صفحات المستقبل

نمور في اليوم العاشر .. للقصة تتمة !


أنس حمدون

قصة زكريا تامر : نمور في اليوم العاشر

رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص، ولكنه لم يستطع نسيانها، وحدق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة: إذا أردتم حقاً أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنها مهمة صعبة وسهلة في آن واحد.

 انظروا الآن إلى هذا النمر: إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، ولكنه سيتغير ويصبح وديعاً ومطيعاً كطفل صغير.. فراقبوا ما سيجري بين من يملك الطعام وبين من لا يملكه، وتعلموا.

فبادر الرجال إلى القول إنهم سيكونون التلاميذ المخلصين لمهنة الترويض.

فابتسم المروض مبتهجا، ثم خاطب النمر متسائلا بلهجة ساخرة: كيف حال ضيفنا العزيز؟ قال النمر: أحضر لي ما آكله، فقد حان وقت طعامي.

فقال المروض بدهشة مصطنعة: أتأمرني وأنت سجيني؟ يالك من نمر مضحك!! عليك أن تدرك أني الوحيد الذي يحق له هنا إصدار الأوامر. قال النمر: لا أحد يأمر النمور.

قال المروض: ولكنك الآن لست نمراً.

أنت في الغابات نمر.

وقد صرت في القفص، فأنت الآن مجرد عبد تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء.

قال النمر بنزق: لن أكون عبداً لأحد.

قال المروض: أنت مرغم على إطاعتي؛ لأني أنا الذي أملك الطعام.

قال النمر: لا أريد طعامك.

قال المروض: إذن جع كما تشاء، فلن أرغمك على فعل ما لا ترغب فيه.

وأضاف مخاطباً تلاميذه: سترون كيف سيتبدل؛ فالرأس المرفوع لا يشبع معدة جائعة.

وجاع النمر، وتذكر بأسى أيامًا كان فيها ينطلق كريح دون قيود مطارداً فرائسه.

وفي اليوم الثاني أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر، وقال المروض: ألست جائعاً؟ أنت بالتأكيد جائع جوعاً يعذب ويؤلم.. قل إنك جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم.

ظل النمر ساكتاً، فقال المروض له: افعل ما أقول ولا تكن أحمق.

اعترف بأنك جائع فتشبع فوراً.

قال النمر: أنا جائع.

فضحك المروض وقال لتلاميذه :ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه.

وأصدر أوامره، فظفر النمر بلحم كثير.

وفي اليوم الثالث قال المروض للنمر: إذا أردت اليوم أن تنال طعاماً، فنفذ ما سأطلب منك.

قال النمر: لن أطيعك.

قال المروض: لا تكن متسرعاً، فطلبي بسيط جداً .

أنت الآن تحوم في قفصك، وحين أقول لك: قف، فعليك أن تقف.

قال النمر لنفسه: إنه فعلاً طلب تافه، ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع.

وصاح المروض بلهجة قاسية آمرة: قف.

فتجمد النمر تواً، وقال المروض بصوت مرح: أحسنت.

فسر النمر، وأكل بنهم، بينما كان المروض يقول لتلاميذه: سيصبح بعد أيام نمراً من ورق.

وفي اليوم الرابع، قال النمر للمروض: أنا جائع فاطلب مني أن أقف.

فقال المروض لتلاميذه: ها هو ذا قد بدأ يحب أوامري.

ثم تابع موجهاً كلامه إلى النمر: لن تأكل اليوم إلا إذا قلدت مواء القطط.

وقلد مواء القطط، فعبس المروض، وقال باستنكار: تقليدك فاشل.

هل تعد الزمجرة مواء. فقلد النمر ثانية مواء القطط، ولكن المروض ظل متهجم الوجه، وقال بازدراء: اسكت.. اسكت.. تقليدك ما زال فاشلاً.

سأتركك اليوم تتدرب على مواء القطط، وغداً سأمتحنك.

 فإذا نجحت أكلت أما إذا لم تنجح فلن تأكل. وابتعد المروض عن قفص النمر وهو يمشي بخطى متباطئة، وتبعه تلاميذه وهم يتهامسون متضاحكين.

ونادى النمر الغابات بضراعة، ولكنها كانت نائية.

وفي اليوم الخامس، قال المروض للنمر: هيا، إذا قلدت مواء القطط بنجاح نلت قطعة كبيرة من اللحم الطازج.

 قلد النمر مواء القطط، فصفق المروض، وقال بغبطة: عظيم! أنت تموء كقط في شباط.

ورمى إليه بقطعة كبيرة من اللحم.

وفي اليوم السادس، وما إن اقترب المروض من النمر حتى سارع النمر إلى تقليد مواء القطط، ولكن المروض ظل واجمًا مقطب الجبين، فقال النمر: ها أنا قد قلدت مواء القطط.

قال المروض: قلد نهيق الحمار.

قال النمر باستياء: أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات، أُقلد الحمار؟ سأموت ولن أنفذ طلبك!

فابتعد المروض عن قفص النمر دون أن يتفوه بكلمة.

وفي اليوم السابع، أقبل المروض نحو قفص النمر باسم الوجه وديعا، وقال للنمر: ألا تريد أن تأكل؟

قال النمر: أُريد أن آكل.

قال المروض: اللحم الذي ستأكله له ثمن، انهق كالحمار تحصل على الطعام.

فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق، واندفع ينهق مغمض العينين، فقال المروض: نهيقك ليس ناجحاً، ولكني سأعطيك قطعة من اللحم إشفاقاً عليك.

وفي اليوم الثامن، قال المروض: سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي صفق إعجاباً.

قال النمر: سأصفق.

فابتدأ المروض إلقاء خطبته، فقال: “أيها المواطنون.. سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدل مهما تآمرت القوى المعادية، وبالإيمان سننتصر” .

قال النمر: لم أفهم ما قلت.

قال المروض: عليك أن تعجب بكل ما أقول، وأن تصفق إعجاباً به.

قال النمر: سامحني أنا جاهل أُميٌّ وكلامك رائع وسأصفق كما تبغي.

وصفق النمر فقال المروض: أنا لا أحب النفاق والمنافقين ستحرم اليوم من الطعام عقاباً لك. وفي اليوم التاسع جاء المروض حاملاً حزمة من الحشائش، وألقى بها للنمر، وقال: كل، قال النمر: ما هذا؟ أنا من آكلي اللحوم.

قال المروض: منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش.

ولما اشتد جوع النمر حاول أن يأكل الحشائش فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً، ولكنه عاد إليها ثانية، وابتدأ يستسيغ طعمها رويداً رويداً.

 وفي اليوم العاشر اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص؛ فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة.

التتمة …

ثلاثون عاماً مرت و المروض يأسر النمور الواحد تلو الأخر حتى صارت أقفاص الغابة أكثر تعداداً من أشجارها. على جذوع الأشجار الباقية، ألصقت صور المروض و انتصبت تماثيله ما بين الأقفاص عابثة متوعدة.

عقود  مرت و التلاميذ ما زالوا متحلقين حول المروض، بل ملتصقين به كالغبار.احترفوا التلمذة و أتقنوا فنونها بعد أن أيقنوا أن أياً منهم لن يكون مروضاً يوماً ما , و بأنه خير لرؤوسهم أن تكون بين أفخاذ المروض من أن تكون أعناقهم بين معصميه. اعتادوا التصفيق على قصص المروض الهذلية و أبدعوا في تكرارها و اجترارها حتى صارت أساطير و ملاحم بطولة.

ثلاثون عاماً مرت قبل ذاك اليوم الحزيراني الحار الذي حمل حدثاً ما كان أحد يجرؤ حتى على التفكير به. مات المروض الأكبر تاركاً وراءه غابة ملأى بالنمور السجينة في أقفاص صلبة، تلاميذ برؤوس جوفاء تصلح لتوليد الصدى، و ابناً لا يزيد إتقانه للترويض عن إتقان راهبة لفنون الإغواء. سرعان ما التف تلامذة الأب حول المروض الصغير و التصقوا به حتى غابت ملامحه و جعلته يبدو للنمور مرهباً، مرعباً كذاك الشيء الغباري الذي يخشون ..

عشر سنوات أخرى مرت، تجدد خلالها الأتباع و تكاثروا حتى صاروا جوقة تنشد صبحاً و مساء في أذن ملك الأقفاص على إيقاع نغم ثوري مبتذل: يا سيد الملكوت, بك نحيا و لأجلك نموت … لولا عطفك و كرمك لما و جدت هذه المخلوقات البائسة من يعطف عليها، يطعمها و يحميها من أعدائها المتربصين بها !!

أما في الأقفاص، فكانت الحياة تزداد ذلاً و شقاءً عام بعد عام، رحلت أجيال و ولدت أخرى. أجيال لم ترى يوماً قبة السماء إلا من وراء القضبان التي رسمت ظلالها خطوطاً على أجساد النمور حتى صار يظن المروض وتلاميذه أن جلود النمور قد أضحت أقفاصها. انشغلوا عنها بتشييد القصور و حولوا الأعشاب التي ارتضتها النمور طعاماً إلى مروج يستلقون عليها مستمتعين برؤية سماء لا تفصلها عنهم قضبان صدئة. صارت النمور في نظرهم مصدر رزق و ترفيه، يتفننون في إذلالها و تعذيبها مستمدين من آلامها و دموعها إحساساً بالقوة يكاد ينسيهم ذل التلمذة الذي اختاروه  طائعين.

إلى أن جاء ذاك اليوم الربيعي المشرق محملاً برياح غربية امتزجت فيها رائحة المتوسط بعطر غريب و شهي.

بوجوه امتزجت في ملامحها الدهشة بالأمل، صار صغار النمو يسألون كبارهم ذوي الملامح الحزينة الخائفة عن ذاك العطر الغريب الذي يداعب أرواحهم ليكشف فيها عن أحاسيس لم يعهدوها. لم يأتهم جواب من كبارهم، اختنق الصوت في حناجرهم و احتبست الدموع في عيونهم الشاردة الباحثة عن الهرب من تلك الذكريات الجميلة يوم كانوا طلقاء في الغابة.

من تحت الأرض، من تلك الطاقة الصغيرة التي تركت للقفص المدفون حيث أودع النمر (غضبان) منذ سنين، و في لحظة صمت جنائزي سمعت النمور صوته مدوياً, منادياً : إنها رائحة الحرية يا صغار .. امضوا إليها فإنها ساعتكم ..  اذهبوا إليها غير هائبين .. خير لكم أن تموتوا نموراً من أن تعيشوا كالقطط ..

لاحظ صغار النمور أن زمجرة النمر سيء الصيت الذي طالما نهاهم الكبار عن الاقتراب منه كان لا يشبه موائهم ولا نهيقهم اللذين أكرهوا عليهما مذ ولدوا. كانت صوته المبحوح يرعد صدقاً و عزة ما اعتادوا سماعها في أصوات آبائهم الزائفة المرتجفة. اندفع أولهم هائجاً, راعداً ليكتشف أن إرادته أكثر صلابة من قضبان القفص الصدئة و أن صوته أعلى من طلقات الرصاص التي بدأت تنهال عليه و على من تبعه من النمور.

بدأت الأقفاص تهتز .. بل بدأ الكون يهتز أرضاً و سماء و امتزجت صيحات الحرية بأصوات الأسلحة التي وجهها المروض و غباره إلى رؤوس و صدور النمور المنتشية بولادة ذاك الاحتمال الذي كان في الأمس مستحيلاً. أبدا التلامذة شهية للقتل و تعطشاً للدم عجز أكثر المتشائمين عن تخيلها، كما لو أنهم قد أمضوا عمراً بانتظار تلك اللحظة التي يضغطون بها على الزناد للقتل. و لكن النمور لم تتراجع و كلما سقط نمر, أسقط معه قفصاً ليحرر منه رفاقاً يكملون الصراخ لمناداة الحرية.

 رغم تساقط الأقفاص، ظل كثير من النمور متردداً خائفاً و صار بعضهم ينادي المروض مستجدياً الآمان و الحشائش. لهم عذرهم فهم صدقوا أنهم قطط و حمير و نسوا أنهم نمور. و ظل المروض عاجزاً عن تصديق أن مملكة الأقفاص التي ورثها عن أبيه  تنتفض على حكمه الجائر و حكم أزلامه و أن ما ظنه خالداً أبدياً قد بدأ يتلاشى.

  قصة زكريا تامر لم و لن تنته ما دامت قلوب النمور تنبض بحلم الحرية .. و بينما أكتب هذه الكلمات، مازالت النمور تكمل قصتها و تنادي غدها بأمل و ألم، مازال المروض و أتباعه، ملوثين بدمائها،  يلهثون من الركض وراءها، و مازلت بعيداً و منفياً في خجلي من الغياب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى