صفحات سوريةهيثم وقاف

سراب الحلّ السياسي

 

هيثم وقاف

يهدف التفاوض عادة، إلى الوصول إلى توافقات حول قضية معينة،أوإلى حلول وسط، تخرج على صورة تسوية سياسية، تقبلها وتوافق عليها الأطراف المعنية. يتطلب ذلك توافر ظروف مناسبة،ورغبة من الجميع، بالوصول إلى حلول مقبولة أومرضية، تلبيّ مطامحهم،على الأقل بالحدود الدنيا.

لايبدوأن المعارضة السورية، تسعى إلى هذا النوع من التفاوض. طالما أنها تعلّن تمسكها بأهداف الثورة، في الحرية والكرامة. وطالما أن من محددات قبولها لعملية التفاوض، تنازل الطغمة الحاكمة عن السلطة . فالغاية من التفاوض بالنسبة لها،هي استسلام الطغمة الحاكمة، ومن ثم استكمال عملية تفكيك بنيّة نظامها السياسي.

بمعنى آخر، إن التزام الإئتلاف الوطني، بمحددات الحلّ السياسي الثمانية، التي أعلنها ينسف عملياً، الركن الأساسي، لهذا الضرب من التفاوض، وهو الإعتراف بأن للآخر/السلطة، مصالح معينة لابدّ من أخذها بالإعتبار.

من جهة أخرى، لايبدو أن السلطة تسعى أيضاً، إلى هذا النوع من التفاوض،أو تأخذه على محمل الجدّ. إذ لطالما أعلن رئيسها، عن رغبته في الإستمرار بالحكم. وبالفعل لماذا يتركه؟؟ وهل هنالك معنىً لوجوده بدونه؟! وهل ينتظر من طغمة، ولغت في الدّم إلى هذا الحدّ،غير المسبوق في التاريخ، أن تقول ومن تلقاء نفسها: نعم كفى لقد شبعت؟! إن الغاية من التفاوض، بالنسبة للطغمة الحاكمة، هي وقف مسيرة الثورة، على طريق تصفيتها نهائياً.

فهل يمكن مدّ جسور التفاوض، بين خطابين مغلقين على ذاتيهما،ويلغي كل منهما الآخر؟!

في الواقع إن مايقوض عملية التفاوض من أساسها،هو عجز كلٍ من طرفيّها عن تقديم تنازلات، تكون مقبولة بالحدّ الأدنى،عند الطرف الآخر. فالتسوية التي يقبلها النظام، هي التسوية التي تسمح باستمرار وجوده. أي باستمرارالتسلط. والتسوية التي تقبلها الثورة، هي التي تفضيّ إلى تغيير النظام من جذوره. إن أي تنازل حقيقي من قبل أيِّ من الطرفين، هو مغامرة بالوجود ذاته. والتفاوض الذي يضمن البقاء لأحدهما، هو الذي تكون محصلته الربح الكامل،أي الخسارة الكاملة للطرف المقابل.

 لابدّ إذن من الغلبة على الأرض، لتتحقق الغايات الحديّة، على طاولة المفاوضات. عندئذ يحدّدّ الغالب، شروط استسلام المغلوب، ويتنزع موافقته عليها. ومن الواضح، أن الصراع بين قوى الثورة، وبين الطغمة الحاكمة، لم يبلغ بعد هذه الدرجة من الحسم.

يمكن أن يهدف التفاوض أيضاً، إلى إنتزاع مكاسب محددة من الطرف الآخر. هذا يحدث عند اختلال ميزان القوى، لصالح أحد الطرفين. فهل ميزان القوى على الأرض، مال لصالح قوى الثورة بحيث تستطيع، تفاوضياً، انتزاع مكاسب محددة من الطغمة الحاكمة، على طريق إسقاطها؟؟ أزعم أن الضغوط، التي تتعرض لها المعارضة السياسية، إقليمياً ودولياً، وضعف تمثيلها لقوى الثورة الفعلية على الأرض، وقلة درايتها السياسية. ذلك هو ما يدفعها الى قبول التفاوض، في هذا الوقت الخطأ.

مخطّئ من يفكر، باستنساخ النموذج اليمني. فهذ النموذج لن يتكرر في الحالة السورية، لأسباب أقلها، أنه جاء في شروط مختلفة تماماً. سواء لجهة الفرق في بنيتيِّ النظامين الإستبدادية، أولجهة اختلاف مسار الثورة في كليِّ البلدين، مع مستوى من القتل والتدمير والهمجية، بلغ في سوريا مبلغه. أو لجهة الجديّة التي أظهرتها القوى الدوليّة، فيما يتعلق برحيل الرئيس. وقد كانت محاولة اغتيال، علي عبد الله صالح، رسالة قوية لا لبس فيها في هذا الصدد . من هنا لا أرى جدوى من التفكير في هذا النموذج. بل أذهب أبعد إلى القول: أن الشروط الخاصة بل والفريدة، للثورة السورية، كفيلة بتقديم حلولٍ مبتكرة، لاتشبه أي نموذج من نماذج ثورات الربيع العربي التي عرفناها. في هذا السياق قد تلزم الإشارة، إلى أن أية محاولة للصفح، عن رأس النظام وأركانه الأمنيين والعسكريين، ستعني المغامرة بإذكاء الفتّن الداخلية، وطلب إستيفاء الحق بالذات، على نطاق واسع. إن إنفاذ العدالة الإنتقالية هو صمام الأمان، في وجه تداعيات الإنتقام والثأر المحتملة.

من الواضح في الحالة السورية، غياب التوافق بين القوى الخارجية على حلّ “المسألة” حتى الآن.وعلى الرغم من إصرارهذه القوى، أن يكون الحلّ سياسياً، فليس ثمة تصور ناجز له، عند أيِّ منها. وأقصى ما يسعى إليه الفاعلون الخارجيون الآن، هو في تسكيّن الصراع،وخفض وتيرته، إلى الحدود المحتملة إقليمياً ودولياً.

وهم يرغبون من المعارضة السورية، أن تكون شريكاً سياسياً لهم، في وصفة التهدئة هذه. ريثما تنضج لاحقاً شروط حلّ ما، يحدده ميزان القوى على الأرض.

ويطيب للمجتمع الدولي، أن يكون الحلّ السياسي على قاعدة: لا يقتل الذئب، ولا يفنى الغنم.وهو لا يستعجل فرض الحلّ، طالما أن الوضع لم يبلغ بعد، حدّ الفوضى التي تهدد الأمن الإقليمي، وفي الصدارة منه، أمن اسرائيل. إن إنهاك الطرفين ودفعهما إلى اليأس من النصر، هوأمر مرغوب، لقبولهما التفاوض والوصول إلى حلِّ وسط .حلّ يضمن أن لايقتل الذئب، ولا يفنى الغنم. هذا هو فحوى إنضاج الظروف، للتفاوض، وللحلّ السلميّ.

باعتقادي أن التفاوض في هذا الوقت، الذي لم ترجح فيه كفة الثوار على الأرض، سيعني: الإعتراف بشرعية النظام مقابل،إعتراف ملتبس منه، بشرعية المعارضة. وفي ذلك التفاف على هدف الثورة الرئيسي، وهو إسقاط النظام باعتباره، أولاً وأخيراً، نظام غير شرعي.

كما سيعني، إهمال القضية الجوهرية المتمثلة برحيل النظام، ومحاكمة رموزه محاكمة عادلة. والغوص، بدلاً من ذلك، في القضايا التفصيلية المتعلقة، بالمشكلات التي أفرزها الصراع بين الشعب والطغمة الحاكمة.

 كذلك لن يكون هذا التفاوض، محل إجماع من قوى الثورة،أوحتى من أغلبيتها وسيضطر طرف بعينه، أن يتحمل المسؤولية التاريخية،عن النتائج التي يسفر عنها. وأقلها سوءاً، هو المزيد من التمزقات المؤلمة، في صفوف المعارضة السياسية والمسلحة.

علماً أن الطرف المرشح لمفاوضة النظام، ليس هو الطرف الفاعل القادر،على إنفاذ ما يتم الإتفاق عليه. فالقرار في النهاية هو للمعارضة المسلحة، وهي أطراف متعددة لا تجمعها هيكلية واحدة، ولا قيادة موحدة،وليس لديها تصور سياسي واضح وعمليّ للصراع. والنظام يعلم أن المعارضة السياسية ليس بيدها قوة القرار، ومع ذلك يتوجه لمفاوضتها! لأنه، على الأقل، سيعمق الهوة بينها، وبين المعارضة المسلحة. وسيسهل عليه عزل الأخيرة، ورفع الغطاء السياسي عنها، تمهيداً لتصفيتها نهائياً، بذريعة وقف العنف.

في هذا السياق نذكّر، بأن النظام دعا، أيضاً المعارضة المسلحة إلى التفاوض، شرط تخليّها عن سلاحها. إن همّ النظام وحلفائه حالياً، هو وقف الإنتفاضة المسلحة، وهمّ أمريكا والدول الغربية، هو وقف زحف الجهاديين، وإخضاعهم. إن لكل من هؤلاء غرضه الخاص. ونقطة تقاطعهم هو الوصول، إلى تسوية ترضي مصالحهم على حساب أهداف الثورة الكبرى.

إذا صح ما نقول، فإن التفاوض المعروض في البازارالسياسي اليوم، لايمكن اعتباره جزءاً من النضال السياسي، الواجب على المعارضة السورية أن تخوضه،أو صورة من صوره المرغوبة. وأزعم أنه سيمنح الطغمة الحاكمة، وقتاً إضافياً للإيغال بنهجها الدمويّ، وأخذ زمام المبادرة السياسية والميدانية.

إن قوة السلطة الفعلية، المتمثلة في أجهزتها الأمنية والعسكرية الخاصة، ما زالت تبديّ تماسكاً لافتاً. وأي تنازل عبرالتفاوض ذي معنىّ، لصالح الثورة ، يجب أن يكون تنازلاً، من قبل النظام في هذا المستوى بالذات، من مستويات بنية السلطة. الأمر الذي سيفضي، في حال تحققه ، إلى إنهيارها لا محالة. ولا يوجد طرف في مؤسسات السلطة، أو الدولة، قادر على تقديم هكذا تنازلات، إلاّ من داخل أروقة الطغمة الحاكمة نفسها. بمعنى آخر يبدو التفاوض “الناجح”، بالنسبة إلى الثورة، هو في قبول الطغمة، تفكيك هيكليتها السلطوية، والإنسحاب من المسرح، وهذا هو اللامعقول بعينه.

يمكن لتكتيك سياسي ديناميكي وفاعل، متمسك بأهداف الثورة، ومبنيّ على استراتيجية سياسية واضحة، مرتكزة على العمل الثوري في الداخل.أن يظهر، استحالة السياسة لدى هذا النظام، وتناقض فكرة التغيير السلمي التدريجي، مع بنيته ذاتها. من فوائد هذا التكتيك على الصعيد العملي، تقوية موقف الحلفاء، وتليين مواقف أعداء الثورة الخارجيين، وضم شرائح اجتماعية أخرى لقضية الثورة. لكن واقع الحال،أن المعارضة السياسية، وكذلك المسلحة، لم تصلا بعد، إلى إتفاق واضح على خارطة طريق محددة، لتغيير النظام. وليس هنالك فئة معارضة قادرة، على فرض رؤيتها للحلّ السياسي. والطريف في هذا المجال، أن تشرزم قوى الثورة، الذي يمثل إضعافاً لها، من زوايا عديدة. يلزم أي طرف سياسي مفاوض، بالتمسك بالسقف الأعلى للتفاوض تحت طائلة، فقدان الشرعية والتمثيل.

إن وقف العنف، الذي تشترطه أولاً بأول، كل التسويات المقترحة، لا يعني نهايته أو استحالة عودته بشكل أقوى وأسوأ مما هو عليه، حتى مع وجود قوات لحفظ السلام. إن إنهاء العنف يقتضي بالضرورة، إنهاء مولد العنف الرئيسي، وهو الطغمة الحاكمة،ومحاسبتها على الجرائم التي اقترفتها.

إننا في مواجهة نظام ما قبل سياسي. ولو كان نظاماً سياسياً بالمعنى المألوف، لكان قابلاً للإصلاح، وتقديم التنازلات في ظروف معينة. هذا ما يجعل من القوة، سبيلاً حتمياً لتغييره. القوة التي لا تختصر،بالعمل العسكري، لكنها لا تستبعده أبداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى