريتها».

مثل هذا المسعى التوافقي تعترضه العديد من العقبات، في مقدمتها تفاقم الخلافات بين أبرز فصيلين في المعارضة السورية، وهما «المجلس الوطني» و«هيئة التنسيق». وبحسب صالح مسلم، رئيس حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري»، المنضوي في «هيئة التنسيق»، فإن «المجلس الوطني يمارس منذ تأسيسه، نشاطاً دعائياً مكثفاً ضدنا، يسعى فيه إلى محاربة هيئة التنسيق وتشويه سمعتها بقصد إقصائنا وسدّ السبل أمام أي لقاءات بيننا وبين القوى المختلفة كي لا تتعرف الأطراف الدولية والعربية علينا وعلى حقيقة نهجنا، وحتى لا يكون هناك أي صوت مسموع خارجياً سوى للمجلس الوطني».

لكن كيلو، الذي كان أول من تعرّض إلى تضييقات «المجلس الوطني» خلال زيارته باريس، يرى أن تلك «النظرة الإقصائية» بدأت حدّتها بالتراجع في الفترة الأخيرة، بدليل أن «المجلس الوطني» دخل في مفاوضات بالقاهرة مع «هيئة التنسيق»، في إشارة إلى المسار الذي خرج عنه الاتفاق السياسي بين التنظيمين والذي أثار سجالاً واسعاً في اليومين الماضيين (انظر التقرير أدناه). ويرى كيلو أن مجرد حصول هذه المفاوضات، هو بمثابة اعتراف من «المجلس الوطني» بوجود هيئة أخرى تمثل قطاعاً هاماً من المعارضة السورية. ووفق تعبيره، يشكّل ذلك تطوراً إيجابياً يدفع إلى التفاؤل بإمكان الانتقال من «عقلية الإقصاء» إلى «منطق التوافق». ويشرح ضرورة «قيام حوار موسع حول عدد من القضايا الأساسية المتعلقة بحاضر سوريا ومستقبلها، وأن يكون هذا الحوار دقيقاً وموضوعياً ويتّسم بالوطنية والغيرية والرغبة الصادقة في إيجاد توافقات حول قواسم مشتركة ملموسة يمكن العمل معاً على تنفيذها، وفق ما يتم التوافق عليه من تقاسم للصلاحيات والأدوار».

يتفق منّاع مع ما يقوله كيلو بخصوص تراجع «النظرة الإقصائية» لدى «المجلس الوطني». لكنه يبدو أقل تفاؤلاً بخصوص انتقال «المجلس الوطني»، فعلياً، إلى العمل بـ«منطق توافقي» بما أن «صيغة الإقصاء أو الإلحاق بهيكل واحد صارت مرفوضة الآن في العقل الجماعي للمعارضة السورية، وبالتالي يُفترض من دعاتها في المجلس الوطني أن يتحرروا منها، وخصوصاً بعدما تبيّن للجميع فشل صيغة الوحدة الاندماجية التي أُريد فرضها أمراً واقعاً». وفي هذا الموضوع، يعرب مناع عن موقف «هيئة التنسيق» الذي يفيد بأن «الصيغة الأكثر واقعية تتمثل في عقد مؤتمر سوري عام يشمل المجلس الوطني وهيئة التنسيق والشخصيات العامة المستقلة والكتلة الكردية، مع احتفاظ كل طرف بهيكليته الأصلية»، على أن يتم الابقاء على امكانية أن تنبثق عن هذا «المؤتمر العام»، هيئة قيادية مشتركة، بحسب تعبيره. حتى ان مناع يرى أنّ إنشاء «مؤتمر» من هذا النوع، على طريقة النموذج الجنوب ـ أفريقي، هو «أمر أكثر واقعية ونجاعة من بعض الأطروحات المستهلكة التي يتمسك بها البعض والتي تحاول استنساخ المثل الليبي».

لكنّ الآراء تتباين، حتى داخل «هيئة التنسيق»، بخصوص إمكانية الخروج من مفاوضات القاهرة بصيغة توافقية لعقد «مؤتمر عام» تنبثق عنه قيادة مشتركة تضم مختلف أطياف المعارضة السورية. وهنا، يبدو صالح مسلم متفائلاً بحظوظ تحقيق النموذج الجنوب ـ أفريقي الذي ينادي به هثيم مناع. لكن القيادي في هيئة التنسيق، «المستقل» حالياً، سمير العيطة، يتحفظ على ذلك، لأنه يشكك في صدق نوايا «المجلس الوطني» في هذا الخصوص. وبالنسبة إلى احتمال توحيد المعارضة، يعلّق مسلم بـ«نحن نؤيد توحيد صف المعارضة، لكن بشرط أن يتم ذلك تحت مسمى جديد غير المسميات الحالية. لدينا في هيئة التنسيق 15 حزباً سياسيّاً عريقاً تمتلك قاعدة جماهيرية كبيرة، ومعظمها ترفض الانضمام إلى صفوف المجلس الوطني بصيغته الراهنة». ويستدرك مسلم بأنه مقابل هذا الوضع، لدى «المجلس الوطني أطراف تجاهر بأنها لا تقبل حتى بأن تلتقي مع هيئة التنسيق، ولهذه الأسباب، طرحنا فكرة عقد مؤتمر وطني شامل للمعارضة السورية تحت سقف الجامعة العربية، ليقرّر صيغة توحيدية للمعارضة ضمن هيكل جديد يحمل مسمى مغايراً».

أما العيطة، فيكشف أنّ «مشاورات القاهرة قامت على أساس اعتبار أن المجلس الوطني طيف من أطياف المعارضة السورية، وهيئة التنسيق طيف آخر». الهدف من هذه المشاورات، بحسب العيطة كان «بلورة قواسم مشتركة، لكن هذا المسعى اصطدم بعقبات متعددة لأنه في الوقت الذي كانت فيه المساعي جارية في القاهرة من أجل وضع تصوّر مشترك بخصوص المرحلة الانتقالية، قام المجلس الوطني بنشر برنامجه السياسي الذي جاء فيه أن المجلس هو الذي سيحكم في المرحلة الانتقالية، بالتنسيق مع المؤسسة العسكرية». ويرى العيطة أن هذا الأمر طرح إشكالية مزدوجة: من جهة، لم يوضح المجلس هل المقصود المؤسسة العسكرية الحالية أم الجيش السوري الحر؟ ومن جهة أخرى، نتساءل كيف يمكن لأطياف المعارضة الأخرى أن تتفاوض مع المجلس الوطني على تصور مشترك للمرحلة الانتقالية، إذا كان يقول سلفاً إنه سيحكم منفرداً؟

«المجلس» و«الهيئة» بين الإقصاء والتفاوض

فاجأت مفاوضات القاهرة بين «المجلس الوطني» و«هيئة التنسيق» العديد من أطراف المعارضة السورية. ومن بين هؤلاء ميشيل كيلو، الذي يقول إنه «عندما جئنا إلى باريس، أعلنّا مسبقاً أننا لسنا منضوين رسمياً في هيئة التنسيق، ونعبّر فقط عن آرائنا كمعارضين مستقلين. ورغم ذلك، فوجئنا بأن بعض الأطراف في المجلس الوطني حاولت أن تمنع عقد مؤتمرنا». ويضيف «لقد كان المجلس الوطني آنذاك يقول إنه هو الثورة، وإنه التعبير الوحيد عنها، لكن يبدو أن المجلس غيّر رأيه الآن لأنه وفق ما نسمع، هناك لقاءات ومفاوضات في القاهرة بينه وبين هيئة التنسيق». ويسخر كيلو من واقع أن «الشخص الذي يدير هذه المفاوضات في القاهرة هو الشخص نفسه الذي اتصل بوزارة الخارجية الفرنسية لتحريضها على منع مؤتمرنا الصحافي!». ويستغرب هيثم منّاع المفارقة الساخرة التي أشار إليها كيلو، ويؤكد أن لا علم له بمشاركة الشخص المذكور في المفاوضات الجارية في القاهرة.

المعارضة السورية: خلافات رأي أم حرب زعامات؟

منذ انطلاق «الثورة السورية»، قبل تسعة أشهر، ارتفعت أصوات كثيرة للمطالبة بتوحيد صفوف المعارضة، وتنسيق الجهود بين مختلف فصائلها، من أجل تشكيل هيئة موحّدة تتولى المرافعة باسم الحراك الشعبي السوري في الخارج. لكن هوة الخلافات تتزايد، يوما بعد يوم، بين مختلف أطياف المعارضة السورية، وبالأخص بين هيئتيها الأبرز «المجلس الوطني» و«هيئة التنسيق». «الأخبار» استطلعت في هذا التحقيق مختلف الفعاليات السورية المعارضة حول أسباب هذه الخلافات والعقبات التي تعترض توحيد صفوفها.

«المجلس الوطني»: قصص التسلّط والانشقاقات (2/4)

رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على تأسيسه، لم يستطع «المجلس الوطني السوري» أن يضع حدّاً لخلافات المعارضة. أُريد لهذا «المجلس» أن يمنحها صوتاً موحّداً لتمثيل الحراك الشعبي في «المحافل الدولية»، لكن «العقلية الإقصائية» التي يُدار بها، ومحاولات فرضه «ناطقاً شرعياً وحيداً باسم الثورة السورية»، حوّلته إلى مشكلة جديدة تضاف إلى مشاكل المعارضة

عثمان تزغارت

باريس | يعيب مَن هم خارج صفوف «المجلس الوطني السوري» على هذا التنظيم الذي تأسس في إسطنبول، عدم احترامه لباقي مكوّنات المعارضة السورية، ولجوء بعض أقطابه إلى العنف والإقصاء لتهميش من يخالفونهم الرأي. أما داخل المجلس، فقد ارتفعت أصوات عديدة للتعبير عن استيائها من «هيمنة» مجموعة صغيرة من القيادات المحيطة برئيسه، الدكتور برهان غليون، داعيةً إلى «مأسسة» أداء المجلس، والنأي به عن «الفردية» و«التسلُّط» و«العقلية الأحادية».

يرى الدكتور هيثم منّاع، رئيس «هيئة التنسيق الوطني» في المهجر أن «من الطبيعي أن يحاول كل طرف سياسي تقديم نفسه باعتباره الأفضل في الأداء والبنية والبرنامج، فذلك جزء من مشروع عملية التعبئة السياسية والشعبية»، لكنه يستدرك بأن المرفوض هو تعامل «المجلس الوطني» بمنطق «الهيكل القائد للثورة والمجتمع الذي يذكّرنا بالحزب القائد للدولة والمجتمع، فنحن لم نحارب المادة الثامنة من دستور العام 1973 لكي نعود اليوم لنسقط في المنطق نفسه».

من جهته، يقول الناشط في «تجمع الجاليات السورية في المهجر»، فهد المصري إنه «في البداية، رحّبنا بتأسيس المجلس الوطني، واعتبرناه خطوة نحو توحيد صفوف المعارضة. لكن، اتضح لنا يوماً بعد يوم، أنه يعمل على عكس ذلك، إذ إنه لا يتردد في ممارسة التسلط والعنف والإقصاء ضد أي جهة تعبّر عن رأي مغاير، سواء خارج المجلس أو حتى داخله».

يردّ الدكتور منذر ماخوس، نائب رئيس لجنة العلاقات الدولية في «المجلس الوطني» على هذه الانتقادات باعتبار أنّ ما يُقال عن نقائص وأخطاء «المجلس» فيه الكثير من المبالغة. ففيما يعترف بوجود «نقائص كثيرة في أدائه»، سواء على الصعيد الداخلي أو في علاقاته بباقي أطياف المعارضة السورية، يعزو ذلك أساساً إلى كون مؤسسات «المجلس» عبارة عن أُطر مؤقَّتة لم تكتمل بعد. غير أن ماخوس لا ينكر في الوقت نفسه وجود عوامل أخرى «لا تشجع على التعامل بأسلوب ديموقراطي»، ويضعها في خانة «تراكمات غياب أي فضاء للعمل السياسي الديموقراطي في سوريا على مدى عقود، مما ينعكس حتماً في عادات وتصرفات البعض، وهو ما يفسر بالفعل العديد من حالات الإقصاء»، من دون أن يتفق مع الرأي الذي يفيد بأن الأمر نابع عن رغبة أو خطة متعمدة لإقصاء أطراف أو أشخاص أو تيارات أخرى.

بدوره، يرى صالح مسلم، رئيس حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري»، المنضوي في «هيئة التنسيق»، أن إشكالية «المجلس الوطني» لا تكمن في الأفراد، بل في «طبيعة تركيبته السياسية». ويشير في هذا الصدد إلى أنه تم تشكيل «المجلس الوطني» على عجالة إثر تصريح لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون كشفت فيه أن الرئيس باراك أوباما لن يستقبل المعارضة السورية لأنها ليست موحدة. تصريح يرى مسلم أنه كان وراء الاستعجال في تأليف «المجلس» من قبل الأطراف «التي راهنت على نفوذ الحلف الأطلسي والتدخل الخارجي». أسباب أدّت إلى تأسيس «المجلس» من دون الاتفاق على برنامج أو منهج سياسي واضح وفق تعبير المسؤول السوري الكردي، إضافة إلى سبب موجب آخر في الاستعجال بتأليف «المجلس»، وهو استباق الوقت قبل انعقاد مؤتمر «هيئة التنسيق الوطنية» على حد تعبيره. ويعود مسلم ليضع مشكلة «هيئة التنسيق» مع «المجلس» على النحو التالي: إن العامل المشترك الأبرز بين القوى المنضوية في «المجلس» هو الرهان على دعم القوى الغربية للاستقواء بها على بقية أطياف المعارضة وعلى الحراك الشعبي الداخلي، وفق رأيه. من هنا، يخلص مسلم إلى أن «خلافنا مع المجلس ليس صراع أشخاص، بل هو خلاف سياسي، لكون هذا المجلس مرتبطاً بأجندات خارجية، أما نحن (في هيئة التنسيق)، فنريد أن نتّخذ من الديناميكيات الداخلية للمجتمع السوري أساساً للتغيير الديموقراطي، من دون الاستنجاد بالقوى الأجنبية أو التدخل الخارجي».

رأي يعلّق ماخوس عليه بوصفه أنه لا يخلو من التجنّي، على قاعدة أنه «يوجد داخل المجلس الوطني من يؤيد التدخل الأجنبي، مثلما يوجد من يرغب بذلك خارج المجلس، لذا، لا ينبغي التعميم». لذلك يشدد ماخوس على أنه قادر أن يؤكد «وجود العديد من الأطراف الوطنية المخلصة داخل المجلس ممن يبذلون محاولات جادة لجعل أساليب التعبير أكثر ديموقراطية ولتطوير آليات عمل المجلس لتتسم بطابع العمل المؤسساتي والممنهج». غير أنه يعترف في المقابل بأنه «للأسف، لا نزال بعيدين عن ذلك، فرغم الجهود الكبيرة التي تُبذل، لا تزال هناك العديد من الأخطاء والنواقص، ونحن نبذل كل ما في وسعنا من أجل تداركها وتصحيحها».

كلام لا يقنع فهد المصري الذي يجزم بأن «العقلية الإقصائية» التي يتعامل بها «المجلس الوطني» ليست مجرد هنات أو أخطاء يمكن تداركها. ويلفت إلى أن الإشكالية أكثر تعقيداً من ذلك، لأنها «لا تقتصر فقط على علاقات المجلس بباقي أطياف المعارضة السورية، بل تلقي بظلالها أيضاً على الأسلوب الذي يُدار به المجلس من داخله»، إذ إن «آليات اتخاذ القرار في صفوفه قائمة على الإقصاء والتفرد بالرأي». وبكل ثقة، يجزم المصري بأن «المجلس» يتحكم فيه حالياً ثلاثة أشخاص فحسب، هم أحمد رمضان وعبيدة النحاس ومحمد فاروق طيفور. ويصل به الأمر إلى اعتبار أنه «حتى رئيس المجلس، الدكتور برهان غليون، يُدار سراً من قبل هذا الثلاثي، أما باقي الأعضاء فهم لا يُشرَكون في اتخاذ القرار، ومعظمهم لا يبلغون أصلاً بما يعتزم المجلس القيام به من نشاطات أو مبادرات». وعن هذا الموضوع، يتابع المصري أن «هذا الأسلوب غير الديموقراطي الذي يُدار به المجلس أدى إلى العديد من الاستقالات والخلافات والانشقاقات. ويورد محدثنا أمثلة عن هذه الاستقالات التي كان أبرزها ربما مغادرة وليد البني، «المعارض المرموق» وأحد الأقطاب البارزة لـ «إعلان دمشق»، و«المثقف صاحب الصدقية بالنسبة لمختلف تيارات المعارضة السورية». ووفق تعابير المصري، بذل البني «جهوداً مخلصة من أجل توحيد الصفوف، لكنه في النهاية اضطر للاستقالة من صفوف المجلس احتجاجاً على ما اعترضه من ممارسات إقصائية وغير ديموقراطية». وبحسب شهادة المعارض نفسه، انسحب من «المجلس» أيضاً محمد العبد الله، وهو من قيادات المعارضة المقيمين في واشنطن، وقد انسحب أيضاً بسبب غياب الديموقراطية داخل هذا التنظيم. ولمزيد من التأكيد على رأيه، يحيل المصري الحديث إلى الدكتور منذر ماخوس «القادر على أن يعطيكم نموذجاً واضحاً للأسلوب الإقصائي الذي يُدار به المجلس، بعدما أخفى عنه الثنائي برهان غليون وبسمة قضماني مسألة اللقاء مع وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه رغم أن ماخوس يُعدّ المسؤول عن قطاع أوروبا في لجنة العلاقات الدولية في المجلس».

ولدى استفسار ماخوس عن هذه الواقعة، يجيب «هذه الحادثة صحيحة. لقد اجتمعتُ ببرهان غليون وبسمة قضماني عشية اللقاء مع جوبيه، ولم يطلعاني على موضوع اللقاء الذي تابعت أخباره عبر وسائل الإعلام!». ورغم أن ماخوس يوضح عدم اعتراضه على أن تكون بعض اللقاءات أو النشاطات مقتصرة على أعلى هرم القيادة في «المجلس»، غير أنه يعود ليشدد على ضرورة أن «يندرج ذلك ضمن أسلوب عمل مؤسساتي واضح المعالم». ويتابع «أتفهم تماماً أنه ليس من الضروري أن يكون أعضاء لجنة العلاقات الدولية حاضرين في كل اللقاءات، ومن المفهوم أن بعض النشاطات قد يكون لها طابع استثنائي أو خاص، إلا أنّ التستر على مسألة انعقاد اجتماع كهذا، وعدم إبلاغنا بأي معلومات عنه، يعد خللاً غير طبيعي في أسلوب عمل المجلس». لا يريد ماخوس أن يعطي هذا الموضوع «أكثر مما يستحق حتى لا يُفهم أن في كلامي أي شخصنة للأمور»، لكنه يرى حاجة ماسة إلى أن «يُعاد النظر في مثل هذه الممارسات لأنها تتنافى مع أسلوب العمل المؤسساتي والديموقراطي الذي يجب أن يكون منهجنا». ويختصر الاشكالية بعبارة بسيطة: نحن نناضل ضد نظام غير ديموقراطي يستعمل أساليب الإقصاء والاستبداد، وهذا يتطلب منا ألا نكرّر تلك الممارسات، وأن نعطي عن أنفسنا صورة مغايرة وأكثر ديموقراطية».

يتفق صالح مسلم مع هذا الرأي، ويشير إلى أن أضرار «العقليات الإقصائية» لا تقتصر فقط على إثارة الخلافات بين فصائل المعارضة، بل تؤثر سلباً في «النَفَس الديموقراطي الذي يجب العمل على زرعه في المجتمع السوري». ويختم بالتحذير من أنّ «ما يقوم به المجلس من إعادة إنتاج غير واعية لممارسات النظام الاستبدادي، من حيث التسلط والإقصاء، يكشف أن الخلفية الفكرية لأغلب القوى المنتمية إليه تفتقر إلى الثقافة الديموقراطية، ولا تحترم الرأي الآخر، وهو ما من شأنه أن يؤسس لسوابق خطيرة تتنافى مع ما يجب أن تضطلع به المعارضة على صعيد تعميم الفكر التعددي، ونشر القيم الديموقراطية في المجتمع السوري».

«شبّيحة المجلس»

أثار الاعتداء على وفد «هيئة التنسيق» في القاهرة من قبل من باتوا يعرفون بـ«شبيحة المجلس الوطني» استياءً واسعاً في أوساط المعارضة السورية. عنه يقول ميشيل كيلو إن «البعض في المجلس الوطني يكرِّرون ممارسات إقصائية شبيهة بما عانيناه من النظام التسلطي، وإذا تأملنا في ما حدث في القاهرة، نجد أننا أمام عقلية مفادها أنه لا ينبغي أن يكون خارج المجلس أحد وإلا فسنقمعه بالقوة». لذلك كتب كيلو بعد تلك الحادثة أنه «إذا كان هؤلاء هم الذين سيسقطون النظام، فإن سوريا ليست ذاهبة إلى الديموقراطية، بل سننتقل من طغيان أقلية إلى طغيان أغلبية، وذلك، على رأي أرسطو، أسوأ ما يمكن أن يقوم من أنظمة فكرية». من جهته، يرى منذر ماخوس أن «ما كتبه كيلو لا يخلو من الصحة، فما حدث في القاهرة هو بكل المقاييس تصرّف غير ديموقراطي، وينمّ عن عقلية متسلطة»، مع إصراره على ضرورة عدم التعميم، لأن وجود أطراف غير ديموقراطية في المجلس الوطني «لا ينطبق على كل من هم معنا في المجلس».

المعارضة السورية: خلافات رأي أم حرب زعامات؟

منذ انطلاق «الثورة السورية»، قبل تسعة أشهر، ارتفعت أصوات كثيرة للمطالبة بتوحيد صفوف المعارضة، وتنسيق الجهود بين مختلف فصائلها، من أجل تشكيل هيئة موحّدة تتولى المرافعة باسم الحراك الشعبي السوري في الخارج. لكن هوة الخلافات تتزايد، يوما بعد يوم، بين مختلف أطياف المعارضة السورية، وبالأخص بين هيئتيها الأبرز «المجلس الوطني» و«هيئة التنسيق». «الأخبار» استطلعت في هذا التحقيق مختلف الفعاليات السورية المعارضة حول أسباب هذه الخلافات والعقبات التي تعترض توحيد صفوفها.

«الثورة» والمقاومة و«السِّفر الاستعماري» (3/4)

ظلّ موقف المجلس الوطني السوري من المسائل الإقليمية والسياسة الخارجية لـ«سوريا الجديدة» محل توقعات وجدل طويلين، قبل أن يخرج برهان غليون بمجموعة من المواقف رفعت سقف السجال إلى ذروته، بين من رأى أنها تجسد ارتماءً مسبقاً في أحضان المعسكر الأميركي ــ الغربي، ومن أنكر جزءاً من مضمونها على اعتبار انه كان اجتهاداً وسوءاً في الترجمة

عثمان تزغارت

باريس | قبل شهرين، اعتُبر إسناد رئاسة «المجلس الوطني السوري» إلى الدكتور برهان غليون «ضمانة أخلاقية» رأى كثيرون أن «المجلس» بأمسّ الحاجة إليها من أجل القيام بمهامه بصفته هيئة تُعنى بتوحيد صفوف المعارضة. وساد التفاؤل بأن اختيار مثقف من هذا المصاف لإدارة «المجلس» يشكّل عاملاً مشجِّعاً من شأنه أن يسهم في التوفيق بين مختلف تيارات المعارضة، في إطار من التآخي واحترام الرأي الآخر. لكن الصورة سرعان ما انقلبت بفعل «العقلية الإقصائية» التي ظهر فيها «المجلس». وإذا بالكثيرين ممن تحمسوا لتولّي برهان غليون الرئاسة، يكتشفون أن «السلوك غير الديموقراطي» الذي يتعامل به بات من أهم الإشكالات التي تعوق توحيد صفوف المعارضة. وقد زاد المشهد التباساً بفعل غموض وتضارب مواقف «المجلس» ورئيسه بخصوص أبرز التحديات التي تعترض الحراك الشعبي السوري، كالموقف من «عسكرة الثورة» و«التدخل الأجنبي».

ويعرب رئيس «هيئة التنسيق الوطنية» في المهجر، الدكتور هيثم مناع، عن مفاجأته حين سمع وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه يكشف أن غليون طالب بـ «ممر إنساني» (كوريدور إنساني) في سوريا. ويقول «أنا كناشط حقوقي كنتُ في منطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا (أثناء المجازر العرقية في رواندا)، وأعلم جيداً معنى الكوريدور الإنساني، وأعتقد أنه لا يخفى على الدكتور غليون أن هذا النوع من الممرات يحتاج إلى قوات تدخل عسكرية لحمايته». من هنا، يأسف مناع لوجود «استعمال تعسفي للكلمات والمصطلحات وتسطيح إعلامي متعمد يجعل المثقف ورجل الشارع يتحدثان بنفس الطريقة الغوغائية، فالتدخل العسكري الأجنبي يبدأ منذ اللحظة التي يُكسر فيها احتكار السلطة السياسية للعنف في أي بلد، سواء تم ذلك بوسائل داخلية أو خارجية، والحرب الأهلية تبدأ في اللحظة التي يتم فيها تسليح الحراك الشعبي».

وفي ظلّ تبايُن وجهات النظر في صفوف المعارضة السورية بخصوص «التدخل الأجنبي»، وتعدّد الصيغ والمصطلحات المطروحة، كـ«الحماية الدولية» و«الكوريكدور الإنساني» و«الحظر الجوي» و«المناطق العازلة»، بقيت مواقف غليون غامضة وملتبسة، حتى كتب برنار هنري ــ ليفي، في منتصف الشهر الماضي، مقاله الشهير الذي لّمح فيه إلى أنّ أبرز من تباحث معهم من قيادات المعارضة السورية، بمن فيهم برهان غليون، يؤيدون تدخلاً عسكرياً على الطريقة الليبية.

ولدى الاستفسار من نائب رئيس لجنة العلاقات الدولية في «المجلس الوطني»، الدكتور منذر ماخوس، عن ردود الفعل داخل «المجلس» على الجدل الذي أثاره ذلك المقال، يجيب: «لم نرِد التعليق على كلام هنري ــ ليفي، فما يقوله محل جدل وتشكيك على الدوام، لكنني أستطيع التأكيد أن الدكتور برهان غليون لم يقل إنه يؤيد أو يشجع التدخل على الطريقة الليبية، ولم أسمع منه ذلك في أي تصريح سواء داخل المجلس الوطني أو في وسائل الإعلام».

من جهته، يشير «عميد المعارضين» السوريين، ميشيل كيلو، إلى وجود أشخاص يؤيدون التدخل الأجنبي داخل «المجلس الوطني»، بدليل ما أعلنه رياض الشقفة (مرشد الاخوان السوريين) أخيراً عن تأييده تدخلاً تركياً في سوريا لأغراض إنسانية. ويحيل كيلو إلى كلام شخص آخر من «المجلس» مفاده أنّ الأتراك بشكل خاص «مؤهّلون للتدخُّل في سوريا لأنهم مسلمون، وكانوا حتى فترة قريبة شركاء لنا إذ كنّا جزءاً من الإمبراطورية العثمانية». رغم ذلك، يشكك كيلو في أن يكون هنري ــ ليفي يقول الحقيقة عن غليون، «فجميع أعضاء المجلس لا يؤيّدون تدخُّلاً على الطريقة الليبية، والدكتور غليون، حسب علمي، لا يؤيد التدخل الأجنبي، أو على الأقل هذا ما يقوله ويؤكّده لي دائماً». لم يكد يهدأ الجدل الذي أثاره مقال هنري ــ ليفي، حتى جاءت تصريحات الدكتور برهان غليون لصحيفة «وول ستريت جورنال»، بخصوص المقاومة والجولان والموقف من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لتعمِّق هوة الخلافات بينه وبين منتقديه، داخل «المجلس» وخارجه.

وفي هذا الموضوع، يشدّد منّاع على أنه لم يفاجأ بتلك التصريحات التي عدّها البعض «تنصُّلاً من القضايا القومية» و«مهادنة للاحتلال»، ذلك أن «المجلس الوطني» هو بالأساس «تعبير سياسي عن اليمين الليبرالي واليمين الديني في المعارضة السورية في الخارج، وكلا هذين الطرفين على علاقة طيبة مع القوى الغربية والدول الخليجية. وهذه الخلفية تحديداً هي التي تدفعنا إلى التحاور مع المجلس من أجل الخروج بصيغة وطنية ومواطنية للتغيير الديموقراطي، فنحن نسعى إلى جعل هيئة التنسيق قوة فرملة في وجه كل التوجهات السياسية التي انتقلت من صف الوطنية إلى ما سماه أحدهم السِّفر الاستعماري»، على حدّ تعبير مناع.

كلام يخلص منه مناع إلى اعتبار أن من واجب «هيئة التنسيق» التأكيد بنحو دائم على «الصلة العضوية بين المشروع الديموقراطي المواطني والمدني الذي نناضل من أجله، وبين واجب الدفاع عن السيادة ومقاومة المحتل الإسرائيلي والتحالف مع كل قوى المقاومة في المنطقة».

ويعترض ماخوس على التفسيرات التي مُنحت لتصريحات برهان غليون، مشيراً إلى عدم دقة تعريبها. ويشدد على أنه «لا يوجد داخل المجلس الوطني أي تنصّل أو ابتعاد على القضايا القومية المصيرية، وفي مقدمتها موضوع تحرير الجولان الذي سيبقى موقف سوريا بخصوصه ثابتاً، شأنه شأن استحالة تخلّي المعارضة السورية عن القضية الفلسطينية».

ويرى ماخوس أنّ تصريحات غليون بخصوص الجولان المحتل تمّ «تأويلها بشكل مغرض من أجل إعطاء الانطباع بأنه يشكّك في شرعية مقاومة الاحتلال». ويتولى الرجل تحديد موقف «المجلس» من موضوع الصراع بالتالي: «نريد بالطبع أن تكون الأولوية للمفاوضات إذا كان من الممكن استعادة الأراضي السورية كاملة عن طريقها. ورغم أن لا أحد منا يريد أن يدقّ طبول الحرب، لكن إذا لم تقبل إسرائيل بإعادة الأراضي المحتلة، تبقى الخيارات كلها مفتوحة، ويظلّ حق المقاومة المسلحة قائماً ومشروعاً». ويطمئن ماخوس إلى أن الغالبية داخل «المجلس الوطني لم تغيّر مواقفها بهذا الخصوص، ولا تريد على الإطلاق أن تتخلى سوريا المستقبل عن حق المقاومة، سواء تعلق الأمر بالجولان أو بالقضايا العادلة في فلسطين وفي الدول العربية المجاورة». ويتابع أن «الموقف الإيجابي الذي وقفته دول الخليج في الفترة الأخيرة من الثورة السورية يستحق الاحترام والتقدير، وبناءً عليه، لا بد من أن تكون علاقات سوريا المستقبل مع دول الخليج علاقات أخوة وودّ وتعاون». أما في ما يتعلق بالدخول معها في تحالفات إقليمية أو دولية، أو التوقع بانضمام سوريا إلى صف «عرب أميركا» في حال تسلّمت المعارضة دفّتها، فهذا الأمر «غير مقبول على الإطلاق»، على حد تعبيره، على قاعدة أنه لا يمكن لأحد في «المجلس الوطني» أن «يفكر أو حتى أن يحلم بأن يُبعد سوريا عن دورها الإقليمي وعن واجباتها القومية، بالتالي، فنحن نرى أن تصريحات الدكتور برهان غليون، أو أي تصريحات أخرى في هذا الشأن، مجرد اجتهادات وآراء فردية» لكون هذه القضايا «الاستراتيجية والمصيرية لم تُطرح بعد للنقاش داخل المجلس، ولم يتم التباحث لتحديد موقف رسمي أو موحّد بخصوصها» وفقاً لماخوس.

وفي السياق، يكشف المسؤول المعارِض نفسه أن «المجلس» يسعى حالياً إلى استكمال بناء هياكله ومؤسساته، «لذا لم يتسع المجال له لتحديد الموقف من أي قضايا دولية أو إقليمية». أما بخصوص انعكاسات تصريحات غليون ومواقفه على المساعي الجارية لتقريب وجهات النظر بين أطراف المعارضة السورية، فيقول عنها المعارض سمير العيطة، رئيس تحرير الطبعة العربية من «لوموند ديبلوماتيك»، «لستُ ممن يرون أن مشكلة المجلس تتلخص في برهان غليون، بما أن القضية أعمق من أن تُختزل فقط في تصريحاته أو مواقفه. لكن ما أدلى به للمجلة الأميركية يذكّرني بمقولة تاليران الشهيرة: من الخطأ السياسي ما هو أسوأ من الخطيئة». ولدى شرح رأيه هذا، يضيف «أنا لا أتحدث فقط عمّا قاله غليون بخصوص الموقف من المقاومة والقضايا الوطنية العربية، بل أرى أن خطأه السياسي الذي يضاهي الخطيئة يشمل مجمل التصوّرات الذي طرحها لكونه قدّم الكثير من التنازلات المجانية للقوى الخارجية سياسياً واقتصادياً». بهذا الكلام يعلّق العيطة على الحجج التي أُعطيت لكلام غليون عبر الحديث عن عدم دقة الترجمة. أما بخصوص الموقف من المقاومة والاحتلال، فأفضل تعليق قرأه العيطة كان على موقع «فايسبوك»، حيث كتب أحد المدوِّنين: «لو أن النظام السوري قبِل بأن يقول نصف ما قاله برهان غليون، لشاهدنا طائرات الحلف الأطلسي تقصف المتظاهرين السوريين دفاعاً عن النظام القائم».

المثقّف والسلطة

الانتقادات الموجهة إلى برهان غليون، منذ توليه رئاسة «المجلس الوطني»، أعادت فتح النقاش حول طبيعة الدور السياسي للمثقفين. وعن ذلك، يعلق ميشيل كيلو بأن «دور المثقفين في الوضع السوري الحالي يجب أن يرتكز في العمل على تحصين جبهة المعارضة، حتى لا تتحوّل إلى أداة بأيدي القوى الأجنبية التي تريد التدخل في سوريا». أما حول تولي غليون رئاسة «المجلس الوطني»، فيقول كيلو: «لا أريد التأريخ لنشاط ومسار الدكتور غليون أو الحكم عليه، فهو عندما تولى رئاسة المجلس الوطني، قال إنه صار سياسياً رغماً عنه، وإنه لم يسع إلى مثل هذا الدور، بل الثورات الوطنية هي التي حتّمته عليه. الدكتور برهان غليون برأيي يبقى مثقفاً، وأعتقد أنه لن يَسقُط ما لم يُسقِط حساسية المثقف».

الجامعة و«حماية سوريا»: شرعنة التدخل الأجنبي؟ (4/4)

قد يكون عنوان التدخل الأجنبي في سوريا من بين أبرز المواضيع الخلافية بين أطياف المعارضة السورية. ويأخذ التخوين المتبادل بين هذه الأطراف من المواقف إزاء التدخل الخارجي منطلقاً قوياً له. ومما يزيد من تعقيد الأمر التنويعات الكثيرة التي أوجدها البعض لأشكال التدخل الخارجي، شرط أن تبتعد عن النموذج الليبي. وهنا يصبح دور الجامعة العربية أساسياً في النقاش

عثمان تزغارت

باريس | يعدّ موضوع التدخل الأجنبي من القضايا الأكثر حساسية بالنسبة إلى مختلف أطراف المعارضة السورية. الجميع تقريباً يحرص على مراجعة تصريحاته مكتوبةً، وعلى نحو أخص ما يتعلق منها بمسألة الموقف من التدخل الأجنبي، خشية أن يُساء تأويل الكلام. ويشدّد معظم من تستطلع موقفه إزاء الموضوع على رفض «السيناريو الليبي»، أي التدخل العسكري المباشر في سوريا، لكن المواقف تتباين بخصوص الأشكال الأخرى للتدخل، تلك التي تحمل مسميات شتى كـ «المناطق العازلة» و«الممرات الإنسانية» و«مناطق الحظر الجوي»، كما تختلف المواقف بخصوص مساعي الجامعة العربية، وبشأن ما إذا كان الهدف منها توفير بديل عربي لحماية سوريا من التدخل الأجنبي، أم أنها تمهّد لـ «شرعنة التدخل»، على غرار ما حدث في ليبيا.

يعود رئيس «هيئة التنسيق الوطنية» في المهجر هيثم منّاع إلى «اليوم الأول للانتفاضة، حيث استُعمل الرصاص الحي فوراً، لأن قوى الأمن السورية لا تعرف الرصاص المطاطي، أو استعمال الهراوات لتفريق المتظاهرين. لذا، نستطيع القول إن معجزة سورية قد حدثت، وكانت بمثابة تكذيب لقانون نيوتن القائل إن كل فعل يولّد ردّ فعل مساوياً له في القوة، ومعاكساً في الاتجاه». ورغم ذلك، يذكّر مناع كيف أن الحراك الشعبي حافظ على سلميته ورفضه لأي اصطفاف طائفي أو تدخل أجنبي. ويكشف أنه «منذ اليوم التاسع للانتفاضة، بادرتُ شخصياً بطرح اللاءات الثلاث التي سرعان ما أصبحت المقوّمات الأساسية للثورة: لا للسلاح، لا للاقتتال الطائفي، لا للتدخل الأجنبي». ويرى مناع أنه كان هناك «تأييد واسع لهذه اللاءات، وتبنتها أهم الأحزاب السياسية في الداخل والخارج»، مشيراً إلى أن «الصرخات المنادية بالتدخل الخارجي لم تخرج إلى العلن إلا في الشهر الخامس للثورة، وذلك بعد قسوة الهجوم الذي حدث في 31 تموز، حين اقتحم الجيش ثلاث مدن، هي البوكمال وحماه ودير الزور في يوم واحد». ويوضح أنه بعد هذه الأحداث، «ظهر توجّه مفاده أنّ علينا إعادة النظر في اللاءات الثلاث للثورة، على قاعدة أنها لا يمكن أن تستمر إلا إذا تسلّحت أو طلبت المعونة الخارجية». يوافق ميشال كيلو على أن تزايد القمع والضغط الأمني يدفع ببعض مكوّنات الحراك الشعبي داخل سوريا إلى المطالبة بالمعونة الدولية، لكنه يحذر من أن ذلك «لا يعني تأييد التدخل على الطريقة الليبية». ويقول في هذا الصدد إن «الضغط الأمني والعسكري المتزايد على الناس يهدف لإيصالهم إلى الاستسلام بدون قيد أو شرط، أو الدخول في مرحلة من المقاومة المنفلتة التي لا ينظُمها أي خط سياسي عقلاني لإخراج الأمور عن نطاق الحراك السلمي المدني». ويرى كيلو أنه «نتيجة لهذا الضغط الأمني، هناك للأسف قطاعات متزايدة من السوريين باتت تقول: نحن نموت يومياً ولا أحد يلتفت إلينا، والنظام لا يريد أن يُقلِع عن القتل، وبالتالي لم يبق أمامنا سوى طلب التدخل الخارجي أو الحماية الدولية». يعترف كيلو بكل ذلك، قبل أن يعود ليشدد على أن «هذا لا يعني أنّ الحراك الداخلي السوري يؤيد تكرار السابقة الليبية، ولا أعتقد أن الشعب سيقبل تدخلاً عسكرياً».

من جهته، يلفت نائب رئيس لجنة العلاقات الدولية في «المجلس الوطني»، منذر ماخوس، إلى أنّ التدخل الأجنبي وفق السيناريو الليبي، «مرفوض تماماً داخل المجلس»، حتى إنه «غير مطروح للنقاش على الإطلاق»، لكن ماخوس يوضح أنّه «حيال استمرار القمع الوحشي للمتظاهرين، هناك من يتحدث عن إقامة ممرّات إنسانية تجاوباً مع ما طرحه دبلوماسيون فرنسيون وأتراك، وهذه الصيغة في نظرنا قابلة للنقاش، ولا نرى مانعاً في أن تتولى الجامعة العربية أو المجموعة الدولية توفير ممرّات أو مناطق آمنة، يمكن أن يلجأ اليها النازحون من المدنيين، أو من المنشقين عن الجيش، حتى لا يتعرّضوا للتصفية من قبل النظام».

يعترض هيثم منّاع بشدة على هذه الأطروحات، مشيراً إلى أن مجرد الحديث عن «ممرات إنسانية» أو «مناطق آمنة لحماية المدنيين» ليس سوى «تسويغ للتدخل العسكري الأجنبي تحت غطاء إنساني». ويقول بهذا الخصوص «أنا ممن يتخوّفون كثيراً من مثل هذه الطروحات، لأن من ينادون بها يحاولون، بطريقة أو بأخرى، أن يتقمّصوا التجربة الجلبية»، في إشارة إلى السياسي العراقي أحمد الجلبي. ويتهم مناع من ينادي بإقامة مناطق عازلة أو ممرات إنسانية بـ «السعي إلى توفير ظروف دولية وإقليمية مؤاتية لتدخل خارجي على النمط العراقي أو الليبي، وهؤلاء يحرصون على إقناع الناس بأنهم المعبر الوحيد لتدخل من هذا النوع، لأن الإدارة الأميركية والإدارات الغربية لا يمكن أن تثق بأي جماعة أخرى غيرهم». وعن اختلاف الخطاب المتعلق بهذا الموضوع بين أركان المجلس الوطني نفسه مثلاً، يجيب مناع «ليس بالضرورة أن يجاهر جميع دعاة أو مؤيدي التدخل الأجنبي بذلك، فهناك من يتحدث عن هذا الأمر صراحةً، وآخر يلجأ إلى المواربة، فيتحدث عن التجربة الأوكرانية، أو عن هذا الكتاب أو ذاك في المقاومة المدنية». ويسوق مناع أمثلة كالادعاء بأن ما يحدث من تسليح للحراك الشعبي «أمر ضروري لحماية الناس من القمع، أو الترويج بأن مسؤولية التسليح تقع على النظام وحده». أما موقف «هيئة التنسيق»، فيختصره مناع بأن «كل من يرفض المشاركة في توعية الشباب إلى ضرورة تجنب التسليح، يتحمل قدراً من المسؤولية في العواقب الكارثية التي ستترتّب على ذلك».

التجاذب بين أطراف المعارضة السورية بخصوص مشاريع التدخل الأجنبي ينطبق أيضاً على مساعي الجامعة العربية، التي يرى فيها البعض «حصناً لحماية سوريا من التدخل الأجنبي»، بينما يتخوّف آخرون من «تكرار السابقة الليبية»، وهي التي أدت فيها الجامعة العربية دور «شاهد الزور»، من خلال منح تغطية عربية صورية لحملة الحلف الأطلسي، وبالتالي الإسهام في «شرعنة التدخل الدولي».

في المقابل، يقول رئيس حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري»، صالح مسلم، «نحن على قناعة بأن القبول بأي شكل من أشكال التدخل الأجنبي يعني ضياع سوريا الوطن. ومن هذا المنطلق، حرصنا على إثارة هذه المسألة خلال لقاءاتنا ومشاوراتنا مع ممثلي المجلس الوطني، وجرى التوافق بيننا وبينهم على رفض التدخل الأجنبي على نحو قاطع، وإفساح المجال للمبادرات العربية ودعمها، على اعتبار أن التدخل العربي لا يقع في خانة التدخل الأجنبي».

أما ميشال كيلو، فيكشف أنه وزملاءه من مثقفين ومعارضين سوريين مستقلين، اقترحوا على الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي في القاهرة، أن تكون الجامعة هي الجهة التي تتولى حصرياً العمل على حل الأزمة السورية، بالاتفاق مع المعارضة والنظام، بشرط أن تلتزم الجامعة العربية بمنع تكرار السابقة الليبية تحت أي شكل من الأشكال، وألا تعطي أي ضوء أخضر عربي لمجلس الأمن أو للحلف الأطلسي مثلما حدث في ليبيا.

وهنا يعرب كيلو عن تفاؤله بأنه «إذا صدقت نوايا النظام السوري، وقبِل أن تؤدي الجامعة العربية الدور المطلوب منها في حل الأزمة، فإن المبادرة العربية يمكن أن تمثّل بديلاً من شأنه أن يقطع الطريق أمام مشاريع التدخل الأجنبي»، لكنه ينبه من أنه «إذا استمر النظام في محاولاته لتعطيل مثل هذا الحل العربي، فإنه سيعطى الفرصة لمؤيدي التدخل الأجنبي، الذين يريدون تحويل المبادرة العربية إلى أداة لشرعنة التدويل، وفي مقدمة هؤلاء بعض الدول الخليجية، التي تتطلع لأدوار إقليمية أكبر من حجمها الطبيعي، مثل قطر». هنا أيضاً، يتفق مناع مع كيلو على أن دول الخليج لديها أجندات غير معلنة، لذلك «نحن نحاول أن نوضح للشباب السوري أن الشعارات الإعلامية التي يرونها على التلفزيون ليست كلها صادقة، كما أننا نسعى إلى إقناع مختلف أطراف المعارضة بالتخلي عن الفكرة الرومانسية الساذجة التي تعتقد أن شباب الثورة هم دائماً على صواب». ويكمل شرح وجهة نظره، لافتاً إلى أنه «على جميع أطراف المعارضة التصدي لمخاطر التدخل الأجنبي وتسليح الثورة، وأن تعي أنه لا يوجد شعب محصّن طبيعياً ضد الحرب الأهلية». من هنا، خلص إلى ضرورة مواجهة مثل هذه المخاطر من خلال التخلّي عن مصطلحات شاعرية مثل «لا توجد» (حرب أهلية)، و«شعبنا يدرك» أو «شعبنا محصن». تشاؤم يختصره بالإقرار بأن «الأمور بدأت حالياً بالتدحرج نحو دوامة العنف، وهناك بعض البؤر التي دخلت في منطق الحرب الأهلية، ومن واجبنا جميعاً أن نقف في وجهها حتى لا تنتشر وتصبح حالة عامة».

المال الخليجي و«الثورة المضادة»

هل تخفي المبادرة العربية «مخططات خليجية سرية» للتأثير في الحراك الشعبي السوري من أجل «حرف الثورة عن أهدافها»؟ يجيب هيثم مناع عن هذا السؤال بالتأكيد أن «هناك الكثير من المال الخليجي الذي يتدفق على سوريا، ويصبّ في ما أسميه الثورة المضادة، وهناك مشروع خليجي غير معلن يهدف إلى تغيير السلطة في سوريا، لكن ليس على أساس إقامة دولة مدنية وديموقراطية، لأنها دول لا تريد أن تكون سوريا نموذجاً للديموقراطية في المنطقة، خشية أن يؤدي ذلك إلى زعزعة عروشها». أما ميشال كيلو، فيرى أنّ «ما سمح لدول الخليج، وقطر تحديداً، بتأدية دور أكبر من حجمها الطبيعي، ليس فقط أموال النفط، فلو كان العالم العربي واقفاً على قدميه، لكانت قطر اليوم مجرد مدينة صغيرة منسية وسط رمال الصحراء».

المعارضة السورية: خلافات رأي أم حرب زعامات؟

منذ انطلاق «الثورة السورية»، قبل تسعة أشهر، ارتفعت أصوات كثيرة للمطالبة بتوحيد صفوف المعارضة، وتنسيق الجهود بين مختلف فصائلها، من أجل تشكيل هيئة موحّدة تتولى المرافعة باسم الحراك الشعبي السوري في الخارج. لكن هوة الخلافات تتزايد، يوما بعد يوم، بين مختلف أطياف المعارضة السورية، وبالأخص بين هيئتيها الأبرز «المجلس الوطني» و«هيئة التنسيق». «الأخبار» استطلعت في هذا التحقيق مختلف الفعاليات السورية المعارضة حول أسباب هذه الخلافات والعقبات التي تعترض توحيد صفوفها.

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى