صفحات الرأي

كي لا يدخل «البعث» مرحلة «الموت السريري»


نضال العبود

لقد تلقى حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا في العقدين الأخيرين ضربتين قاصمتين، هما:

1- سقوط المنظومة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، كمنهل فكري وداعم سياسي ومادي للأحزاب اليسارية في العالم الثالث وفي قائمتها حزب «البعث العربي الاشتراكي».

2- سقوط حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق بعد غزوها عام 2003، كأخ توأم يشترك معه في كل شيء، إلا في مصالح القيادات الشخصية الانية المتضاربة إلى حد الصراع.

وفي المرتين الأولى كما في الثانية، لم يكن الحزب بقياداته المتلاحقة على مستوى المرحلة التاريخية، مما وضع وجوده وقدرته على الاستمرار محل تساؤل واختبار، وكان من الأجدى بالقيادات الموجودة بعد هذين الضربتين، دق ناقوس الخطر وأخذ زمام المبادرة من خلال إعادة تقييم جذري لمسار الحزب ووضعه على الطريق الصحيح باتجاه أهدافه التي كرس نفسه لتحقيقها.

الذي حدث هو العكس فقد تم إغفال هاتين التجربتين وكأنهما فقاعات سياسية، عزز من ذلك عدم وجود مفكرين استراتيجيين يضطلعون بأعباء المرحلة، وأن معظم القيادات التي تعاقبت منذئذ هي قيادات تم زرعها زراعة، مع افتقادها لأي ماض حزبي نضالي، أو رؤى فكرية مستقبلية لتطوير الحزب وممارساته. ولا نبالغ في القول إن بعض هذه القيادات أتى بالرغم من ماضيه الفاسد المعروف. هؤلاء اتخذوا الحزب مطية لتحقيق مصالحهم الضيقة الانتهازية ومصالح من يقفون خلفهم، مثلهم مثل «النعامة التي دفنت رأسها في الرمال». هذا الوضع الجديد أدى إلى تفاقم ثقة المجتمع السوري والعربي بالحزب، لا بل اعتبره الكثيرون العنوان الأبرز للفساد والقمع والظلم والانتهازية والثراء السريع، إلى درجة أن البعض دعا في سره إلى حل الحزب وحظره من العمل السياسي أسوة بنظيره العراقي بعد الغزو. حتى أضحى الكثيرون يخفون انتسابهم إلى الحزب هرباً من انتقادات المحيطين بهم، واتهامهم بأنهم الغطاء الذي تحته، تتم أبشع الممارسات باسمهم ولأجلهم!

ان المؤتمر القطري الحادي عشر المزمع عقده في الفترة القريبة القادمة، يعتبر الفرصة الأخيرة للحزب للبرهان أمام أنصاره، على قدرته على الوقوف من جديد على قدميه، وامتصاصه الصدمة التي تهدد وجوده، من خلال العمل بكل جرأة وشفافية على النقد العميق والموضوعي للذات الحزبية، والاعتراف الصريح بفشل معظم أطروحاته وسياساته السابقة، وطرح خطة فورية للإنقاذ، تصحح الخطين المنحنيين التاليين:

1- الخط السياسي والتنظيمي،

2- الخط الاقتصادي وأبعاده الاجتماعية.

تقويم اعوجاج الخط السياسي والتنظيمي، يقتضي كسر الوضع السكوني الذي يعيشه الحزب منذ عقود، والذي أفضى إلى انفصال جلي وواضح -إلى درجة القمع والتسلط – بين قياداته وبين المنتسبين إليه ومناصريه، معيدة إلى الأذهان مفهوم «النخبة» الفاشي والستاليني، معتبرة الشعب في مرحلة قصور لا يستطيع خلالها وعي مصالحه وتحقيقها بنفسه. فهو يحتاج -أي الشعب- لمن يأخذ بيده ويرسم له الطريق وسط الظلام الدامس. هذه «النخبة» دأبت على الضجيج والصياح والخطاب الأجوف، حتى تعمي أبصار من تدعي أنها تمثلهم عن مصالحهم الحقيقية، وحتى تخلق جواً من الوهم والخداع، لتتمتع على حسابهم بالجاه والسلطة والثروة.

فلم يعد مقبولاً على الاطلاق اعتبار الحزب «حظيرة» لسجن الأعضاء فيها، وشل حركتهم وقدرتهم على الفعل والتغيير، بنفس الطريقة التي تم فيها سجن الاسلاميين بمختلف أطيافهم في «المسجد» للسيطرة عليهم ومراقبتهم. ففي الحالة الأولى تم التنسيب إلى الحزب بشكل عشوائي، المعيار الحاكم هو جذب أكبر عدد بغض النظر عن الشروط الواجب توفرها في العضو الجديد، وبغض النظر عن مصلحة الحزب كحامل لأهداف الجماهير الكبرى والسامية ، حتى بلغ أعضاء الحزب ما يقارب الثلاثة ملايين. أما في الحالة الثانية، فقد تم السماح ببناء أكبر عدد من المساجد، ويقال أنه تم بناء أكثر من الفي مسجد في الفترة الواقعة بين عامي 1970 و2000 وهو رقم قياسي في تاريخ سوريا، مسخت الحياة السياسية خلالها إلى «بعثي» أو «إسلامي»، الأول تؤطره «مباني الحزب» حيث يعقد ملك الموت اجتماعاته وفي كل اجتماع مع الرفاق يعلن قبض أرواح وافكار جديدة، والثاني يؤطره مبنى المسجد حيث الأعناق مشرئبة إلى من يخطب عن القضاء والقدر وتفاهة الحياة الدنيا.

لقد جمد فكر الحزب ودخل مرحلة «الموت السريري» في اللحظة التي تمت فيها «دسترته»، أي اعتباره حزباً قائداً للدولة والمجتمع بقوة الدستور، وليس كنتيجة طبيعية لتنافسه تنافساً شريفاً مع القوى المجتمعية العاملة في «السوق السياسي»، وهذا ما سمح ليس فقط في قمع وإلغاء الآخر، بل أدى إلى تسلط «نخبة» على مفاصل الحزب والدولة تحت ذرائع مختلفة، وما أعقبها من فساد مالي وأخلاقي، أدى بدوره إلى إخراج الحزب من أحضان الجماهير الشعبية، التي استخدمت كأداة للتجييش بعيداً عن أهدافها الحقيقية التي كرس الحزب لها نفسه منذ التأسيس لصالح قوى رجعية ومرتهنة كما تصفها هذه «النخبة» نفسها. وما مقولة تماهي الحزب مع الدولة إلا ديماغوجية أفرغت الحزب والدولة معاً من مضمونهما وصبت في نفس الإطار السابق.

أما في ما يتعلق بالخط الثاني، فإن جل اهتمام ونضال كوادر الحزب يجب أن تنصب على تقويم اعوجاج الرؤية الاقتصادية للحزب لما لها من تأثير مباشر على حياة ومستوى معيشة شرائح واسعة من الشعب السوري، فاقتصاد السوق الاجتماعي الذي تبناه المؤتمر القطري العاشر، كان خطوة في الاتجاه الخاطئ، لأنه ترجم على الأرض بانفتاح عشوائي على السوق العالمية نتيجة ضعف الحوامل القانونية والاقتصادية والاجتماعية في بلد يعتبر من دول العالم الثالث، وما يتضمنه ذلك من ضرر على الاقتصاد المحلي، الذي لا يزال غير قادر على المنافسة، وانسحاب الدولة من ملكية وسائل الإنتاج، وما رافقه من فساد ناجم عن تجذر اتحاد رأس المال مع السلطة وبروز «الرأسماليين الجدد» الذين يصعب تتبع أصول ثرواتهم المفاجئة التي يكتنفها الكثير الكثير من الشكوك، ودون الأخذ بعين الاعتبار تضرر قطاعات واسعة من الشعب السوري من عقابيل هذه السياسة الارتجالية. هذا من حيث النتائج، أما من حيث المبدأ فإن الحزب ضرب عرض الحائط هدفاً أساسياً من أهدافه الثلاثة ألا وهو الاشتراكية الذي يعتبر أحد «أسقف الحزب» التي لا يجب هدمها أو التنازل عنها لنقيضها تماماً. فمن المعروف أن الأحزاب الاشتراكية موجودة في جميع الدول من أغناها إلى أفقرها، وهي تخوض اللعبة الديموقراطية جنباً إلى جنب مع الأحزاب الليبرالية، وتحاول من خلال وصولها إلى السلطة أن تعدل من القوانين الاقتصادية والاجتماعية ما استطاعت وتكيفها لتتواءم مع رؤاها واستراتيجيتها في مجابهة جشع رأس المال، والانحياز للشرائح الأكثر فقراً وتضرراً في المجتمع.

إن التحديات التاريخية غير المسبوقة التي يعيشها الحزب في الظروف الحالية، والمخاض العسير الذي يمر به، يجب أن يتمخض عن ولادة جديدة سليمة ومعافاة، من خلال العمل وبشكل فوري في المؤتمر القطري القادم على تحقيق الأمور التالية:

– الوقوف على الأسباب الداخلية الحقيقية التي أدت إلى النزاع المجتمعي الذي نعيش تفاصيله حتى اليوم، والاعتراف بكل الأخطاء التي وقعت، ومحاسبة من وقف وراءها وإنصاف المتضررين.

– رفع أي تدخل أو سطوة خارجة عن إرادة الحزب الطبيعية، في ما يتعلق بالانتخابات أو التعيينات أو السياسات التي يتبناها الحزب ضمن مؤسساته.

– محاسبة من استغل نفوذه في المرحلة السابقة، ممن تبوأوا مناصب في مؤسسات الدولة أو الحزب، وانغمس في الفساد السياسي أو الاقتصادي أو سبب ظلماً لشخص أو فئة معينة، وليكن القضاء الحكم والفيصل.

– إعادة صياغة رؤية الحزب إلى الدولة، والعمل على فصل السلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية، وتكريس القضاء كسلطة عليا في المجتمع والدولة، لا تخضع إلا لقوة الدستور والقانون.

– نقد تجربة الحزب كقائد للدولة والمجتمع، واعتبار فشلها نتيجة منطقية وطبيعية، لأن أي حزب هو تكثيف لأهداف وأفكار ورؤى تعتمل في المجتمع المتعدد، ولا يمكن لأي حزب مهما ادعى، أن يمثل الغالبية الساحقة من أفراد المجتمع.

– إعادة هيكلة البنية التنظيمية الداخلية للحزب، ووضع آليات انتخابية تعكس حياة ديموقراطية حقيقية تعيده إلى أحضان الشعب.

– تكريس مبدأ تداول السلطة في فكر الحزب، والنظر إلى الدولة كبنية فوقية جامعة لجميع أطياف المجتمع، وما تحمله من أفكار متنوعة وأحياناً متصارعة، واعتبار تداول السلطة بمثابة صمام الأمان الذي يحفظ السلم والأمن الأهليين.

– إعادة الاعتبار للاشتراكية مقابل «اقتصاد السوق الاجتماعي» الذي أثبت فشله، وأدى إلى تفاقم الأزمات في المجتمع.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى