صفحات العالم

من الهجرة إلى السجن إلى الكتابة بالمسامير/ سامر فرنجيّة

 

 

تزامناً مع نبأ سيطرة «داعش» على سجن تدمر المركزي، انتشر خبر إفراجٍ عن عشرات المعتقلين اللبنانيين، بعضهم قيل إنّه قضى أكثر من خمسة وثلاثين عاماً في ذاك السجن، قبل أنّ يتّضح أنّ الخبر غير صحيح.

تكذيب الخبر لم يخفّف من وطأته أو أثره، بل زادهما. فعدم وجود معتقلين في سجن تدمر لا ينفي وجود معتقلين، بل يؤكد وجودهم في مكان آخر، قابعين في سجن آخر، منتظرين تحريرهم من زنزانة أخرى. فكما تنصّ العبارة المكتوبة على حائط المنفردة رقم ١ في فرع «الخطيب»، وفق ما روى دارا عبدالله، «أنا حيّ في السجن وميّت خارج السجن» (نوافذ/المستقبل، 23/6/2013).

المعتقلون أحياء في مكان ما، وإن كان الخبر غير صحيح. لقد باتوا أشباحاً، والأشباح لا تطرد مهما شعوذ بعضهم أو كُذِّب الخبر.

السجن «شبح» الأنظمة العربية، وبالأخص نظام الأسد. وهذا «الشبح» يستحيل التعبير عنه لكونه شبيهاً بجروح فرع الأمن الممنوع عليها الالتئام، كما لاحظ دارا في نصه عن السجن أو نصه – السجن. هذا الشبح موضوع ما يسمّى أدب السجون، وهو النوع الأدبي الذي قد يكون الأكثر تعبيراً عن هذه المرحلة ومصائرها. فخبر تحرير مساجين غير موجودين من سجن تدمر أعاد إلى الذاكرة رواية مصطفى خليفة «القوقعة» وبطلها الخارج من السجن ذاته، كما أعاد التذكير بكتابات فرج بيرقدار وياسين الحاج صالح وحسيبة عبد الرحمن ونبيل سليمان وآرام كرابيت وخالد خليفة وغيرهم ممن وثّقوا تجارب الاعتقال في السجون السورية.

هذا النوع من الكتابة ليس جديداً في العالم العربي، وليس محصوراً في سورية، كما تشير كتابات صنع الله ابراهيم وعبد الرحمن منيف وغيرهما. لكنْ بتاريخانية فقدت تاريخيتها، يمكن القول إنّ «معنى» ذلك النوع بدأ بالظهور اليوم، مع الثورات العربية وعملية كسر أبواب السجون (هذا قبل أن يعاد ملؤها بمساجين جدد أو إعادة سجن المساجين القدامى إنما مع جلادين جدد). أو على الأقلّ، هناك بوادر معنى جديد لهذه المكتبة، التي غالباً ما استُقبِلت كمجرّد تجميل لتقارير حقوق الإنسان، أفقها الوحيد سياسي في حده الأدنى. فهذه الروايات، كما كتب يوسف بزي عن «القوقعة»، «ليست رواية أو أدباً، تماماً كما أن آلاف صور المعتقلين المقتولين في أقبية النظام السوري، تجويعاً وخنقاً وتعذيباً، ليست صوراً» (نوافذ/المستقبل، 26/1/2014). إنّها وثائق ومضبطة اتهام لأنظمة تنتهي فعاليتها مع سقوط الأنظمة وتحرير وإفراغ السجون.

غير أنّه، كما يشير الخبر الكاذب، ليس هناك من مساجين لتحريرهم وليس هناك من تاريخ أو حدث ينهي تجربة السجن. السجون باقية، وإنّ فُرِّغت من سكّانها، والتجربة مستمرّة حتى لو وُجد المساجين وحُرِّروا. فآثار السجن تستمر، كما استمرّت مع أحد السجناء الذين صادفهم دارا في نصه – السجن، عند انتقاله من المنفردة إلى المهجع الجماعي و«عينه تخاف الضوء وجسده نحيل، كلامه ثقيل لأنّ لسانه نسي المواضع الفموية الضامنة للتصويت اللفظي الصحيح، النواتئ العظميّة نافرة من جسده كأنّها رؤوس كائنات هاربة من الأعماق».

فالسجن لن يلخَّص بالسياسة، لأنّ آثاره باتت تتعدى السياسة. فماذا يعني أن نكتب والكلمة تخاف الضوء والجمل نسيت اللفظ الصحيح والعظام نافرة من النص؟

يمكن هنا المقارنة بنوع آخر من الأدب، بات مكرّساً عالمياً، غالباً لكونه مترجماً إلى اللغات الأجنبية، وهو أدب المهجر أو الهجرة. ففي تبسيط بالغ، قام هذا النوع الأدبي على ثنائية المكان، وإن فكّكها. والثنائية هذه غالباً ما أخذت شكل الانتقال من الشرق إلى الغرب أو الجنوب إلى الشمال، بما يرفع تجارب الاغتراب والهجرة والانسلاخ إلى مدخل لنقد سياسي ووجودي للحاضر وماضيه الاستشراقي، كما نظّر له إدوارد سعيد. إنّه أدب مرحلة الحركة والمواجهة مع نظرة الآخر واكتشاف الوحدة ضمن المدن، وتحويل هذه التجربة إلى منطلق لسياسة جديدة وعلاقة مع المكان مختلفة. أدب السجون ليس نقيض أدب المهجر، وإنْ كان يضيء جوانب مختلفة عن الشرط الإنساني: سجن مكتظ مقابل وحدة واغتراب، جمود وحدود مقابل حركة وطرد، سجن انعزالي مع الأنا مقابل انعزال خارج الأنا.

يعيد أدب السجون الكتابة إلى الدرجة الصفر، أو إلى المستوى الأوّلي، المادي والبيولوجي والجيولوجي للحياة. فالمكان يعود من ثنائية الأصل والمرحلي ومن تفكيكهما إلى مستواه الأولي «الفيزيائي»، ليعيد الأمور إلى التعاليم الأولى الما قبل اللغوية. الزمان أيضاً يعود إلى الواجهة ولكنْ مكسراً، بلا مستقبل أو ماض. السجن خارج الزمان، تجربة تبدأ فجأة وتنتهي بالطريقة نفسها، تاركة صاحبها يتحسس الزمان بماديته القصوى، لا يقيسها بوصفها قَبلاً أو بَعداً. ليس فقط المكان ما يعود إلى مستوياته الأوليّة، بل العلاقة مع هذا الآخر ونظرته التي أضاعتنا لعقود، حيث الالتباس المؤسس لأية علاقة، بين الجسد والإحساس، بين الغريزة والتعاطف.

إنهّا تجربة يعصى عليها التسييس خارج الحد الأدنى، ويستحيل على تسييس الحد الأدنى أن يلخّصها. فغالباً ما يكتب أدب المهجر فيما كاتبه يخوض تجربته، لكن نادراً ما كتب أدب السجون، وكاتبه لا يزال يعيش التجربة. فـ «إذا كنت تريد أن تكتب على الحائط، هنالكَ مسمار تحت «الكرتونة» في الزاوية اليمنى، أعده إلى مكانه بعد الانتهاء من الكتابة»، عبارة أخرى نقلها لنا دارا. إنّها تجربة تروى بالمسامير، والسؤال: كيف تسيّس المسامير، خارج خطاب حقوق الإنسان؟

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى