صفحات العالم

مقالات تناولت قضية ميشال سماحة

 

هيمنة ثم سيطرة ثم… ميشال سماحة/ سامر فرنجيّة

من الصعب تحديد المعنى أو المغزى السياسي لعملية «الإخراج القضائي» للتسريبات المصوّرة لميشال سماحة، والتي ستنتهي بعد بضعة أشهر بخروجه حراً ومجرّداً من حقوقه المدنية. من الصعب تحديد هذا المغزى لكون «كلفة» إخراج كهذا تفوق أي مكسب قد يحقّقه حلف الممانعة من جراء تحرير سماحة، خصوصاً بعدما ارتبطت شخصيته بصورة آكل الصبّير المؤامراتي.

فمن المستبعد، وإن لم يكن مستحيلاً، أن يعود سماحة إلى السياسة، كائناً ما كان تعريفنا لمفهوم السياسة، وهو المحكوم عليه قضائياً بتهمة «إدخال مواد متفجرة من سورية» إلى لبنان تهريباً، أي بتهمة الإرهاب والتفجير والاغتيال.

ولا تكمن صعوبة «إعادة تدوير» سماحة سياسياً في كونه خطّط لاغتيالات أو تفجيرات بالتنسيق مع النظام السوري. فتهمة كهذه تطاول عدداً من حلفائه، كما تشير اتّهامات المحكمة الدولية، والتي باتت حاجة أكثر إلحاحاً اليوم بعد فضيحة القضاء العسكري هذه. فمشكلة سماحة في صورته وهو يخطّط لاغتيالات وتفجيرات، وهو ما وضع اسماً ووجهاً على صيغة المجهول التي واكبت العنف و«أحداثه» في لبنان. فهناك، في مكان ما رجل يدعى ميشال سماحة، يأكل الصبّير تحت القناطر وهو يخطّط لأحداث نجح اللبنانيون في الماضي بالتعايش معها لكونها مجهولة الفاعل. بيد أنّ التسريبات قضت على هذا المَخرج المعرفي للأزمة الأخلاقية المتعلّقة بالعيش في حالة عنف، واضعة الجميع في وجه حقيقة فادحة وفاضحة، قد لا يستطيعون تخطّيها. فبات ميشال سماحة هو «الآخر» في حروب الآخرين على أرضنا، و«الغريب» الذي دخل إلى الضيعة خلسة، و«صاحب الجسد» التي تنتمي إليه يد الغدر، وأحد «وطاويط الليل» التي تزرع القنابل في مكعبات النفايات. بات، بكلام آخر، الفاعل الوحيد في تاريخ رُوِي في صيغة المجهول، وهذا ما يجعل إعادة تدويره عملية مستحيلة، هذا إن لم تُعد صياغة الرواية بأكملها.

غير أنّ لا شيء مستحيلاً على المؤسسة العسكرية، التي أخذت على عاتق قضائها إعادة تدوير من لا يُدوّر، بقرار من قاض لم يظهر على الإعلام إلاّ محمولاً على الأكتاف لنجاحه في مهمته المستحيلة هذه. وقد يكون لهذا القرار، الذي قد يستأنف أو لا، أثر أكبر على الإجماع اللبناني شبه المعدوم من أثره على أي من التسريبات، كونه «طبّع» انتهاك سماحة للعقد الرمزي والخطابي القائم على عدم الإفصاح عن هوية الفاعل.

فهذا القرار لم يطبّع الانتهاك فحسب، بل يمكن القول إنّه كافأه من خلال فرض عقوبة هزيلة، على الأرجح دافعها الرئيسي بعض من الحياء المتبقي في مكان ما من أروقة المحكمة العسكرية أو الحمّام العسكري. فقد كرّس القرار الانتهاك وشرّع عملية دفع حدود المقبول إلى مستويات قد لا يتحمّلها الإجماع شبه المعدوم أو المؤسسة العسكرية ذاتها.

فالسؤال، إذاً، عن جدوى قرار كهذا وثمنه الباهظ، هذا إذا لم يكن مجرّد هفوة ارتكبها القضاء العسكري. فمع قرار كهذا، يكون حلف الممانعة قد كسر عقداً ضمنياً كان يشكّل الحد الأدنى لهيمنة حزب الله على البلد، وهو السماح للخصم المغلوب بمخرج لغوي أو خطابي لوضعه السياسي والأمني. فصيغة المجهول تؤمن للخصم إمكان تقبّل خسارته من خلال وضع بعض من المسافة بين الفعل والفاعل، ما يسمح للفاعل بحصد نتائج فعله من دون مسؤوليته، وللمفعول به بتقبّل الفعل والحفاظ على بعض من الاحترام للذات.

هذا هو سرّ الهيمنة، والفارق بينها وبين السيطرة.

ولفترة قصيرة، كان مشروع حزب الله يبدو وكأنّه يهدف إلى فرض هيمنة على البلاد، بأن يضيف إلى سيطرته الأمنية أبعــاداً سياسية وثقافية ومفهومية، تسمح بتطويع الخصم في نظامـــه. هذه التجربة ظهرت مع «ورقة التفاهم» ومن ثم «حرب تموز»، ومحاولات تدويل نصرالله من خلال ربطه صورياً برمـــوز كالرئيس الراحل شافيز أو لبنانياً من خلال زرعه لأرزة أو من خلال التمسّك بأي تصريح لفنان «يحب» نصرالله. بيد أنّ هــذا المشروع فشل، وعاد حزب الله، وهو ذاهب إلى سورية، إلى مشروع سيطرة بحتة، لا تحتاج إلى أكثر من خطة أمنية للإمساك بالأمور. ومع هذا التحوّل، «انحدر» نصرالله من مشروع زعيم للأمة إلى أحد الناطقين بلسان النظام السوري، وبات في «تقاعده» هذا، لا يختلف عن جوقة «المحللين الاستراتيجيين» التي خرجتّها المؤسسة العسكرية ذاتها.

وفي هذا المعنى، جاءت مسألة سماحة لتكرس سقوط مشروع الهيمنة وتحوّله إلى مشروع سيطرة بحتة. فقرار إخلاء سماحة ضرب لأي إمكان تلاقٍ بين الأطراف المتصارعة، بعدما اعترف وتباهى طرف بمحاولته قتل الآخر. في هذا السياق، فإن ميشال سماحة هو التكثيف الرسمي لمذيعة التلفزيون التي تمنّت امتداد الاغتيالات إلى من تبقى من أخصامها، ولموزّع البقلاوة الذي احتفل علناً بالقتل، ولزعيمهم السياسي الذي أضفى المجد على اليوم الأول من الحرب الأهلية الآتية. غير أنّ هذا القرار ضرب أيضاً المؤسسة العسكرية التي حاول البعض تمريرها بوصفها المؤسسة الأخيرة «الجامعة» في بلد انهارت مؤسّساته أو انقسمت بحسب الطوائف.

فقد أكّد القرار الأخير الشبهات حول مسألة انحياز الجيش اللبناني لطرف على حساب آخر، أو على الأقل اختراقه من قبل عناصر «ممانعة». وهنا أيضاً، ضحى حلف الممانعة بهذه المؤسسة المهيمنة ليحوّل ما تبقى منها إلى دكانة مسيطرة، قد تفي بدورها لفترة قصيرة من الزمن في القلمون أو عرسال، قبل أنّ تنتهي صلاحيتها.

… قد يكون سرّ الهيمنة في فن إخراج الربح كخسارة تسمح بتثبيت المكاسب من خلال إشراك الخاسر في جنازته. لم يتعلّم حزب الله الخسارة، بل بات مدمناً للربح وإن على شكل «هوبرة»، ليصبح أسير هذا الإدمان، على حساب هيمنته، وربّما، في وقت لاحق، سيطرته نفسها.

الحياة

 

 

 

 

علاج م سماحة لمشكلة م مرسي/ حازم صاغية

ليس ميشال سماحة فرداً. إنه حالة بل نهج. وما قد يبدو فيه تفاهةً ووضاعةً شخصيّين، حين يُنزع عمله عن سياقه الأعرض، لا يلبث أن يتبدّى، حين يُدرج في ذاك السياق، شيئاً آخر أخطر. ذاك أنّ داود الصغير إنّما يخفي، والحال هذه، جوليات عملاقاً.

فسماحة هو نظريّة بذل الغالي والنفيس دفاعاً عن النظام السوريّ الذي استهدفته أكثريّة شعبه، وتالياً إنقاذ المسخ اللبناني الملحق بذاك المسخ السوري الأكبر.

وبذل الغالي والنفيس هو العمل الأمنيّ المباشر قتلاً وترويعاً ومن غير رفّة جفن. وإذا كان ناقل الكفر ليس بكافر، فإنّ نقل وسائل الموت المادّية شيء آخر، وهو في حالتنا هذه يندرج في الخانة الإجراميّة التي تكتسبها الأشكال المعتمدة في مناهضة الثورة السوريّة. ففي المناهضة تلك، على ما بتنا نعلم جيّداً، يندرج الكيماويّ والبراميل والتفنّن في التعذيب، عطفاً على إشاعة «أفكار» لا تقلّ قابليّة للقتل.

وجاء الحكم المخفّف جدّاً على ميشال سماحة، سلاحاً آخر في هذه المناهضة للثورة، سلاحاً يتوسّل القوانين والمحاكمات ليثبت صحّة العبارة الشهيرة للسياسيّ الفرنسيّ جورج كليمونصو: «إنّ نسبة العدالة العسكريّة إلى العدالة كمثل نسبة الموسيقى العسكريّة إلى الموسيقى».

لكنّ مناهضة الثورة على النحو الموصوف، ليست حدثاً سوريّاً أو لبنانيّاً فحسب. إنّها حدث تُعنى به سائر البلدان التي لفحتها موجة الثورات ابتداء بـ2011. وفي المعنى هذا، فإنّ محمّد مرسي هو الآخر ليس فرداً بقدر ما هو حالة. لكنْ على عكس الوزير اللبنانيّ السابق، كان الرئيس المصريّ السابق علامة على عثرات الثورة وصعوباتها. هكذا بدا العلاج الوحيد المقترح لتلك العثرات علاجاً «سماحيّاً»، أي قراراً بإعدام مرسي، فضلاً عن لائحة طويلة من «إخوانه» وحلفائه.

وهنا أيضاً، تتعمّد مناهضة الثورة بالدم الكثير، بعد اعتذارات متوالية عن تلك الثورة بلغت ذروة أولى مع الانقلاب العسكريّ، وذروة أخرى في ميدان رابعة، وذروة ثالثة في تبرئة حسني مبارك. والذرى تتتالى متفوّقةً على ذاتها.

وفي التجربتين، السوريّة – اللبنانيّة والمصريّة، يتبدّى أنّ الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة توالي، حتّى حين تستعير ثياباً مدنيّة، النزول إلى الميدان نيابةً عن قوى اجتماعيّة وعن علاقات وأفكار متضرّرة من الثورة. وهذا لئن نمّ عن إعضال اجتماعيّ عميق، فلن يكون بلا معنى أن يُعالَج معالجة أحاديّة بتولّي الأجهزة المذكورة تلك المهمّة الناطقة بلسان القانون إنّما الفاعلة بموجب شهوة الدم.

فالعلاج «السماحيّ» هو إعادة الدولاب إلى ما قبل 2011 بأيّ ثمن كان. ولأنّ الأمر على هذا النحو، فلن يكون إتمامه ممكناً بغير الاستئصال والاجتثاث. وقد سبق لمصر في عهدها الناصريّ، وجزئيّاً في عهدها الساداتيّ، أن جرّبت الحلّ الاستئصاليّ، أي «السماحيّ»، لجماعة «الإخوان المسلمين» ومناصريها. وكما بالأمس، لكنْ على نطاق أوسع كثيراً، سينتشر الإحساس بالظلامة وانعدام العدل، وسيكثر «التوّابون» الذين يؤرّقهم إحساسهم بالذنب لأنّهم خذلوا الضحايا. وهذا ما لا بدّ أن يترتّب عليه تعاظم التفسّخ الأهليّ و «الوطنيّ» الضارب، من الضنّيّة وطرابلس إلى القاهرة والإسكندريّة، من غير أن ننسى الصابرين تحت البراميل القاتلة في سوريّة!

إنّ ميشال سماحة، بوصفه ظاهرةً ونهجاً في معالجة الثورات، هو الذي يمسك بالحبل، متلهّفاً إلى عنق محمّد مرسي.

الحياة

 

 

الأسد بدلالة سماحة/ عمر قدور

على أقل تقدير، حظي متابعو أوضاع المنطقة بمعلومتين عن الصحة العامة، فالفيديو المسرّب لميشال سماحة، وهو يخطط لتفجيرات إرهابية في لبنان، أظهره في أثناء ذلك وهو يمتدح فوائد الصبّار للمعدة. بعدها لم يتأخر زعيم حزب الله في شرح فوائد الليموناده للحَلْق والبلعوم، بخاصة لأصحاب المنابر، في استهلال خطابه المُعدّ لتطورات معركة القلمون والتمهيد لمعركة عرسال. الأمر قد لا يعدو كونه مصادفة، على رغم ما يُشاع عن نباهة “السيد” الذي يُفترض أنه صادف في صفحات العالم الافتراضي، وحتى على شاشات التلفزيون، تعليقات عن امتداح سماحة الصبّار بنفس الإيقاع الصوتي الذي كان يتحدث فيه عن جرائم كبرى.

لكن المكسب في ما خصّ التسجيل المسرّب لسماحة أكبر مما سبق، وهو متصل إلى حد ما بحديثه عن بشار الأسد وسيطرته على الأمور، وعلى رأسها الملف الأمني الذي صار خاضعاً له بكل تفاصيله، بما فيها مسألة دفع أجور العمليات الإرهابية التي كان سماحة يزمع تنفيذها. من ضمن هذه التفاصيل يشير سماحة إلى قوة الأسد، وعدم تأثير “المحنة” به، وهي إشارة واظب زوار الأسد، من أصدقائه اللبنانيين وغيرهم، على تكرارها للإيحاء بصلابة الأسد وعدم تأثره شخصياً بالأوضاع العامة في سوريا. في المقابل، دأب معارضون على تصيد المناسبات التي يظهر فيها الأسد، لتفحص التغيرات التي تطرأ على سحنته، من تجاعيد على الوجه أو اليد، أو تلعثم إضافي في الكلام، لتفنيد رواية أصدقائه ومن ثم إظهاره كشخص يستشعر الخطر.

بالعودة إلى الوراء، كان من أهم ما عزز يأس عموم السوريين من إصلاح النظام خطاب بشار الأسد في “مجلس الشعب” في تاريخ 30/3/2011، حينها كان المأخذ الأول دخوله قاعة المجلس ضاحكاً ضحكة عريضة جداً وسط الهتافات المؤيدة، بعد سقوط عدد كبير من المتظاهرين السلميين برصاص قواته، وقبل ذلك اقتلاع أظافر طلاب مدارس في درعا في فرع المخابرات الذي يرئسه ابن خالته. لم يُظهر الأسد أدنى تأثر وقتها، بل خرج ليتهم السوريين بالعمالة وما إلى ذلك من الأوصاف التي ستتكرر خلال أربع سنوات، وعلى رأسها وصفه لهم بالجراثيم التي من المنطقي القضاء عليها.

على رغم ذلك، وهذا وحده ما يبرر ترقب وفضول بعض المعارضين إزاء إطلالة الأسد، بقي من غير المفهوم أن يتمتع شخص، أي شخص على الإطلاق، بسلبية مطلقة تجاه مصير مئات الآلاف، وأن يوعز بقتلهم وتدمير مدنهم وقراهم بأعصاب باردة! بخلاف الخبرة المكتسبة من تجارب الطغاة والجبروت التاريخية، وحتى الخبرة المكتسبة من علم النفس الجنائي، بقيت الحيرة ماثلة أمام هذا النوع من السلوك، وهي حيرة إذا جرى تفكيكها بالعقل ظلت ماثلة في الوجدان الذي لا يقبل الاعتياد على تفسيراتها. إننا نكاد نكون أمام المنطق ذاته مقلوباً، فالقاتل تيسيراً لأمر جرائمه يصف البشر بالجراثيم أو الجرذان… إلخ، بينما يعزّ على الضحية رؤية قاتله بشراً وهو يتمتع بهذا القدر من الوحشية، أو ربما يتلذذ به كما يتلذذ بطعام يتناوله في أثناء جريمته أو في أثناء التحضير لها.

فيديو سماحة يطرح أمامنا تصورات مغايرة عن رغباتنا البشرية المعتادة، إذ يمكن لنا، على سبيل المثال فقط، تخيل ما جرى ليلة الأربعاء 21/8/2013. لنقل مثلاً إن رأس النظام “بصفته القائد الأعلى للجيش” أرسل أوامره لقائد اللواء 155 كي يطلق في الثانية ليلاً هجوماً بالصواريخ الكيماوية على غوطة دمشق. لن يكون من الشطط أن نتخيله يفعل هذا وهو يتناول عشاءه، وربما يمتدح سَلَطة الجرجير، وهو الأقدر على تعداد فوائد الأخير بحكم تخصصه الجامعي. ربما كان يحتضن ابنته أو ابنه في أثناء إطلاقه الأمر عبر التلفون، وربما استمر بملاعبته وهو يصدر أمراً آخر صارماً يقضي بألا يوقظه أحد قبل التاسعة صباحاً مهما حصل. ربما لم تكن سلطة الجرجير، ربما هو طبق العجة المصنوع من الخضار والبيض، وقد يتذكر أنه أكل هذا الطبق يوماً في زيارة إلى مدينة حلب، حلب الناكرة لجميل تناوله العجة فيها والتي تستحق تدميرها بالبراميل.

الإعجاب الذي يبديه سماحة بالأسد ومملوك، معطوفاً على أعصابه الهادئة وهو يتحدث حتى عن الضحايا غير المستهدفين، يدفعان إلى الظن بأن مثَله الأعلى يبزّه بهدوء الأعصاب. ومع أننا لا نعلم بعدُ شيئاً عن الجلسات التي كانت تجمعه بالرجلين إلا أن تفاصيل حديثه توحي بماهيتها. جلسات قد لا تخلو من تبادل المعلومات حول أكثر المأكولات صحيةً، جنباً إلى جنب مع الحديث عن أكثر المتفجرات دماراً وتقنية، وعن سبل التخلص من المخبرين الصغار الذين سيشاركون في نقلها واستخدامها. سيكون من باب الاستخفاف بالواقع إذا استنجدت مخيلتنا بشخصية مايكل كورليوني في فيلم “العرّاب”، فمجمل ما اقترفه الوريث الأخير من بشاعات لا يضاهي ما نحن بصدده.

على صعيد متصل، نكاد لا نعلم الكثير عن ذائقة هتلر باستثناء ما هو مشاع عن إعجابه بموسيقى فاغنر، وقد نالت هذه المعلومة تمحيصاً وبحثاً واسعين على حساب ما هو متداول من أنه كان نباتياً في غذائه. ولأن الشي بالشيء يذكر، ربما نكون قد خسرنا القذافي قبل أن يشرح لنا فوائد الجزر.

المدن

 

 

 

 

رفعت الجلسة/ فاطمة ياسين

تُعقدُ في وقت واحد ثلاث محاكمات مهمّة، لها أشكال متباينة قد يصعب فض الاشتباك بين الأدلة السياسية والجنائية فيها، خصوصاً عندما تُنظَر أمام محاكم استثنائية (دولية، عسكرية، أمن دولة..). ولأن ممارسة السياسة لا تقتصر دائماً على القفازات البيضاء، فنجدها، اليوم، تُمارس بأقصى أشكال العنف، وتُستخدم فيها أسلحة دمار شامل، ويحشد لها مئات الجنود المدججين بالأسلحة، فسياسة الأحزاب الحالية لا تعترف إلا بحالة النصر، بشكله الكامل الشامل الناجز الذي يتمثل بالوقوف على جثة الخصم المضرجة، طقساً قضائياً يسدل الستار على المشهد، فهنا استبدلت السياسة رداءها الناعم المتخم بأقوى حالات المنطق، المخادع أحياناً، وحولته إلى مجرد عنف متبادل، بشكله الصرف.

محاكمة قتلة رفيق الحريري المفترضين تجري بشكل شبه كاريكاتوري، والمتهمون غائبون “حاضرون”، يسود جو المحكمة جلال العدالة الذي تبدده بين فينة وأخرى خفة دم القضاة والشهود، وكذلك المدّعون العامون، فأصبحت جلسات هذه المحكمة المفتوحة مرافعات سياسية، يمارس فيها الشهود ومحامو الدفاع والادعاء الدعاية للأطراف السياسية المتصارعة. من خلال الحالة الماراثونية للمحاكمات المتقطعة قد تنال هذه الدعوى لقب أطول قضية في التاريخ، والسبب أنها قضية سياسية بامتياز، تستوعب كل المتغيرات التي تعصف، تدريجياً، بالمنطقة، والتي تتداخل، بشكل مؤثر، في مساراتها. من الممكن، أيضاً، ألّا يقفل باب المرافعة في هذه القضية، حتى يتم حل كل الإشكاليات التي نشبت في المنطقة، منذ بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.

القضية التي حسمت هي محاكمة ميشال سماحة، النائب والوزير اللبناني السابق، وقد تم القبض عليه “متلبساً” وبحوزته مواد شديدة الانفجار. كان يظهر بارداً وهو يسلمها لشخص آخر، ويوجهه إلى زرعها في أي مكان. نال “السياسي” السابق والمجرم الحالي تخفيفاً نزع كل الدسم عن الحكم، فصدر بأربع سنوات ونصف، ويبدو أن النصف جاء إضافةً في محلها، حتى لا يخرج المجرم فوراً من المحكمة إلى قصره، لأن الأربع سنوات كان الوزير قد قضاها مسجوناً في انتظار الحكم. لذلك، عليه أن ينتظر سبعة أشهر، قبل أن يصبح “حراً”. جاءت هذه المحاكمة العسكرية لطيفة، وترافق الحكم، خفيف الظل، بحرمان سماحة من حقوقه المدنية، ما يعني أنه لن يتمكن من أن يعود نائباً أو وزيراً. ليس الأمر فريداً، فهذا حكم قد وقع، بشكل غير مباشر، على كثيرين ممن كانوا، على شاكلة سماحة، أدوات طيعة أو قفازات لينة في يد رستم غزالي، أتاهم الحكم نفسه، على يد النظام السوري. تقول القراءة السياسية للحكم إن الحزب اللبناني الممول إيرانياً، والذي يخوض حرباً شرسة في سورية، مازال قوياً، ولديه أصابع حديدية، تمتد إلى ركن مهم من أركان الحياة اللبنانية، هو القضاء.

القضية الثالثة المتزامنة مع موجة “العدالة”، والتي تلف أروقة السياسة، هي قضية محمد مرسي العياط، فقد حول قاضٍ أوراقه إلى المفتي، وهذه عبارة حقوقية تعني أن الرجل حُكم عليه، عملياً، بالإعدام، ولم يبق إلا تصديق شكلي من الجهات الشرعية. قضى الرجل بعض الوقت رئيساً لمصر، وانتخبه نصف الشعب المصري زائد واحد، ثم ما لبث أن نزل “كل” الشعب المصري إلى الشارع، مطالباً بتخليه عن الحكم. استجاب قائد الجيش، آنذاك، للجماهير، وأَجبر مرسي على التنازل، وجلس مكانه على كرسي الرئاسة، ثم وبحركة هزلية، وضربة شبه قاضية، تحولت أوراق الرجل إلى المفتي.

“العدالة” هي القيمة الاجتماعية التي يجري انتهاكها بتمييع المداولات الحقوقية، انتظاراً لنضوج حل سياسي، أو بأحكام تكاد لخفتها أن تطير، وقد يمكن اعتبارها مكافأة للمجرم، أو تكاد لقسوتها أن تصيب بالصدمة كلَّ من يستمع إليها. في وسط هذا الغليان القانوني، يتصدر وكالات الأنباء خبر مريع يقول “مقتل ثلاثة قضاة في سيناء”، فلعل وكالات الأنباء بحاجة إلى تصحيح خبرها الدموي إلى خبر آخر يقول “الجلسة مازالت مستمرةً”.

العربي الجديد

 

 

 

 

سماحة ومرسي وإصلاح القضاء/ زيـاد مـاجد

حدثان “قضائيان” في لبنان ومصر قدّما صورة عن أحوال قانونية وسياسية مهترئة في منطقتنا، وذكّرا بأن إصلاح القضاء واستقلاليته مهمّة لا ينبغي التأخّر في الخوض بها وفي تنظيم الحملات بخصوصها.

ففي لبنان، أصدرت المحكمة العسكرية قراراً قضى بسجن الوزير السابق ميشال سماحة، المُدان بجريمة نقل عبوات ناسفة وأموال من دمشق الى بيروت بهدف تنفيذ تفجيرات وقتل مدنيين وروحيين واغتيال سياسيين، والمُعترِف بجريمته والموثَّقة تعليماتُه في ما يخصّ نشر الارهاب بالفيديو، مدة أربع سنوات ونصف فقط. ولم تأتِ المحكمة (بالطبع) على ذكر من زوَّد سماحة بالعبوات الناسفة وعدّة القتل، اللواء في المخابرات السورية علي مملوك، ولا راعي العملية والمسؤول عنها بحسب سماحة نفسه بشار الأسد.

وبما أن سماحة قد أمضى قرابة الثلاث سنوات في السجن حتى الآن، فالمتبّقي أمامه هو سنة وبضعة أشهر لا غير، في حين إن ما قام به قد يرقى الى الخيانة العظمى، أو على الأقل الى التخطيط لأعمال إرهابية وإجرامية والمباشرة في تنفيذها (إذ إن وقف التنفيذ جرى من قبل المخبر ميشال كفوري)، بما يستحقّ عقوبة السجن لعقود.

أما في مصر، فقد حكمت محكمة جنايات القاهرة على الرئيس محمد مرسي بالإعدام. ومرسي، الرئيس المدني الوحيد والمنتخب ديمقراطياً في التاريخ المصري، خلعه انقلاب عسكري قاده الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، وتخلّله قتل لمئات المدنيّين المعتصمين في أكثر من ساحة عامة، وتبعه توقيف لآلاف الناشطين السياسيين الإسلاميين ولمئات اليساريين والمستقلّين ممّن أطلقوا الثورة ضد حكم مبارك في مطلع العام 2011.

وقرار المحكمة هذا يأتي بعد أكثر من ألف قرار إعدام مشابه بحقّ أعضاء في تنظيم الإخوان المسلمين أو مناصرين لهم جرت “محاكمتهم” بتهم مختلفة، وفي وقت عرفت فيه محاكمات الرئيس الأسبق حسني مبارك وعدد من معاونيه قرارات تبرئة أو إدانة خجولة بدت استكمالاً للثورة المضادة التي أنجزها الانقلاب صيف العام 2013.

ماذا نستخلص من هذين الحدثين “القضائيّين”؟

أوّلاً، أن الحديث عن إصلاح القضاء وتأمين استقلالية السلطة القضائية ليس قضية تقنية ولا هو يأتي بعد الإصلاحات السياسية والاقتصادية المطروحة أو المطلوبة في منطقتنا. بل هو أولوية الأولويّات، فلا معنى لأي تغيير إن لم يكن القضاء من بعده مرجعاً يحتكم الناس إليه فيُعيد لهم الثقة بالقانون وبفلسفة العدالة.

وهذا يتطلّب بالطبع حملات مدنية وضغطاً يقوم به القانونيون المستقّلون، وتواصلاً مع المؤسسات الحقوقية الإقليمية والدولية ووسائل الإعلام. وليس الأمر بالسهل ولا هو قابل للتحقّق سريعاً في ظل معظم الأنظمة السياسية القائمة. إنما لا بدّ من التركيز عليه واعتباره شرطاً شارطاً لتحصين أي إنجاز سياسي أو مجتمعي.

ثانياً، أن كفّ يد القضاء العسكري عن الشؤون غير المتعلّقة بالعسكريّين أمر ملحّ. فكفاءة المحاكم العسكرية علمياً مشكوكٌ بها، ولا شأن لها أساساً في شؤون المدنيّين، فكيف وأنها جزء من تركيبات سلطوية في عدد من البلدان حيث ما زالت نخب عسكرية تمسك بالحكم وتستخدم جميع الأساليب للتنكيل بخصومها.

ثالثاً، إن عقوداً طويلة من النظم الشمولية والفساد و”قوانين” أجهزة المخابرات نخرت الأجسام المؤسساتية بمعظمها، ونخرت أيضاً الكثير من العقول التي صارت تبرّر أحكاماً فضائحية ترقى في ذاتها الى حدود الجرائم.

الحُكمان على سماحة ومرسي يذكّراننا إذاً، على اختلافهما، بهشاشة قوانين ومطواعية محاكم لإراداتٍ سياسية ومخابراتية. ومواجهة هذا هي مهمّة تختصر لوحدها اليوم الكثير من مهام الكفاح ضد الاستبداد والطغيان.

موقع لبنان ناو

 

 

 

 

نصرالله وعون إذ يتجاهلان “قضية سماحة”/ عبد الوهاب بدرخان

كان يمكن الأمين العام لـ”حزب الله” أن يضيف ثلاث عبارات الى ما قاله عن معركة القلمون، لا ليكون مقنِعاً بل ليكون واقعياً. الأولى: نحن مَن استدرج “القتلة” و”الارهابيين” الى القلمون لذلك كان علينا تصحيح الخطأ الذي ارتكبناه. الثانية: نحن حاولنا بل ألححنا لإقحام الجيش اللبناني، لكنه امتثل لدولته التي ترفض التورّط خارج الحدود. والثالثة: نحن ننتمي الى دولة اخرى وذهبنا الى القتال في سوريا بأوامر من ايران، شاء اللبنانيون أم أبوا… وفي النقطة الأخيرة جاءت التزكية من علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد، معتبراً أن “انتصارات القلمون” تؤدي الى “تقوية محور المقاومة والممانعة ليس فقط في سوريا ولبنان وانما في المنطقة”. ذلك أن هذا المحور يشعر حالياً بحاجة الى “تقوية” لأن حجته المعنوية باتت أضعف من حججه العسكرية – الارهابية على النحو الذي ظهر في العراق وسوريا واليمن.

تجاهل السيد حسن نصرالله، تمثّلاً بالعماد ميشال عون، الحكم – المسخرة في قضية ميشال سماحة. فالعقل الذي برر مشاركة النظام السوري في قتل شعبه هو نفسه العقل الذي يتضامن مع “رفيق مناضل” كان يدبّر لمجازر طائفية. لم يسكت عون ونصرالله لأنهما مع استقلالية القضاء بل لأن “لا استقلالية” القضاء العسكري و”لا عدالته” تناسبهما تماماً. قال سماحة بهدوء وبساطة إنه لا يهتم لمقتل هذا المفتي أو ذاك النائب بل المهمّ تحقيق رغبة “علي والرئيس” (المملوك والاسد). كان لديه هو الآخر “مهمة جهادية” لذا كان لا بد من الثأر له باغتيال وسام الحسن، ثم كان على قضاء كهذا أن يكافئه لا أن يعاقبه. لم ينسَ نصرالله وعون حقدهما غير المبرر على “شعبة المعلومات” التي كشفت عملاء لاسرائيل في صفوفهما وأجهضت فتناً دبّرها النظام السوري وكانا مستعدّين للتغاضي عنها ما دامت تستهدف خصومهما. لذا وجب السؤال لنصرالله وعون: هل سماحة مجاهد أم ارهابي؟ من الواضح أن الأمر يحرجهما لشدّة وضوحه.

ظنّ نصرالله أنه يحرج خصومه حين يكرر السؤال هل المسلحون في القلمون “ثوار أم ارهابيون”؟ ولو أنه وبشار الاسد ومرجعيتهما الايرانية تواضعوا مرّة واعترفوا بوجود ثوار في سوريا لبدا سؤاله مشروعاً، لكن افراطه في استغشام اللبنانيين جعله يعتقد أنهم لا يميّزون بين الثائر و”النصروي” و”الداعشي”، بل يميّزون، ويعرفون أن “حزب الله” يقاتل في القلمون لهدفين: تخفيف الضغط الذي يتعرّض نظام الاسد في دمشق، وإبعاد الخطر عن مواقع لـ”الحزب” كان يجب أن تكون في عهدة الجيش اللبناني. واذا هوجمت، وهي في يد الجيش، كما في عرسال وجرودها، فلن يجد أي لبناني حرجاً في استعداء المهاجمين بلا أي تمييز.

النهار

 

 

 

 

 

“حزب” ميشال سماحة؟!/ حـازم صـاغيـّة

معروف أنّ ميشال سماحة، الذي صدر مؤخّراً الحكم الفضائحيّ عليه، كان ذات مرّة كتائبيّاً، بل قطباً في الكتائب. لكنّ هذه الأسطر تزعم أنّ سماحة انتمى إلى “حزب” آخر لم يوجد بصفته هذه، بل وُجد مبعثراً في أحزاب وتيّارات مسيحيّة عدّة في عدادها الكتائب.

ما مقوّمات هذا الحزب؟

أوّلاً، الخوف، بل الخواف، حيال التعايش مع المسلمين، وهذا على عكس الموقف التاريخيّ للكتائب الذي شهد أوضح تجلّيه في العهد الشهابيّ. أمّا طرد هذا الخواف فيوفّره، لا سيّما بعد فشل تجربة التعاون مع إسرائيل، الاستقواء بقوّة عربيّة مجاورة. ولمّا كانت سوريا محكومة أقلّيّاً، فهذا ما أعطى الاستقواء قوّة الضمانة.

لكنّ طرد الخوف قد يتأتّى أيضاً من علمنة متطرّفة وصارمة وفوريّة “تصهرنا” جميعاً في كلٍّ وطنيّ أو قوميّ واحد. ولمّا كانت العلمنة التي من هذا النوع لا تتبدّى إلاّ بزيّ عسكريّ مرقّط، زادت الثقة بقدرتها على توفير الضمانة. يمكن أن نتذكّر، هنا، الحزب السوريّ القوميّ مثلاً.

ثانياً، إنّ هذا “الحزب” غالباً ما يقف على يسار الموقف المسيحيّ التقليديّ. نتذكّر هنا، مثلاً لا حصراً، النزعة “الإصلاحيّة” المنسوبة إلى إميل لحّود، و”يسار” الكتائب، و”اجتماعيّة” الحزب السوريّ القوميّ، ودور إيلي حبيقة في “الاتّفاق الثلاثيّ” أواسط الثمانينات بوصفه بديلاً عن “القوى التقليدية”. والحالات المذكورة تنطوي كلّها على قابليّة انقلابيّة مردّها التفلّت من ضغوط قاعدة شعبيّة ضعيفة أو غير موجودة.

الخطّ هذا لا يُعدم أفكاره مجسّدةً بالاستلهام الدائم والمديد لقاموس “نهضويّ” مبسّط تترادف فيه تعابير “عثمانيّ” و”مستبدّ” و”إقطاعيّ” و”متخلّف”…

ثالثاً، من مواصفات ذاك “الحزب” استعداده الدائم لتخصيب نظريّة المؤامرة حيال الغرب، ولا سيّما أميركا. وربّما كمن في خلفيّة الاستعداد هذا شيء ضامر من تقاليد المسيحيّة الشرقيّة، لكنّ المؤكّد أنّ هذا الغرب، حتّى حين يكون صالحاً، يبقى أقلّ من قدرة سوريّا الأمنيّة والعسكريّة على توفير الضمانة.

فهذا “الحزب”، وعلى عكس التقليد المسيحيّ الذي يطلب الضمانة من الغرب، يرى أنّ الغرب بعيد، وأنّه ديمقراطيّ يناقش أكثر ممّا يحسم، وأنّه مقيّد بمصالح تجعله يحسب حساب البلدان الإسلاميّة، لا سيّما الخليجيّة والنفطيّة، وأخيراً، أنّه محكوم بتحالفه مع إسرائيل، لا بوصفها احتلاليّة أو صهيونيّة، بل بوصفها يهوديّة. ذاك أنّ اللاساميّة، هي الأخرى، من محفّزات هذا “الحزب”.

هذه المواصفات وجدت لحظتها الذهبيّة بُعيد هزيمة ميشال عون في مناخ توقيع اتّفاق الطائف. آنذاك جهر مسيحيّون كثيرون بعدائهم للغرب واتّهامهم إيّاه ببيع مسيحيّي لبنان بالتواطؤ مع نفط الخليج و”اليهود”.

وأخيراً، فـ”الحزب” هذا يملك قدرة على جذب عناصر من بقايا الأريستوقراطيّة المتفسّخة لعائلات ابتعدت أكثر فأكثر عن مجريات الحياة الفعليّة، كما تنجذب إليه رواسب القوى السياسيّة وسواقطها لتتشكّل منها قاعدة بديلاً هي، في وقت واحد، عارضة وبلا تقاليد، أو أنّ تقليدها هو نتف التقاليد التي سبق أن انطوت عليها قوى تراجعت وانحسرت. وربّما جاز الافتراض بأنّ نسبة المسيحيّين غير الموارنة في هذا “الحزب” إلى الموارنة أعلى ممّا هي في عموم المجتمع اللبنانيّ.

أمّا أبرز المحطّات الكبرى لـ”الحزب” هذا فهي الحزب السوريّ القوميّ، و”اليسار” الكتائبيّ، و”الاتّفاق الثلاثيّ”، ولحظة الانهيار العونيّ أواخر الثمانينات، ورئاسة إميل لحّود.

… غنيّ عن القول إنّ الأسطر أعلاه عناوين سريعة تحتمل الكثير من الجدل وتحضّ على الكثير من التطوير. لكنْ في مكان ما، هنا، يقف ميشال سماحة.

موقع لبنان ناو

 

 

 

 

ميشال سماحة وعدالة الجريمة!/ الياس خوري

قال القاضي اللبناني ان الجريمة هي العدالة، وهذا ما قاله القاضي المصري أيضاً، وفي الحالتين نحن أمام واقع غرائبي، لا يمكن تفسيره إلا في سياق واحد اسمه «طبائع الاستبداد»، مثلما علمنا عبدالرحمن الكوابي منذ قرن.

المحكمة العسكرية اللبنانية التي برأت، أو كأنها برأت، جريمة الوزير السابق ميشال سماحة التي خطط لها، بحسب كلامه، اللواء علي المملوك والفريق بشار الأسد، تشترك مع المحكمة المصرية التي أصدرت حكمها بإعدام محمد مرسي ومعه مجموعة كبيرة من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ومن الفلسطينيين وغيرهم، ممن تسرب الشك في ولائهم للسلطة العسكرية، ومن بين من حكم عليهم بالإعدام الأسير الفلسطيني في السجون الاسرائيلية حسن سلامة، والاستاذ في الجامعة الأمريكية في مصر عماد شاهين.

الأحكام المصرية هدفها الردع والتخويف من جهة، ودفع الإخوان إلى التوحش من جهة أخرى، وبذا يسهل على نظام السيسي تشديد القبضة على السلطة، وإطلاق العنان للدولة الأمنية في قمع المجتمع، بحجة محاربة الإرهاب.

في المقابل فإن القضاء العسكري اللبناني أبدى ليونة غير مسبوقة في التعامل مع مشروع جريمة إرهابية كان هدفها إشعال الفتنة الطائفية في الشمال اللبناني، من خلال كمية كبيرة من المتفجرات، تزرع الموت والرعب، ولا تستثني أحداً.

الطريف أن المحكمة المصرية حكمت بالإعدام على مجموعة من البشر بهدف تحويلهم إلى «إرهابيين»، بينما حكمت المحكمة اللبنانية حكماً مخففاً ولطيفاً على إرهابي لم ينجح في تنفيذ المهمة، بل سقط في المصيدة، وتحوّل إلى بطل مجموعة من الفيديويات التي صورته يأكل الصبير ويتحدث ببساطة عن القتل الجماعي.

كيف نفسر هذه الحكاية؟

لو قلنا إننا أمام لغز، وإن المنطق قد فُقد بشكل كامل، فلن يلومنا أحد. بل ربما كان هدف هذا النوع من الأحكام هو إيصالنا إلى هذا الاستنتاج، بحيث نفقد القدرة على التحليل والتفكير.

المحكمة المصرية واضحة في إعلانها ان ما بدا لنا استقلالاً قضائياً خلال المعارضة الشعبية لحكم الإخوان، تلاشى تماماً، وأن المؤسسة العسكرية قررت إعادة الاعتبار لحكم المخابرات، ووأد ثورة 25 يناير بشكل كامل. وهذا لا يتم إلا عبر القمع الشامل من جهة، وشيطنة الإسلاميين ودفعهم إلى جنون الإرهاب وهاوية التطرف الأصولي.

أما في لبنان فإن المسألة محيرة.

صحيح ان سماحة وقع في مصيدة جهاز المعلومات في قوى الأمن الداخلي الذي كان يقوده وسام الحسن. لكن هذا لا يبرئ الرجل من جهة، كما لا يبرر الجريمة المروعة التي ذهب ضحيتها وسام الحسن، الذي قضى اغتيالاً في متفجرة لم تكتف بقتله، بل قامت بمحوه تماماً، بحيث لم يعثر على أي جزء من جثته من جهة ثانية.

نعود إلى الحكم المخفف، ونسأل ما هو الهدف من إصداره؟

قبل الإجابة على هذا السؤال علينا أن نفهم ماذا كان هدف السيد سماحة أو من أرسله في هذه المهمة؟

بالطبع لم يكن الهدف هو القتل من أجل القتل، رغم أننا يجب أن لا نحذف هذا الاحتمال، لأن نظام الاستبداد المخابراتي المافيوي في سورية أثبت أنه يستسيغ بل ويشجع هواية القتل، بهدف اشعال غرائز الدم في عناصره، واكتساب ولائهم المطلق.

لكننا هنا لسنا أمام عنصر مخابراتي عادي، فالسيد سماحة كان أحد نجوم ثقافة «الممانعة»، صحيح أنه جاء من تجربة وحشية في كنف الفاشية اللبنانية الطائفية، لكنه اكتسب قاموساً سياسياً معقداً من خلال تجاربه مع ايلي حبيقة (بطل مذبحة شاتيلا وصبرا عام 1982)، ثم من خلال عمله كوزير للإعلام، وكمستشار سياسي للرئيس السوري الشاب، وكمهندس لشبكة من العلاقات العامة في خدمة النظام السوري، في الساحات الأوروبية، وخصوصا في فرنسا.

لا شك أن توريط سماحة من قبل مشغليه في هذه القضية يثير العجب، لكن يبدو ان هذا جزء من سياسة التصفيات الداخلية المتبعة في أذرع أجهزة الأمن السورية المختلفة.

الهدف كان إشعال نار الفتنة الطائفية بين السنة والعلويين وبين السنة والمسيحيين، عبر دفع السنة إلى الجنون أمام أهوال القتل العشوائي، وهذا يؤدي إلى دعوشتهم أو دفعهم للالتحاق بجبهة النصرة وغيرهما من تنظيمات الجهادية الأصولية، أي دفعهم إلى الإرهاب.

والواقع ان سياسة الدفع إلى هذا الموقع هي الثابت الوحيد في نظام بشار منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011. وقد تقاطعت هذه السياسة مع دعم إيراني بلا حدود وصل إلى حد قيام جنود حزب الله بغزو سوريا من جهة، وبمشروع خليجي- تركي لأسلمة الحراك السلمي ودفعه إلى الهاوية الطائفية الدينية، والقضاء على طابعه الديموقراطي الوطني، من جهة ثانية.

متفجرات السيد سماحة ومشغليه علي المملوك وبشار الأسد كانت تصب في هذا الهدف: تجنين الناس، ودفعهم إلى ردود أفعال همجية، ردا على الإرهاب الإجرامي الذي كانت ستحمله المتفجرات السماحية.

فشل المشروع ووجد السيد سماحة نفسه وراء القضبان، وحين ووجه بأشرطة الفيديو التي صورها العميل المزدوج ميلاد كفوري، انهار واعترف بكل شيء.

كان يجب أن تنتهي قصة سماحة هنا، قصة طموح سياسي ارتهن منذ البداية لأجهزة المخابرات، وانتهى كما ينتهي هذا النوع من الطموحات في العادة.

غير أن عبقرية مشغلي السيد سماحة لا تنضب، فلقد اثبتوا ان داخل كل متفجرة يعدونها، هناك متفجرة أخرى. وحين تكتشف المتفجرة الأولى وتعتقد أنك صرت في أمان، تُفاجأ بمتفجرة ثانية كانت مخفية، وستكون أكثر فاعلية من الأولى.

الحكم المخفف هو المتفجرة الخفية. نظام الاستبداد لا يهمه مصير عميله اللبناني الصغير، لذا قام بتفجير سماحة عبر حكم قضائي، فرح له المتهم، ليكتشف بعد ذلك ان الحكم قد ينفجر به في أي لحظة.

الرهان هو أن يتسبب هذا الحكم في إشعال أزمتين:

الأولى سياسية قضائية، وهذا ما حصل فور صدوره، وهي أزمة مفتوحة على احتمالات عديدة.

والثانية شعبية مليئة بالنقمة والحقد والرغبة في الانتقام، وهذا ما بدأ من خلال ردود الفعل الشعبية الأولى على الحكم في الشمال والبقاع.

حكاية المتفجرات لم تنته عند اكتشافها وفتيلها لم ينزع بعد، بل دخلت طورا جديدا بعد حكم المحكمة العسكرية، وهي في حاجة إلى صاعق يراهن الاستبداد انه وجده في الردود على الحكم.

لا نزال في الحكاية نفسها التي تتوالد في الكوارث التي بدأت مع صعود نجم حافظ الأسد وتأسيسه لديكتاتورية السلالة والمافيا.

والمسألة سبق لسمير قصير أن لخصها في عنوان كتابه: ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان. لن يعود الرشد إلى لبنان واللبنانيين من دون سوريا حرة وديموقراطية، ولا أفق للمشرق العربي بلا سورية متحررة من الاستبداد وطبائعه.

القدس العربي

 

 

سماحة بريئاً وكنعان منتحراً وغزالة راحلاً: قصص موت معلن/ حازم الامين

ينتمي قرار القاضي العسكري اللبناني الحكم على ميشال سماحة بالسجن أربع سنوات ونصف السنة إلى مجموعة وقائع غرائبية يشهدها إقليمنا في الآونة الأخيرة. موت رستم غزالة، والشائعات حول علي المملوك، والمعارك الغامضة في القلمون، والغارات الإسرائيلية على مواكب مجهولة في سورية.

القرار يصعب على التفسير، ذاك أن نفوذ حزب الله أو النظام السوري في القضاء في لبنان لا يكفي لفهمه. الأرجح أن سماحة ليس قضية رابحة، وأن كلفة القرار أكبر من أهمية نتائجه. ووفق هذه المعادلة يجب أن نذهب في تفسيره إلى ما «بعد بعد» حاجة محور الممانعة إلى سماحة حراً. هذا ما زخّم عمليات التوقع، وأعاد الاعتبار لمخيلة جامحة في تفسيراتها، سبق أن استعرضت صوراً لرستم غزالة قبل موته «مفسوخاً»، وما ذهبت إليه المخيلات في قصة إماتة رستم كان أقل مما ذهبت إليه القصة الحقيقية.

«يريدون الإفراج عن ميشال سماحة لقتله خارج السجن»، هذا ما ذهبت إليه بعض التوقعات، وهذا السيناريو على جموحه ومنسوب خياليته المرتفع لا يبدو مستبعداً، ذاك أن لا جواب شافياً حتى الآن عن السؤال: ما الحكمة من تبرئة رجل شاهد اللبنانيون، والعالم، الفيديو الذي يأمر فيه عميله أكثر من 10 مرات أن يقتل وأن يُفخخ ويُفجر وأن يستهدف إفطارات ومفتين وسياسيين!

لكن هذا التوقع، أي الرغبة في قتل سماحة بعد الإفراج عنه، لا يكفي لتفسير القرار، ذاك أن فضيحة تبرئته تبقى أكبر كلفة، لا بل أوضح من الجريمة المصورة التي ارتكبها الرجل. الحبكة البوليسية مضحكة لشدة ركاكتها ووضوحها، ولا يبدو أن مقمشها يتمتع بخيال كافٍ لبث الشكوك.

علينا هنا أن نتذكر. غازي كنعان قال في اتصال مع إذاعة صوت لبنان قبل يومين من موته: «هذه المرة الأخيرة التي ستسمعون فيها صوتي». ولم يكترث قاتلوه بأن حكاية انتحاره لن يُصدقها أحد. قرار قتله نُفذ من دون أي شعور بضرورة إقناع أحد برواية أخرى. رستم غزالة مات بـ «مرض غريب»، وبالنسبة لقاتليه ليس مهماً كل الوقائع التي سبقت موته. إحراقه المصور لقصره، وقرار عزله قبل موته! لقد مات بـ «مرض غريب»، وفي اليوم التالي كان على كتبة المقالات في الصحف اللبنانية، أن لا يشككوا بذلك، ولكن أن يبدأوا مشوار تخوينه و «فضح فساده».

من غير المطلوب أن نُصدق، فقط علينا أن نُكرر الرواية التي لم نُصدقها. قرار تبرئة ميشال سماحة قرار عادل والفيديو الذي شاهدناه ليس مهماً. فلنشاهده ليلاً، ولكن في الصباح علينا أن نُكرر وراء القاضي أن ميشال سماحة بريء. والقاضي يعرف أننا لم نُصدق قراره، وهو لم يُصدر القرار بهدف أن يُصدقه أحد. القرار صدر لأن سماحة يجب أن لا يكون في السجن. الأكلاف غير مهمة، ولا قيمة من المطلوب مراعاتها أو احترامها. فقط المطلوب أن نُردد في الصباح ما يعرف القاضي أننا غير مُصدقيه.

هذا هو المضمون الفعلي لعلاقة هذه الثقافة بجمهورها. الإخضاع وليس الاقتناع، ثم يأتي بعد الإخضاع الانخراط في القطيع، وبعد ذلك في الأجهزة ثم في المهمات، إلى أن يحين موعد الفضيحة، لندخل بعدها في الموت وفي الغياب والتخوين.

والحال أن النظام في سورية وفي لبنان، يدير أزمته منذ أربع سنوات وفق هذا المنطق. لا قيمة لكل الوقائع، واللعب كان مكشوفاً إلى حدٍ مذهل. كل العالم يعرف أن بشار الأسد على استعداد لقتل ملايين السوريين. كل من صادفناهم من حلفائه قالوا لنا إن الثورة لن تنجح لأننا أمام نظام على استعداد لأن يفعل ما يفعله اليوم. قالوا ذلك من دون أن تعني قناعتهم هذه أن مَن هذه حاله يجب الابتعاد عنه. إذاً لماذا الذهول بقرار تبرئة رجل ارتكب جريمة مصورة؟

ثم إن القول بأن قرار تبرئة ميشال سماحة سيعني لأي إسلامي سني أن «القاعدة» أو «داعش» هي الخيار في مواجهة هذا الوضوح في الاستهداف، لا يعني شيئاً، فهذه المعادلة التي عمل بموجبها النظام في سورية في السنوات الأربع الأخيرة، وهي ما يعتقد أنها سبب بقائه واستمراره في ملحمة القتل اليومي.

نعم هناك مئات الإسلاميين في السجون اللبنانية أمضوا سنوات طويلة من دون محاكمة، بعضهم مرتكب وبعضهم بريء، وهؤلاء وأهلهم وأقاربهم سيضعهم قرار تبرئة سماحة أمام «القاعدة» وأخواتها وجهاً لوجه. سهولة تبرئة سماحة تدفع إلى الاعتقاد أن هذه الحقيقة أحد أهداف القرار.

إذاً أصبحنا أمام احتمالين، الأول إخراج سماحة من السجن بهدف قتله والتخلص من أثقاله، والثاني دفع البيئة التي كانت متفجرات سماحة ستستهدفها إلى مزيد من التطرف. وبما أن الخيال خصب في ما يتعلق بالنظام السوري اللبناني، يمكننا أن ندمج الاحتمالين، فنقول: الإفراج عن سماحة ثم تنظيم اغتياله عبر واحد من أولئك الذين خُصبت راديكاليتهم بحقائق من نوع الإفراج عن سماحة.

مجتمعاتنا مستجيبة لهذا النوع من الإدارة والتوجيه، وسبق أن اختبر النظام السوري ذلك عشرات المرات، ونجح في اختباراته. في نهر البارد فعل ذلك، وفي قتال الأميركيين في العراق، وفي سورية في السنوات الأربع الأخيرة، وفي اغتيال الحريري جيء بإسلامي سني لينفذ المهمة.

ثم إن تكراره وحلفاءه دورة القتل هذه لا ينطوي على عبقرية مجرم، إنما على شعوره بالتخفف من أي التزام تجاه عقول وأخلاق مؤيديه. فمعرفتنا أن وراء قرار تبرئة سماحة رغبة في إنجاز مهمة لا تتعلق بحرية الأخير إنما استدراج عنف وتطرف، لا تعني أن على القاضي أن يتردد في إصدار حكم البراءة. والذاكرة السمكية لمجتمعات الأنظمة المستبدة لن تستحضر واقعة التبرئة هذه عندما تبدأ بتفسير أسباب صعود «القاعدة» وانتصاراتها. ستتولى المذهبية مهمة امتصاص ما يمكن أن يتسرب من الذاكرة.

هذا ما جرى منذ اليوم الأول للثورة في ســورية. الجميع كان يقول إن النظام يريد خصوماً متطرفين، وأن أعداءه الفعليين هم المتظاهرون المدنيون. أنجز المهمة في سورية، أمام أعين الجميع. وها هو اليوم يُبرئ ميشال سماحة أمام أعين الجميع، والنتيجة ستكون مشابهة.

الحياة

 

 

 

 

نحن معه ونعرف أنه قاتل!/ حـازم الأميـن

لقد اقتربنا من وجوههم أكثر مما يجب. ها نحن تماماً مع ميشال سماحة وجهاً لوجه. يلبس الـ”روب دو شومبر” ويأكل الصبير، ويلوح بيده لمحدثه بأن اقتلهم.

وها نحن أيضاً أمام رسائل بشار وأسمى الأسد الألكترونية إلى أصدقائهم، وما أطلق عليه NOW” #الأسد_ليكس هو في الحقيقة “مشرق ليكس”، وهو تتويج لعقود من استئثار نخب دموية فاسدة بمجتمعاتنا وجماعتنا.

لا يفصل اليوم بيننا وبينهم شيئاً. من معهم، وهم كثر، إنما هم معهم ومدركون أن هذا ما فعلوه، وهذا ما قالوه. ومن ضدهم لا حول لهم ولا قوة لإزاحتهم. فها هو ميشال سماحة بريء، ورستم غزالي، المؤتمن على بندقية المقاومة، شيطان رجيم، وكشف رسائل المقربين من الأسد إلى بعضهم بعضاً لن يفت من عضد الجماعة المؤيدة.

ثمة قاتل مُعلن لا يتورع “أصحاب قضايا كبرى” من السير خلفه! لا يشعرون بأنه يسيء لقضيتهم. معظمهم يعترف بأنه قاتل، وجميعهم يعرف ذلك، إلا أنهم يسيرون خلفه. “هل تريدون من الأسد أن لا يقتل الحريري وهو يدرك حجم الخطر الذي يُشكله عليه؟”. هذا حرفياً ما سمعته من مسؤول لبناني مؤيد للأسد في مناسبة خاصة، وسمعت الشخص نفسه في مناسبة عامة يُعدد الأسباب التي تدفعه للاعتقاد بأن اسرائيل هي من قتل الحريري! هذا الرجل لم يشعر بأنه بذل ماء وجهه أمامي، وهو يعتقد أن ما فعله أمر طبيعي، وأنني أنا من تعوزه الحكمة بسبب ذهولي.

لكننا اليوم أمام معادلة مختلفة. هذا الرجل لا يستطيع أن يقول، في مناسبة عامة، أن صديقه ميشال سماحة (وهو صديقه فعلاً) بريء، وأن بشار الأسد وعلي مملوك لم يرسلاه. ثمة فيديو لا يبدو فيه سماحة مجبراً على قول شيء. قال كل شيء بسخاء وكرم.

وهذا الرجل أيضاً يعرف أننا نعرف أنه يعرف من قتل حامل “أمانة المقاومة”، ويعرف أن “الأسد ليكس” صحيحة من ألفها إلى يائها.

ما العمل إذاً؟ شركاؤنا في الوطن وفي الإقليم هذه حالهم، فكيف نُدير النقاش معهم؟ أرجح أن المشكلة تبدأ في أن النقاش لا ينطلق من هذه الحقائق، فهم يباشرونه كأصحاب قضية، لا كجماعة منقادة وراء من أرسل ميشال سماحة كي يقتل وكي يُفجر. في الكلام الشخصي يعترفون أمامك أن الفيديو كارثة عليهم وعلى خيارهم، ولكن ما أن يبدأ النقاش حتى يستحضرون فلسطين، علماً أنهم أضافوا إليها اليوم “الأقليات” و”التكفيريين”.

ربما كان مفيداً أن يقولوا مثلاً: “نعم ميشال سماحة فعل ما فعل، وهو أُرسل لهذه المهمة، ونحن مؤمنون بما كان ينوي فعله”. هذا كان سيُقربنا أكثر من إمكان الوصول إلى نتيجة في النقاش.

لا يفيد بشيء أن تقول لهم أنك مع قتال “داعش”، وأن حماية الأقليات متقدمة في قناعاتك على مساءل كثيرة، فبالنسبة إليهم بشار الأسد، على رغم الفيديو الذي يصدقونه وعلى رغم البراميل والضحايا، هو ضمانة “فلسطين والأقليات وقتال داعش”!

لا يفيد أن تقول لهم أن بشار قيمة مسيئة لهذه العناوين، فالمسألة في جوهرها هي في مكان آخر. أما نحن ففي هذه المرحلة لا يسعنا إلا أن نُذهل من حقيقة أن بيننا من ما زال يقف خلف بشار الأسد. هذا لوحده يكفي لأن نغادر هذه البلاد.

موقع لبنان ناو

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى