صفحات مميزةغياث نعيسة

عام على الثورة الشعبية السورية


غياث نعيسة

اقتحم جيش النظام السوري حي بابا عمرو في حمص في اليوم الأول من شهر أذار بعد نحو شهر من الحصار والقصف. ولم تكن المقاومة البطولية للسكان وللجنود المنشقين والثوار المسلحين مفاجئة، لأن هذا الحي، على شاكلة ألاف الاحياء الاخرى، حي يقطنه المفقرون والمستغلون والمهمشون الذين لا يخافون من فقدان شيء لهم سوى قيودهم.

لقد ضجت وسائل اعــــلام الطغمة الحاكمة ابتهاجا ب’انتصارها’ وقدمت جريمتها في سحـــق بابا عمرو بوصفه نصرا لها على ‘الارهابيين’، وهي صفة تطلقها السلطـــة على الجنود المنشقين والمحتجين السلميين. من جهته، اعلن العقيد المنشق رياض الاسعد اللاجئ في تركيا، والناطق باسم الجيش السوري الحر عن ان سقوط الحي حصل نتيجة ‘الانسحاب التكتيكي’ للأخير.

والحال، ليس هنالك من مدعاة للفخر، بل هو جريمة بشعة بحق الانسانية، ما ارتكبته قوات السلطة من جرائم وتدمير لحي يقطنه مدنيون محاصرون تماما ويتعرضون للقصف اليومي، ولا يدافع عنه سوى بضعة مئات من الثوار المسلحين بسلاح خفيف في مواجهة جيش محترف جرار. وما الاهمية العسكرية لاجتياح حي واحد والتبجح بالنصر مع تواجد الاف اخرى ثائرة على امتداد سوريا؟ لقد جاء الرد الحاسم للجماهير الثائرة في اليوم التالي لاجتياح جيش الطغمة لحمص حيث رصد في 2 أذار 619 نقطة لانطلاق المظاهرات السلمية .فأي انتصار هذا؟

أما تصريح العقيد المنشق رياض الاسعد فهو تعبير عسكري غير موفق لوصف معركة هي اصلا غير تقليدية لأنها لا تعني مواجهة بين جيشين، بل هي حرب يشنها جيش نظامي ضد جماهير الشعب، جزء ضئيل منها يحمل السلاح الخفيف للدفاع عن نفسه. ولاشك أن سقوط حمص في ايدي جيش الطغمة هو ضربة قاسية ولكنه مجرد هزيمة في معركة واحدة من الصراع الطويل الدائر بين الجماهير الثائرة والنظام الدكتاتوري. وهذا ما يعيد، وبإلحاح، قضية ضرورة توحيد مجموعات الجنود المنشقين والمدنيين المسلحين المشتتة تحت قيادة عسكرية ميدانية واحدة تكون هي نفسها ملتزمة بالقيادة السياسية للتنسيقيات الثورية الميدانية، فلا هيئة التنسيق للتغيير الديمقراطي تعير الامر كله اهتماما يذكر بل تركز نشاطها على العمل الدبلوماسي مع الاطراف الاقليمية والدولية الحليفة للنظام، ولا المجلس العسكري التابع للمجلس الوطني السوري الناشط في المنفى الذي أعلن الاخير عنه أستطاع أن يرى النور، في وقت أعلنت فيه دولتان من الدول الراعية للمجلس الوطني السوري، هما قطر والسعودية ،دعوتهما الى تسليح ‘المعارضة’، لتفاقم دعوتهما هذه من حالة تأرجح مواقف المجلس بين الشيء ونقيضه . فالدول الراعية للمجلس الوطني السوري لا تمتلك نفس المقاربة للوضع السوري. فدعوة حكومتي قطر والسعودية لتسليح المعارضة انما تعني عمليا بالنسبة لهما التيارات المقربة لهما وهي التيارات السلفية والجهادية المتشددة، بينما نجد أن فرنسا والدول الغربية معها والى حد ما تركيا ترى، حتى هذه اللحظة، في التسليح وفي هذه التيارات خطرا على استقرار المنطقة وعلى أمن دولة اسرائيل ويفضلون سيناريو اضعاف سوريا مجتمعا ودولة وتشجيع نوع ما من ‘الانتقال المنظم’، ما يعني تغيير للنظام بشراكة قسم من داخل النظام نفسه.

مر عام على الثورة والنظام رغم تصدعه، لم ينهار بعد، فالانشقاقات داخل الطاقم السياسي شبه معدومة وانشقاقات العسكريين ما تزال نسبيا غير واسعة مع قليل من الضباط ذوي الرتب العسكرية الرفيعة. اذن، يطرح السؤال التالي نفسه: ما هي الاسس الاخرى الداعمة للنظام بخلاف قوته العسكرية واجهزته الأمنية وجبهة احزابه الموالية وحلفائه الاقليميين او الدوليين، التي توفر له دعما داخليا في مواجهة الثورة الشعبية؟

لقد لاحظ اغلب المتابعين للشأن السوري الضعف النسبي للاحتجاجات التي تعرفها المدينتان الاكبر في سوريا حلب ودمشق مقارنة بحقيقة انهما مدينتان يقطنهما نحو اقل قليلا من نصف سكان البلاد . ومما لا شك فيه ان مركزة السلطة لقوات قمعها فيهما واحكام قبضتها امنيا عليهما منذ عقود يشكلان عاملا هاما في اعاقة تطور الاحتجاجات فيهما. ولكن قوات النظام ووحشيته لم تمنع نمو الاحتجاجات في مدن اخرى.

و الحال، فان وجود طبقة اجتماعية اساسية داعمة للسلطة بل وحاضنتها يتم تغافله في اغلب التحليلات، وهو ان هاتين المدينتين تتمركز فيهما ايضا البرجوازية ‘الخاصة’ السورية التي لا يلغي من حقيقة دعمها الواضح للنظام الدكتاتوري بعض الاخبار التي تواردت عن تبرع بعض ‘الاغنياء’ للثورة، وهي حالات قليلة اشبه ما تكون بمحاولة لإراحة ضمائرهم.

هنالك منذ عقود نوع ما من ‘العقد’ بين هذه البرجوازية المرتبطة عضويا بالسلطة وبين الدكتاتورية ما يزال صالحا وهو: دعوا الحكم لنا لندعكم تغتنون بلا حدود.

اذ التقى في 29 شباط وفد رسمي رفيع المستوى ضم كل من وزير الدفاع ونائبه ورئيس مجلس الامن القومي ووزير الداخلية مع ممثلي البرجوازية في حلب بناء على طلبهم واستجاب ممثلي الدكتاتورية لطلبات البرجوازية في تأمين أمنها وازدهار اعمالها، رغم حالة المقاطعة التي يعيشها الاقتصاد السوري المتدهور والوضع الثوري السائد. واعلنت السلطات بعد يومين من هذا الاجتماع عن تشكيل هيئة لإقرار سياسة اقتصادية للبلاد، طبعا لا تضر بمصالح البرجوازية وخاصة مع تأزم الوضع الاقتصادي، تشمل اساسا ممثلي هذه البرجوازية مثل راتب الشلاح.

و اخيرا، فان هذه البرجوازية هي التي تمول مليشيات الشبيحة الفاشية الموالية للنظام وتساهم في اليات التأطير الاقتصادي والاجتماعي والايديولوجي للسكان لصالح الدكتاتورية.

في حين أن الطبقة الوسطى كانت قد عرفت تفككا حادا في العقدين الاخيرين خصوصا نتيجة السياسات النيوليبرالية التي شهدتها سوريا. انخرط جزء منها في الثورة منذ اندلاعها ولا سيما قطاعات من شرائحها الدنيا والمهمشة. بينما اتخذ قسم اخر منها، ولا سيما شرائحها العليا، موقفا مؤيدا للنظام او بقي مترددا، وخاصة ان رب عمل غالبيتها هو الدولة نفسها، او خشية وقلقا من التغيير ومستقبل مجهول.

في المقابل، قامت دكتاتورية عائلة الاسد منذ استلام الاسد الاب للسلطة بانقلابه عام 1970 بتشجيع ورعاية المؤسسات الدينية الرسمية الاسلامية والمسيحية. بل وشجعت، علاوة على ذلك، على انبعاث تيارات دينية ‘شعبية’ غير مسيسة ان لم تكن موالية للسلطة . فقد شهدت البلاد بين عامي 1970 و2000 حمى حكومية لبناء المساجد، حيث افتتح حوالي 12 ألف مسجد خلال هذه الفترة، وافتتح اكثر من الف وحدة من معاهد الاسد لتعليم القرآن في كل المحافظات السورية.

ليس غريبا اذن الموقف المؤيد للدكتاتورية الذي اتخذته المراتبية الدينية الرسمية الاسلامية (السنية والشيعية والدرزية) وبالأخص الموقف الداعم لها من قبل مفتي الجمهورية الشيخ احمد بدر الدين حسون والشيخ محمد البوطي.

كما أعلنت الكنائس السورية (الشرقية والغربية والانجليكانية) بإعلان مشترك لها موقفا مؤيدا للسلطة. حتى المطران الماروني بشارة الراعي اعلن مرارا وتكرارا موقفا مؤيدا للنظام السوري. والشيء نفسه يقال بخصوص المراتبية الدينية العليا للشيعة والدروز. هذا الموقف المساند للدكتاتورية من الهيئات الدينية الرسمية العليا لم يمنع العديد من رجال الدين (من كافة الاديان والمذاهب) من المرتبات الدينية الادنى من مساعدة ودعم الثورة. لكن مما لا ريب فيه بأن موقف المؤسسة الدينية الرسمية (لكل الاديان والمذاهب) يشكل، اضافة الى موقف البرجوازية الخاصة، عاملان هامان من عوامل الدعم والاسناد للنظام، ويلعبان دورا سلبيا مؤثرا على تطور الثورة ومعيقا لانتصارها، وهما مكونان من مكونات الثورة المضادة.

فالثورة في بلادنا ثورة شعبية حقيقية. فهي، وقبل أي شيء أخر، ثورة الجماهير المفقرة والمستغلة والمهمشة. ولأنها ثورة اجتماعية عميقة وجذرية فإنها تواجه ثورة مضادة تضم اضافة الى النظام الدكتاتوري الدموي وحلفائه الداخليين والخارجيين، البلدان الرجعية العربية وحلفائها. وهذا ما يطرح بشكل ملح على جدول أعمال الثورة الشعبية السورية ضــــرورة بناء القيادة الجماهيرية الثورية القادرة على الســـير بالثورة الى مطافها النهائي بإسقاط النظام وتحقيق الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

في سياق السيرورة الثورية الجارية منذ عام، ابتدعت الجماهير الثائرة اشكال تنظيمها من الاسفل مثل التنسيقيات لتنظيم الاحتجاجات ومؤخرا المجالس المحلية لإدارة شؤون حياة السكان في المناطق المنتفضة، ولعل الربط، او الدمج، بين هذين الشكلين من التنظيم الذاتي الجماهيري في اطار واحد قد اصبح ضروريا، بحيث يمكنه القيام بوظائف تنظيم الاحتجاجات والدفاع الذاتي (المقاومة الشعبية) وادارة شؤون حياة السكان في أن معا. وبمعنى اخر، أصبح مطلوبا وملحا العمل على توفير الشروط الملائمة لتكوين سلطة بديلة من الاسفل. وكل قوى اليسار الثوري في سورية مدعوة للانخراط في هذه المهمة العاجلة.

‘ كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى