صفحات العالم

رمضان العربي يطل دموياً… أين مؤتمر الحوار الوطني من حماه؟


طلال سلمان

يطل شهر رمضان المبارك، هذا العام، بوجه مجرّح وفؤاد مكلوم، على أرض عربية تغطيها دماء فتيتها الأبرار الذين انتفضوا ـ أخيراً وبعد صبر على الظلم والتهميش طال أكثر مما يجوز ـ ضد أنظمة القمع التي صادرت بلادهم، وسدت أمامهم الطريق إلى المساهمة في بنائها وفي تقدمها بقدرات أهلها الذين صاروا غرباء فيها، يتجرعون إذلال «الأجهزة» التي تصادر حقوقهم وتسعى لإلغاء عقولهم وتعطيل قدرتهم على الفعل.

لن يكون رمضان هذا العام، في معظم الأرض العربية، شهر التوبة والتسامح، بل إن أنظمة القمع تعد لتزيد من عنفها خلاله، ولمد أذرعتها الأخطبوطية إلى بيوت الله، تحاول إغلاقها حتى لا تكون ملاجئ للثائرين الساعين إلى الاعتراف بهم كشعب له حقوقه في بلاده، وأوله حقه في الحرية.

ولن يتلاقى الناس، أقله في اليمن أو البحرين أو سوريا أو ليبيا، من حول موائد الإفطار والسحور، في هذا الشهر الكريم، تظللهم المحبة وأفياء الأمان… بل على الأرجح إنهم سيواجهون المزيد من عمليات القتل والمطاردة في الميادين والساحات والشوارع والأحياء الداخلية حتى يتعذر اجتماعهم، ويتعذر ـ إذا ما اجتمعوا ـ توافقهم على خطة التحرك للتعجيل بفجر الحرية.

وطبيعي أن أهل مصر وتونس يعيشون حالة من القلق على الثورتين الشعبيتين المجيدتين فيهما، خصوصاً أن مهمات إنجاح الثورة وضمان استمراريتها لإنجاز مهمتها التاريخية تكون ـ في العادة ـ أصعب وأقسى من تأمين بزوغ فجرها الباهر.

وبالنسبة إلينا، في لبنان، فمؤكد أن جميعنا ـ وعلى اختلاف الانتماءات السياسية ـ نعيش حالة قلق مصيري، ونحن نتابع أخبار المواجهات الدموية في العديد من المدن والقصبات السورية، بين القوى الأمنية وشباب الانتفاضات المطالبة بالتغيير وإسقاط النظام، ممن يئسوا من احتمالات الإصلاح بالحوار.

ولقد تهاوت الآمال التي عُقدت على الحوار، ليس فقط لأن الدعوة إلى «مؤتمر الحوار الوطني» قد تأخرت بأكثر مما يجوز، في حين تزايدت أعداد ضحايا العنف الرسمي المنظم حتى كادت تشمل معظم أنحاء سوريا، مع الأخذ بالاعتبار الخسائر الجسيمة التي لحقت بالمؤسسات العامة ومراكز الإنتاج، فضلاً عن تقطع سبل التواصل بين المواطنين في المناطق المختلفة التي فرض على بعضها ما يشبه حالة الطوارئ، ولو من دون إعلان.

فالأحداث الدموية الخطيرة التي شهدتها مدن سورية عديدة، أمس، وحماه على وجه الخصوص، توحي بأن النظام قرر الاستمرار في عمليته العسكرية «التأديبية»، متخلياً عن مشروعه لعقد مؤتمر للحوار الوطني تجري فيه إعادة صياغة النظام، بما ينهي موضوعة الحزب ـ قائد الدولة والمجتمع ـ، عبر إصدار دستور جديد، وسلسلة من الخطوات الإصلاحية التي تمكّن الشعب من أن يكون مصدر السلطة فعلاً، في مناخ من حرية الرأي والعمل السياسي والنقابي. وكل ذلك من حقوقه الطبيعية.

وبديهي أن ما كان مأمولاً أن يحسمه مؤتمر الحوار الوطني متصلاً بإعادة صياغة نظام الحكم بما يتلاءم مع الإرادة الشعبية ومصلحة البلاد لن تنجح الدبابات في حسمه، بل إن اللجوء إليها يسقط ذلك المؤتمر تحت جنازيرها.

ليس الحوار جبهة حرب ينتصر فيها الأقوى بسلاحه.

بل إن الحوار أول ضحية للسلاح.. والنظام الذي كان يمكن أن يكون الرابح الأكبر من الالتزام بمقررات ذلك المؤتمر العتيد، مجهول المصير الآن، لأنه صاحب الإمرة على السلاح الذي اعتمد في الأيام الأخيرة كبديل من الحوار.

والسؤال الذي يفرض نفسه، الآن: هل توقف أركان النظام ليسائلوا أنفسهم: على فرض أن السلاح قد انتصر على جموع المواطنين الذين نزلوا إلى الميادين والشوارع في معظم أنحاء البلاد، فأية سوريا ستكون تلك البلاد الخارجة من حمام الدم مهشمة الوجه، مجرحة القلب، مفككة الأوصال، مخربة مدنها، محروقة مؤسساتها، منهك جيشها في غير الميدان الذي أعد له أصلاً وبالأساس؟!

بديهي، أيضاً، أن ليس الرصاص لغة للحوار، وليس بدماء الأهالي والجنود تكتب مشاريع الإصلاح والتطوير واستدراك الوقت الفائت على الوطن في معركة بناء مستقبله.

ولن يستقيم الحوار، إذا كانت تبقت له فرصة، طالما اعتبر النظام نفسه المرجعية الشرعية المطلقة، ومن تبقى من القوى السياسية والاجتماعية مجرد أطراف لهم وجهات نظر قد يكون فيها ما يفيد ولكنهم ليسوا بالقطع شركاء في القرار.

[ [ [

المشهد السوري الذي بلغ، أمس، واحدة من ذراه المأساوية، لا يبشر بحلول مقبولة وسريعة، كما كان يتمنى العرب الذين طالما اعتبروا سوريا قلعة من قلاع نضالهم، ونموذجاً في صلابة الوحدة الوطنية والترفع عن العرقية والطائفية والمذهبية.

أما اليوم فصورة سوريا تثير الحزن والنقمة على من تسبب في ما أصابها: يقفل الدم الطرقات. يعطل اللغة. يقفل أبواب الحوار. يخلخل ركائز الأخوة بين الأهل. يجعل الجيران أغراباً أو خصوماً. يمتد الخلاف إلى ثوابت اليقين: تتهافت الهوية الجامعة. يتخذ كلٌ من انتمائه البدائي هوية تميزه عن غيره وتبعده عنه. يعود الناس إلى قبائلهم، جهاتهم، أديانهم، طوائفهم، مذاهبهم والأعراق، فيتبدى وكأن افتراضهم أنهم شعب واحد موحد أسطورة تجيء من السياسة وليس من واقع حياتهم.

والنظام ليس الوطن ولا يمكن أن يكونه.

والوطن لأهله وبأهله. هم بُناته، وهم حماته، وهم صناع نهضته، وهم حماة دوره، ولطالما دفعوا من حقوقهم في حياة أفضل ضريبة الوصول إلى هذا الدور وتأمينه في وجه مختلف أنواع الأعداء والخصوم الذين قاتلوا شعب سوريا في رغيفه لشطب دورها في محيطها.

ومن حق شعب سوريا أن يبني مستقبله بإرادته، خصوصاً أنه دفع ثمناً ثقيلاً ـ بالدم ـ من أجل هذا الهدف الطبيعي والبسيط والضروري لحفظ كرامة الإنسان.

هل ما تزال ثمة فرصة، أم أن أحداث الأمس، وبعنوان حماه الثانية، قد أسقطتها تماماً، تاركة سوريا أمام مخاطر غير محدودة، تتصل بوحدة شعبها التي كانت مؤكدة فاهتزت، ووحدة دولتها التي كانت منيعة فارتجت أركانها، وكانت ذات دور مفصلي حاسم في منطقتها فتهدد الدور لانشغال أهله عنه بما يلغيه؟!

ليس من العرب من يتمنى لسوريا إلا الخير، ولشعبها إلا التقدم والرفعة والمنعة، وهو قد أثبت جدارته وقدرته على البناء وعلى التقدم نحو مستقبله بخطى واثقة.

لكن التمني لا يكفي… والجواب عند النظام الذي يملك، بعد، أن يفتح الباب على المستقبل، أو أن يقفله على الماضي، فارضاً على الشعب أن يقاوم لكي يفتحه على مصراعيه، بقوة إرادته في أن تكون له حقوقه في وطنه.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى