صفحات الثقافةعزيز تبسي

موسم العطور/ عزيز تبسي

 

 

-1-

– إنهم يطلبون المزيد من العطور.

يقول الباعة، الموزّعون على الأرصفة وناصيات الشوارع، ومواقف انتظار الحافلات، وبوابات الحدائق والمشافي والمستوصفات والمراكز الحكومية. حيث لم يبق مكان في شوارع المدينة وساحاتها، خالٍ من بائع عطور، تكاثروا حتى لتحسبهم طوابع لا نهائية على أوراق معاملة حكومية.

من أين أتى كل هؤلاء الباعة؟ بعضهم، الأكبر عمراً، كانوا قبل سنتين أو ثلاثة، من أصحاب الحوانيت الفاخرة في أسواق المدينة القديمة، تلك التي كانت موكبًا متلاصقًا من البهجتين المعمارية والبشرية، لتمسي اليوم كلها لا بعضها، أرضاً مهجورة رابضة تحت أنقاضها وحرائقها وخرائبها ودفائنها. عجائز، أو بالأحرى رجال كبار السن، ارتسمت على جباههم هموم سنوات التعب خلف المهنة. تعلموا خفاياها وأتقنوا مزج خلاصات الورود البلدية التي يحضّرونها بأنفسهم، بكدٍ طويل وبحثٍ في البراري عن نباتات وزهور مجهولة. يستقطرون منقوع خمائرها في أنابيق، ويعيدون مزجها بأقساط دقيقة، للتفرّد بالوصول لعطور مخصوصة، يدرجونها في باب المهارة والخبرة المتراكمة بالتجريب والاختبار، لاستحواذ ختامي على “سر المهنة” وامتياز الرواج. لكن أغلب الباعة الجدد من الشبان، الذين اعتمدوا على خلاصات عطرية جاهزة، تحمل أسماء لامعة، تنتجها مخابر أوروبية وآسيوية مختصة، يكتفون بعد إقناع المشتري بها، بتمديدها بالكحول ووضعها في عبوة تناسب الكمية.

العطور الجديدة، الآتية من أسماء لامعة، اعتلت سلالم الفن والموسيقى والرياضة والأباطرة الجدد، مكثفات كيماوية في عمومها يجري إعادة مزجها، وتمديدها بالماء والكحول، ووضعها في زجاجات يغلق فوّهتها مرشاش، وعبوات بلاستيكية صغيرة تغلق بكرات من المادة البلاستيكية ذاتها، يخرج سائلها بعد تدليك خفيف على المكان المتوجب تعطيره.

وكأن الناس يريدون الخروج برائحة عطرية، تخفي رائحتهم.

رائحة عرق التعب والحرارة اللذان جفّا على ملابسهم، وأغلقا مسام جلودهم. رائحة الأجساد ومفرزاتها بعد تركها لأسابيع من دون استحمام، رائحة اليأس الذي هدّ عافيتهم، وانتزع الدم من قلوبهم كما المصل من خلاياهم. رائحة الخوف التي دفعتهم لاعتناق مسالك السلاحف والقنافذ. رائحة عفن الأقبية التي يقيمون في جوفها، والبيوت التي يخشون فتح نوافذها. رائحة الأتربة الرطبة العالقة في ثيابهم. رائحة الحنين لأهل غابت مصائرهم، رائحة الدم الجاف، الرابض تحت ضمادات يخافون الإفصاح عن أسباب جروحها، ليتجنبوا التورط بما هو أشدّ هولاً من جراحها.

يغادرون منازلهم بآثار مسرفة في التبرج، المستكمل بضوع عطور مدوخة، علها تُسكر الزمن والوقائع. لكنها كذلك إيذان مضمر، لرغبة مخنوقة في تضليل عسف الحياة، التي تفلّتت أطيابها وتهالكت فتنتها واندحر ضوؤها.

شعوب تضمّد جراحها وآلامها بالعطور، لا لإثم تحملانه، بل للعنة الكبرياء التي تلبّستها من الأزل العربي الذي ارتدى الصحراء كطليسان من مجد مجدول بآمال عالية، سارت حافية القدمين إلى واحات نخيلها وأعنابها وتفاحها، وتلاعبت برملها كأحجية، لتعتصره بيد منقبضة، وتعتصر معه عروق كفّها التي اعتادت انبساط المروءة.

لم يعد أحد يطلب العطور الخفيفة، التي طالما استدرجتهم إلى الحنان الذي تبثه النسائم العابرة من أعطاف أغصان العسلية والزيزفون والخزامى، وكما الحال في الإضمارات المحجبة للياسمين والجوري والفلّ والحبق. حينما تكون نسغاً هارباً من جوسق النباتات الماجدة. يقبلون على عطور ثقيلة مستخلصة من بنفسجٍ عتيقٍ غدره الزمن، أو مسك حرقه الالتياع، أو كافور مخنوق بعذاباته، أو عنبر فتّت أعصابه خذلان التاريخ، علّها تحجب رائحتهم وترافقهم كجوقة من الحرس الخفي.

-2-

وتبقى المياه.

هم لا يريدون السير عليها ولا الاختناق في أعماقها، يريدونها حفنات منزلقة بين كفين مضمومين كدورق من غضار، ليرشقوا بها وجوههم ويمسحوا أبدانهم، علّها تتحرر من ابتلاء الأجساد التي لمّا تزل على قيود الحياة.

وما المياه إلا علامة على النظافة وما بعدها، أي الرواق الذي يقود إلى الطهارة، المتمّم لصفاء الروح واختلائها بنفسها، في تحرّرها من إرهاق ظلمتها وغبش بصيرتها. وما هي إلا تمتمات صلاة لنظافة الجسد ومباركته، وتبليغ طقسي بيّن، لانتقال مقمّط بالأبخرة الصاعدة من جوف الدوارق الملتهبة النيران تحت حديدها وفولاذها ونحاسها.

لا يحتاج الأمر لكلام طويل، بعد المياه والصابون المسكون بروح الغار، كلمة مفردة كافية، لتكريم هذا الفعل الانبعاثي من ذاته، المتكئ على المياه والنبات؛ “نعيماً”…… وكأنه إيذان مختزل لعبور بوابات النعيم، كاسم دال على الجنان.

-3-

يميل إلى الأمام، كأنها طعنت بطنه بسكين مشحوذة، يقرفص على الرصيف، ليتذكر ويهرول خلف ما تركه متدلياً من أعالي سقف حانوته، باقات الشيح اليابس، الزوفاء، الحبق، الزعتر، النعناع، السماق، أكياس أوراق الزعرور والحنبلاس والطيون، جوزة الطيب، الزجاجات المصفوفة على الرفوف كفيلق ملكي لخلاصات؛ القرنفل، الفل، مسك الغزال، أوراق الفليفلة، إبر الصنوبر.

لكم خشيتُ من مركبات العطور الجديدة، من حين بدأت تدخلها الفانيليا والقرفة والزنجبيل والبهار والمتممات الأخرى المُنكّهة للأطعمة والحلويات. بتُ أخاف عن جد لا عن هزل، من هذه الابتكارات المضمرة غاياتها. وكأن هذا الإقحام الخبيث للمنكهات الغذائية الفاخرة، استهلال لتأكل الشعوب بعضها، بعدما تهيّأ لها أنها ليست سوى موائد عامرة من الأطايب، جائز أكلها، كما هو متاح هضمها، وسهل طرحها كروث قتيل.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى