صفحات الثقافة

عاريات يوسف عبدلكي يجابهن الليل والموت/ أسعد عرابي

 

 

في أواخر العام الفائت 2016 فاجأ الفنان المعروف يوسف عبدلكي، المقيم بين دمشق وباريس، الوسط التشكيلي في العاصمة السورية، وبالذات “صالة كامل” بمعرض ورقي منجز بأقلام الفحم، وبموضوع شجاع يصوّر فيه نماذج أنثوية حية، لا تخلو رغم تخليها عن الأردية من الخَفَر الشرقي دون أدنى خلاعة أو إغراء. كينونة حية تمثل نصف المجتمع، تتقاسم نصف رعب القيامة الشاميّة وكوابيس القصف الأبدي.

أما العنوان فكان مباشرًا: “العاري يواجه الموت”. مرّ بسلام منسلًا من براثن الأصولية المحلية التي تجتاح ضمير الذائقة العامة، ولكنه لم ينجُ من انتقاد الآخرين.

المعرض نفسه في باريس

ها هو اليوم المعرض نفسه (وبتعديل طفيف) يحط رحال لوحاته (الـ٢٢ عارية والسبع طبيعة صامتة) على جدران طابقي غاليري “كلود لومان” في باريس – مونبارناس، وذلك ما بين التاسع عشر من أكتوبر/تشرين الأول والثامن عشر من نوفمبر/تشرين الثاني من العام الراهن، أما عرسُ حفل الافتتاح فكان مساء الخامس والعشرين من أكتوبر، تميزت سهرته بالانفجار السكاني المألوف.

عقد لوحاته متوسط الحجم، فقياس الورقة يحوم حول النسبة المعروفة بـ” الفورما ريزان” أي 50 × 70سم. لكن الفرق كبير بما يخص شرعية بل ضرورة تشريح الجسم البشري سواء أكان ذكرًا أم أنثى بين دمشق وباريس، فهو ممنوع منعًا باتًا في كلية فنون دمشق لأنه يعتبر ماسًا بالأخلاق العامة منافيًا للأعراف المتخلّفة حتى عن أصول الأصول التي كانت تميز بين التمثال الفني الحلال والصنم أو الوثن المعبود المحرم، مقارنة بباريس الحافلة بجحافل من الأكاديميات والمعاهد والمدارس العامة أو الخاصة التي تضع في رأس ميزانيّتها أجور الموديلات (النماذج الحية العارية) وإذا قصّرت بادر الطلاب إلى التبرع بالقيام بهذه المهمة كل حسب دوره، ومن لا يقبل يُطرد من دائرة زملائه وأساتذته دون التفريق بين أصول الفنانين الوافدين للدراسة، يرويها بالتفصيل الرائد جواد سليم مع رسوم موجهة إلى صديق عمره في بغداد وهو حنا، يتحدث عن أول مرة اضطر فيها لأن يؤدي دور الموديل العاري أمام زملائه. نحن هنا بصدد موازاة ما يحدث على طاولة التشريح الطبي في الجامعة. إن حرمان الطلبة لدينا من هذه المادة المعرفية الفنية الأساسية يفسر ارتباكهم في رسم التشريح، يصل حدود الأميّة حتى لدى الموهوبين بعد تخرجهم.

معرض يوسف في دمشق أقرب إلى التوجيه التربوي منه إلى الاستفزاز المجاني. فهو يدعو (مع المرحوم المعلم نذير نبعة) إلى “فضيلة الرسم بالخط”. لا يحتمل أن يصور الشهيد المسجى على الأرض غارقًا في آلام دمائه مثل المسيح (وهو يرفل في أردية رومانية) ولا أن يعبّر عن آلام جسده دون تعريته كما ولدته أمه وكما هي بقية الكائنات الحية والأقوام التي تعتبر تصوير الجسد في التمائم والتماثيل ممارسة روحية دون أدنى ابتذال. تمثل المشكلة معاناة عامة كانت على أشدها، عندما نالني منها خلال معرض “تحية إلى بيجار” عام 2009 الذي لم يعرض في دمشق، وإنما في بيروت، بعد رفض المطابع الدمشقية طباعة الكاتالوغ.

لعل أصالة توليفات هذا الفنان ونضجه الانعطافي في السنوات الأخيرة جعلت فنه يتجاوز أي تبشير ولو بالإلماح حول ضرورة عودة النموذج الحي للدراسة الجامعية، فمسباره الفني والعاطفي وتربيته الأخلاقية المتمردة المأزومة، تدفعه لأن يبحث عن الألم الداخلي العميق والمزمن المستلهم من قدر “القيامة الشامية” ومصيرها المعلق، تبدو فكرة أن تصويره للعاري وللطبيعة الصامتة هي استراحة المحارب. ما هي عبارة واهمة لأن التمرد الوجودي – الوجداني – الوجدي لدى يوسف يمر عبر سلوك أدواته واختياراته لمواد هشة قابلة للاندثار والموت مثل الورق وأداة فحم الفوزان (الأغصان المتفحّمة) تحتاج دومًا إلى تثبيت كيميائي حتى لا تتناثر في الفراغ مثل البراميل المتفجرة، فشخصيته المتمردة على شتى أنواع الظلم تتقمص مادة لوحته وجسدها الحسي (بمعزل عن موضوع أو سيميولوجية الجسد الممثل). هناك إذن جسد إبداعي آخر منزه عن التشبيه والدلالة، تتشرب كوامنه السيميائية روح الرفض وعصبية الخطوط الحادة وساديتها الكرافيكية، ناهيك عن السخاء الدرامي الليلي الكالح في سواده المطلق والذي هو أقرب إلى الحداد منه إلى بهجة الأعراس ومداعبة فتاة الأحلام. عاريات يوسف لا يصلحن للزواج ولا حتى للغزل العابر، قد تكون كل واحدة منهن رمزًا لسورية ذات المفاتن المتفحمة.

تحت المجهر البصري

لا يمكن أن نتحسس الخصائص الأسلوبية في المعرض إلا إذا قربنا مجهرنا البصري وعدستنا البصيرية من ذرات وحبيبات وخدوش وأثلام أديم جلد جسد اللوحة لنكتشف مع هذا “الميكروكوزم الإشعاعي” رهافة التحولات المنحوتة غرافيكيًا على أبيض الورقة، بحيث تبدو تجريديًا وكأنها بقع ضوء فلكية متناثرة في فضاء ليلي، تنداح في ظلمته الدامسة درجات الظل قبل أن تبتلعها عدمية الأسود المطلق، وذلك من خلال تهشيرات خطية تعبيرية تراجيدية مأزومة تعمّر الجسد التكعيبي المكور للموديل العاري. ثم تتراكم طبقات المعالجة في البناء والهدم، في الرسم وإعادة الرسم، تارة بخطوط سادية تشطيبية تعارض الأولى وتارة بالممحاة التي تعيد بتهشيراتها الموجبة ما تحجّب من نور أرضية الورقة. قد تكون إعادة تحديد حاسم لبقع الضوء، لضبابية الغلاف الليلي. يحافظ بذلك على موروث منهج كارافاجيو المرتبط بالفروق الحادة بين المناطق المظلة والمضيئة ضمن المصدر الضوئي الأحادي (مثل ضوء شمعة رامبرانت أو جورج دولاتور). هو التحول باتجاه تقابل الضدين: النور والظلام الكالح في أقصى حدود الاثنين. هو ما يذكّر بالتقنية المزدهرة بالنسبة لعبدلكي من خلال تفوقه في محترفات الحفر والطباعة. ندرك هنا صعوبة التوفيق بين مفاهيم الكرافيك (وتعددية نسخ طباعاته) والتصوير الذي يعتمد على أحادية وتفرد اللوحة، ثم اللقاح بين تنوع أنسجة التصوير وتباين ملامس المحفورات المعدنية. نعثر في اختياره لهذه الأداة البسيطة التي اكتشفت منذ رسوم عصر الكهوف أن الفرق بين ميدان الكرافيك والتصوير لا يكاد يبين. وأكثر من ذلك فإن الفرق بين التجريد (التنزيه) والتشخيص التعبيري (التشبيه) ما هو إلا وهم نقدي يرتبط بمادة الأدب  وليس مادة التشكيل أو الموسيقى. هو ما يفسر غياب الرأس أو بعض الأعضاء في الجسم البشري. يعانق مثلًا كتاب المعرض (الكاتالوغ) رسومًا تمهيدية بليغة الاختزال (غير معروضة في باريس لأنها عرضت في دمشق) تؤكد بأنه يبدأ تأويله للنموذج الحي بتجريده الهندسي من دلالته. تداهم ذاكرته رحم الورقة بخطوط عامة “غشتالتية” متعامدة تتقاطع عند دائرة أو مثلث أو شكل تربيعي. وكان من الحكمة عرضها للمقارنة واكتشاف البعد التجريدي في هيئة العاريات التي توحي بواقعية خداعة، هو ما يفسر نقد يوسف اللاذع لتيار “الهبرياليزم الأميركي” الآلي النقل عن الوثيقة الفوتوغرافية، فاختزاله التجريدي هذا يضع دلالة الشكل في موقع متوسط بين اليقين والشك وكأنه يسترجع دون وعي صوفية قول النفّري “كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة”.

***

لقد دفع يوسف عبدلكي ثمنًا باهظًا دفاعًا عن حرية الآخرين، آن له اليوم أن يدافع عن حريته الإبداعية، مع ذلك فلوحاته تتوخى خدش حياء النفاق العام والبطش الأصولي بكل أنواعه الذي يغتال كل أشكال الحريات الإبداعية على مساحة خارطة المحترف العربي اليوم.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى