صفحات الرأيطيب تيزيني

الربيع العربي» وفوكوياما

طيب تيزيني

يلاحظ الباحث المدقق أن «الربيع العربي» يبدو أنه كلما اتسعت آفاقه وتعاظمت احتمالاته، تبرز إمكانات التفريط به، أو تحويله إلى مآلات وغيابات تجعل منه حالة ليست جديرة بالدفاع عنها، لأنها حالئذ تتساوى مع حركات وانطلاقات أخرى في العالم. سنتتبع ذلك عبر النظر إليها بصفتها انطلاقة تجد نهايتها حين تتماثل مع الانطلاقات الأخرى وتوقُّفها كنهاية. نعود إلى واحد من ممثّلي «نهاية التاريخ»، لنضع يدنا على ذلك، وهذا الأخير هو فوكوياما ذو الهوي اليابانية الأصلية. ففي كتابه المعروف «نهاية التاريخ» يكتب فكوياما الفكرة التالية: «إن النظام الرأسمالي الليبرالي لربما شكل المرحلة النهائية في التطور العقائدي للجنس البشري، وبالتالي يصبح هو نظام الحكم الأمثل، وبمعنى آخر، فإن الوصول إلى هذا النظام هو ــ نهاية التاريخ».

تلك الفكرة الفوكويامية إذا وضعناها في سياقها من «نظرية التاريخ»، فإنها تفضي إلى «خواء لا تاريخي»، أو إلى نمط لا تاريخي من التاريخ، وفي سبيل ذلك، يقول «فوكوياما» إن الفيلسوفين هيجل وماركس بأن «التطور المضاد للمجتمعات البشرية لا يسير إلى ما لا نهاية، وإنما هو محكوم بتوصيل الإنسان إلى شكل محدد لمجتمعه يُرضي احتياجاته الأساسية. وعندما يتم التوصل إلى هذا الشكل المثالي للمجتمع عند هيجل في النظام الرأسمالي الليبرالي، نجده عند ماركس يتبلور في النظام الاشتراكي». ولا يعني هنا إطلاقاً أي توقف للأحداث.. لكن الاختلاف الوحيد برأي فوكوياما، هو أنه لن يكون هناك أي تقدم أو تطور بعد اليوم فيما يتعلق بالمبادئ والعقائد والمؤسسات». وهذا بدوره يوضح الإجابة، لدى الرجل، عن «السؤال القديم»: «هل يقود التطور التاريخي المطرد الغالبية العظمى من البشر نحو النظام الرأسمالي الليبرالي؟ والإجابة التي تمكنت من التوصل إليها هي… نعم».

إن تناول الربيع العربي (والسوري نموذجاً) إنما يجسد محاولة لابتلاعه وإذا بها خطوة أخرى إلى الأمام، وأجبنا عن التساؤل بنعم، فيما إذا كانت بلدان العربي العربي قادرة على تحقيق أهدافها في النهضة والحداثة والديمقراطية والحرية والعدالة… إلخ. فإن ذلك سيصطدم بـ«نهاية التاريخ» كما يراها فوكوياما. لماذا؟ لأن العالم يكون إذ ذاك قد دخل مرحلة النظام الرأسمالي الليبرالي بصيغة اللحاق بالبلدان التي تجسد هذا النظام، أي بلدان الرأسمالية الليبرالية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.

هكذا، يكون التقدم العالمي (وفي العالم العربي والثالث عموماً) قد انحسر لصالح «تطور تاريخي» يتوقف عند مرحلة الرأسمالية الليبرالية. ولما كان ذلك العالم العربي الراهن يجد نفسه خارج هذه المرحلة، لأنها «تتجسد في الرأسمالية الليبرالية» البعيدة والقصيّة عن هذا العالم العربي، فإنه لن تكون لديه مقومات التقدم والنهوض. بل أكثر من ذلك، حين يرغب أصحاب هذا العالم في تحقيق إنجاز حضاري ما، فعليهم أن يُتقنوا نصيحة فوكوياما وهي القائلة -في هذه الحال- بالالتحاق بمن حقق التاريخ الحقيقي، ذي النسيج الرأسمالي الليبرالي، والأخذ بما يمكن من مساعدات تضع أولئك المنتمين إلى العالم العربي في الخط الذي يفضي بهم إلى «الرأسمالية الليبرالية» ذات البعد الأساسي، الأميركي الأوروبي، ومن سار على هذا الدرب.

بتلك الطريقة الفوكويامية يكون «الربيع العربي» قد ابتُلع أو مُنح هوية «الآخرين»، ومن المعروف أن هنالك في بعض مناطق ذلك «الغرب الأميركي الأوروبي الراهن» من المجموعات النازية، التي تعلن بوضوح ودقة «إن العالم الراهن لا يحتمل أو لم يعد يحتمل وجود من ثبت من الشعوب أنها لم يعد الآن يمتلك القدرة على المشاركة الحضارية في بناء عالم لهم يخرجهم من «الجحور»، كما هم كانوا بطريقة ما وفي قرون سابقة قد انجزوا شيئاً من ذلك.

على ذلك النحو، يُحفر قبرٌ للربيع العربي، الذي والحال كذلك، لم يكن -في رأيهم- أكثر من وهم جسّدته مجموعات من السلفيين والأصوليين المتخلفين والمتحدّرين بدورهم من مجموعات إجرامية مسلحة، أما أن يكون تاريخ هؤلاء متحدراً من جموع من المُهانين المفقرين والمُذلّين، وكذلك الباحثين عن الكرامة والحرية والعدالة على ابتداء أربعة عقود ونيّف، فإن هذا لا يذكر!

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى