صفحات الثقافة

لكل شاشة لبنانية “سورياها”

عامر أبو حامد

المتابع للقنوات الفضائية اللبنانية منذ انطلاقة الثورة السورية حتى اليوم، في ختام عامها الثاني، لا يخلص إلى شأن سوري واحد إنما إلى شؤون، تتنوع مستويات تناولها والمواقف الكامنة خلف معالجتها، بل ويتباين “الحدث” بتناقضاته بين قناة وأخرى.

والتباين بين التوجهات الإعلامية اللبنانية ليس مستغرباً، في ظل تباين المواقف السياسية من الملف السوري، وشبه غياب لإعلام لبناني مستقل.

 التفاوتات الإعلامية اللبنانية لا تنحصر في المواقف السياسية من الحدث السوري، بل تتجاوزه إلى اختزال الشأن السوري في رؤية لبنانية ضيّقة تخصُّ هذه الجماعة أو تلك. اختزالٌ يبدأ عند نشرات الأخبار ولا ينتهي عند توقعات المُنجّمين!

 إرباك أول

لم تكن اللحظةُ الأولى للثورة السورية خفيفةُ الظل على الإعلام العربي عموماً. إذ اعتُبرت اللحظة الأكثر إرباكاً، لسببين: الأول حساسية سوريا الجيوسياسية، والثاني علاقات النظام المُتشعبة والمعقّدة بمحيطه السياسي. هكذا، أربكت اللحظات الثورية الأولى الفضائيات العربية واللبنانية. فتلفزيون المُستقبل مثلاً، تناول الحدث السوري في أيامه الأولى بأخبار منقولة عن وكالات الأنباء وعن قناة “العربية”. ثم، بعد أسابيع، لجأ إلى بثّ تقارير على هامش الحدث، إن أمكن القول، فأضاء على اللافتات والتظاهرات السلمية والشعارات على الجدران. ويكاد يكون خطاب الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز، الموجه إلى الشعب السوري، هو ما حسم الموقف السعودي المُلتبس في بدايةِ الأمر من الثورةِ السورية، وكأنه كان الضوء الأخضر لتغطية تلفزيون المستقبل ما يحدث في سوريا بالتفصيل.

أما بالنسبة إلى قنوات “إن بي إن” و”أو تي في” و”المنار”، فكان موقفُ هذه القنوات مُسبقاً وجاهزاً من الثورة. عمل أصدقاء التلفزيون السوري وقناة “الدنيا” على أبلسة الحراك السوري منذ يومه الأول. ولأن هذه القنوات لم تمتلك المعطيات الكافية لإدانة الثورة في البداية، بدا الارتباك أيضاً واضحاً في نشراتها الإخبارية، وبرامجها الحوارية. فانتشرَ على يوتيوب، خلال الشهر الأول للثورة، مقطع لمشارك مصري ينسحب من برنامج حواري على قناة المنار احتجاجاً على عدم السماح له بالتحدث عن الوضع في سوريا. وفي الوقت ذاته، لم يرَ ميشال عون، رئيس تكتل التغيير والإصلاح و”راعي” قناة “أو تي في”، حرجاً في وصف ما يحدث في سوريا بالمؤامرة الدولية لضرب المُقاومة وزعزعة الاستقرار.

من جهة أخرى، اعترفت “إل بي سي” بالثورة السورية منذ البداية تقريباً، وسمّتها باسمها، من دون موقف أيديولوجي أو طائفي. ركّزت “المؤسسة اللبنانية للإرسال” على الشقّ المدني والعلماني للحراك السوري، وحافظت على نوع من الموضوعية، حاولت أن تُحاكيها “إم تي في” أيضاً، وإن بدرجةٍ أقل.

 مسمّيات

مع استمرار الثورة السورية وتفرّع مُكوناتها العسكرية والمدنية، ومؤخراً الإسلامية، تشعّبت أيضاً مواقف بعض الإعلام اللبناني إلى مآلات لا رجعةَ فيها. فبعدما استقرّ الضجيج في “تلفزيون المستقبل”، واتّحدت قناتاه في بثّ واحد، شهدنا تغيرات في تسميات المُعطيات والوقائع السورية. فأصبح الجيشُ النظامي السوري “كتائب الأسد”، والثورةُ تتبلور شعارات إعلامية عدة آخرها “بداية النهاية”. ومؤخراً تُفرد نشرة إخبارية مسائية خاصة بالحدث السوري، إضافة إلى حضور هذا الحدث في البرامج الحوارية السياسية والاسكتشات الساخرة.

الصورة معاكسة على شاشة “المنار”، التي تختزل المشهد السوري في المقاومة اللبنانية والصراع مع إسرائيل. وتركز القناة في تقاريرها على كل ما يؤكد “المؤامرة” ضد المقاومة مع محاولة النيل من سمعة شخصيات معارضة، بإلصاق تُهمة العمالة لإسرائيل بهم.

أما الإضاءات الأبرز للقناة، فهي قضايا إما تتعلق باللبنانيين عامة كقضيّة المخطوفين أو تلك المتعلقة بالطائفة الشيعية فقط، كالأوضاع في منطقة الست زينب ذات الغالبية الشيعية في دمشق مثلاً، حيثُ يتجول مراسل المنار بين الناس المُطالبين الجيش السوري بحمايتهم.

لا يخفى على أحد أن “المنار” هي صوت الحليف الأكثر التصاقاً بالنظام السوري، أي “حزب الله”، وهذا ما تفخر به القناة. هنا، يبدو السوريون في ثورتهم، والنظام في عُنفه، حلقاتٌ صغيرة في لعبة أكبر بين المقاومة اللبنانية والعدو الإسرائيلي الذي، من وجهة النظر الممانِعة، يريد إسقاط النظام السوري لإسقاط المُقاومة.

في الوقت ذاته، ازدادت حساسيةُ “أم تي في” تجاه العنف في سوريا ووجدت نفسها مضطرةً إلى ترك مسافة أمانٍ بينها وبين الثورة، لتُسمي ما يحدثُ بـ”النزاع في سوريا”. بينما احتلت “أو تي في” المرتبة الأولى في المزايدة مسيحياً في المنطقة، حيث لا تنفكُّ نشرات الأخبار العونية تُبالغُ في الحرص والأسى على مصير المسيحيين السوريين المهددين من قبل المتطرفيين الإسلاميين في المعارضة السورية. وفي هذا السياق أصبحت قرية ربلة، ذات الغالبيّة المسيحية، في ريف القصير، ذريعة للمراسلين لتكرار تقارير عن مصير المسيحيين المجهول في سوريا.

أطلقت “أو تي في” على ما يحصلُ “الخريف العربي”، وهذا ما لم تستطع “المنار” أو”أن بي أن” فعله بسبب حرجهما من اتّخاذهما مواقف مؤيدة للثورات التي سبقت الثورة السورية، خصوصاً في ليبيا، ربطاً بقضيّة الأمام المُغيب موسى الصدر، إضافة إلى الثورةُ البحرينية.

 “على الحافر وعلى المسمار”

لم تُغيّر الثورة الأداء المتناقض لتلفزيون “الجديد”. استمرّت سياسة المد والجزر في تغطية الحدث السوري. ثم جاء مقتل مصور القناة علي شعبان (الشاب الموالي لبشار الأسد)، امتحاناً للمؤسسة التي قررت شنّ حملة شرسة على النظام السوري، استثنت منها الرئيس وركزت على الإعلام السوري وشخصياته. وحافظ “الجديد” على موقفه هذا، لفترة قصيرة، كأنه يحفظ ماء الوجه لكوادره، خصوصاً بعد تصريحات النظام الذي استهزأ بقضية مقتل شعبان واعتبرها ملفّقة. لكن “الجديد” عاد مؤخراً إلى “توزيع البيض” على السلال كلها، فينتقد المُعارضةَ هنا، ويضربُ النظام هُناك. هكذا يخرجُ “الجديد” رابحاً، سقط الأسد أم بقي.

قد يكون ما يميّز قناة “الميادين” التي تبث من بيروت، عن بقية القنوات اللبنانية المؤيدة للنظام السوري، هو انفتاحها على المعارضة السورية. ورغم أنّها تمارس لعبة “معارض ضعيف – موالٍ قوي” في برامجها، إلّا أن ذلك يكسبها شيئاً من الموضوعية. وتتمسك “الميادين” بانتقاد عسكرةِ الثورة وممارسات الثوار. هكذا تبدو القناة الأكثر ذكاءً بين زميلاتها في الفئة “السياسية” هذه، لأنها تسلكُ طريق المهنيّة لتمرير رسائل سياسيّة. وفي ما عدا ذلك، لا تطرحُ القناة أي جديدٍ عن مثيلاتها. فهي نسخةٌ مصغرة عن “الجزيرة” (من حيث الشكل) وصورة مُكبّرة عن “المنار” (في السياسة الموجهة إلى جمهور عربي أعرض).

هكذا، ينقسمُ الحدثُ الكبير، في لبنان، أحداثاً صغيرة، على مقاسِات الطوائف والأحزاب. وتغدو القضايا الكبرى سطحيّةً ومحدودة الأفق بمعادلات سياسيّة وطائفيّة باتت غير صالحة للاستعمال في زمن “الربيع العربي”. ما لم يستطع الإعلام الُلبناني إدراكه بعد، أن المشهد السوري الواسع لا يُمكن اختزاله في الضاحيّة الجنوبيّة أو الطريق الجديدة، بيد أن الأخيرتين لا تنفكّان تؤكدان كلّ يوم أنّهما رهينتا الحدث السوري.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى