صفحات الرأي

الغرب يضحك من الروس والصينيين… على ذقون السوريين!


إغناطيوس غوتيريث دي تيران

في وقت مبكر جدا من اندلاع الانتفاضة الشعبية في عدد من المناطق السورية اتخذت الولايات المتحدة، في خطوة لم يلبث أن احتذت بها الأقطاب الغربية الأخرى بحكم تبعيتها المعهودة لها، موقفا ثابتا تجسد في ممارسة الضغوط المحدودة على نظام دمشق والتدرج في سحب البساط الدبلوماسي من تحت قدميه. وأكدت الدول الغربية في ذلك الحين، أي قبل سنة،ثم عادت وأكدت مجددا اليوم في أعقاب مذبحة الحولة المروعة أنها ليست في وارد الحسم العسكري الخارجي. وبالتالي فيخطئ من يظن أن الدول الأوروبية والولايات المتحدة أجبرتها الممانعة الروسية والصينية على كبح جماحها والتخلي عن خطتها العدوانية على لنظام بشار الأسد.

لا يكف البعض منذ أشهر عن إمطارنا بالأحاديث والتحليلات عن نجاح موسكو وبكين في إحباط تحركات الغرب الهادفة، تحت لواء الأمم المتحدة، إلى انتزاع قرارات دولية تدين صراحة النظام السوري وتمهد لتطويقه سياسيا واقتصاديا وإعلاميا ثم توجيه الضربة القاضية إليها، ولكن الحقيقة، التي ازدادت جلاء مع مرور الأشهر وتفاقم معاناة الأعزاء السوريين، أن تلك القوى الغربية لم تعقد عزيمتها قط على تأييد الثورة السورية كما أنها لم تبال مبالاة جدية بما يبذله المجتمع المدني السوري من جهود سلمية من أجل إحلال نظام ديمقراطي.

وهكذا، بعد أشهر من العمليات الأمنية والحملات العسكرية والاغتيالات والمذابح والتعذيب الجماعي، جاءت مجزرة الحولة في منطقة حمص ل’تحريك’ ضمائر تلك القوى الغربية التي كانت تعرف حق المعرفة مدى عنجهية النظام وجهوزيته للقيام بأي شيء في سبيل البقاء في السلطة سواء من خلال جر البلد إلى حرب أهلية أو تقسيمه إلى دويلات أو إغراق الشرق الأوسط كله في اضطراب مستمر. إلا أن قرار بعض الدول كأستراليا وكندا واليابان وأعضاء في الاتحاد الأوروبي طرد البعثات الدبلوماسية السورية المعتمدة في أراضيها كرد فعل على مجزرة الحولة، لا يمكن أن يُرد إلى يقظة أخلاقية تضامنية مباهتة مع الشعب السوري أو إلى مساع ملموسة تستشرف إلى حقن دماء السوريين، وإنما يعتبر حلقة جديدة في المناورة السياسية والدبلوماسية الغربية التي حولت القضية السورية ومن خلفها الملف الإيراني- إلى إحدى الرقع أو المسارح التي تدير عليها القوى العظمى صراعها على الشرق الأوسط والسيطرة على وسط القارة الآسيوية. قد استخدم الغرب الأزمة السورية لتحقيق أهداف معينة منها إضعاف الموقف الدولي لروسيا بعد أن نصبت موسكو نفسها وليا كونيا على الحكومة السورية.

وربما يجادل البعض بأن الصرامة الدبلوماسية الروسية ومن ورائها الصينية هو مما حال دون التدخل العسكري الأجنبي في بلاد الشام، بيد أن الصحيح أن الأمم المتحدة لم تعتمد بعد أي قرار يجيز اجتياح سورية أو الإغارة على أهداف عسكرية فيها لأن الغرب لم ير أي مصلحة في الأمر. مع ذلك، تتشدق أبواق نظام الأسد، ومعها وللأسف جزء من اليسار الأمريكي الجنوبي الضائع الذي نسي أو تناسى بطش نظام عائلة الأسد مع الآلاف من النشطاء والرفاق اليساريين من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، ‘بالإنجاز البطولي’ لدبلوماسية بيكين وموسكو وقدرتهما على احتواء الخطط الإمبريالية الغربية المعادية لسورية وإيران.

ولكنها لم تفطن إلى أن مشاريع القرارات التي قدمتها الدول الغربية بدعم من بعض البلدان العربية كانت موجهة نحو استراتيجية لا صلة لها بالتدخل العسكري ولا حتى إسقاط النظام الأسدي وإنما قصدها إحراج الروس والصينيين أمام الرأي العام العالمي. إن الأوساط السياسية الغربية تعي تماما أن دولة الآسد محكوم عليها بالزوال منذ أن صارت التظاهرات والتحركات الشعبية لسان الحال في جزء كبير من الأراضي السورية وذلك استنادا إلى قناعتها الى أن هذا النظام المتحجر البليد غير ذي كفاءة وأهلية لإنتاج بدائل سياسية وعقائدية من شأنها التعاطي مع المطالب الشعبية بمنهجية تخلو من القمع والقهر والكبت. فعلى غرار الفريسة الواقعة فجأة في شبكة الصياد فإن حكومة دمشق، كلما حاولت جاهدة التحرر من الشرك عن طريق المضي قدما في العنف وجدت نفسها أكثر تشبكا وتورطا بالمصيدة، وذلك دون أن يبذل ‘الأعداء’ الغربيون جهدا يذكر من أجل القضاء على غريم كانت العواصم الأوروبية تفرش له السجاد الأحمر إلى وقت غير بعيد. أن تقدم فيالق الموت المحسوبة على أولي الأمور في دمشق على اقتراف مجزرة في وضح النهار أمام عيون المراقبين الدوليين الذين عجزوا حتى الآن عن التدقيق في حادثة كبيرة الأهمية في سورية ما عدا مذبحة الحولة لهو خير دليل على غباء نظام الحكم وخرقه. إن الروس حملوا أنفسهم ما فوق طاقتهم عند الانحياز الكامل إلى حليف وحشي لا يعرف كيف يحافظ على نفسه وعلى أصدقائه، ومما زاد الأمور بلة بالنسبة للكرملين أن مسؤوليها لم يتمكنوا من إيجاد مخطط بديل ينقذ ماء وجه النظام من جهة ويؤسس لمبادرة افتراضية من الإصلاح والتغيير من جهة أخرى أي ما فعله الغرب مع نخبة من الأنظمة العربية المتحالفة معه والتي زاوجت بين الجزر والعصا، أي بين الملاحقة الأمنية والإصلاحات الديمقراطية المحدودة- . ما زالت الدبلوماسية الروسية فاقدة للفعالية العليا منذ أيام الاتحاد السوفيتي الذي تبين مع الزمن أنها غير مؤهلة لمناصرة حلفائه من العرب بشكل ناجع ومستديم، سواء في النزاع مع نظام تل أبيب في الستينات أو في نتائج وساطته الفاشلة بين الأحزاب الشيوعية العربية وتيارات العروبة القومية.

إن الغرب يعلم كل ذلك بل أكثر، كما أنه يعرف كيف يزيل تحفظات الروس والصينيين إذا اقتضت الضرورة ومتى يجب الرهان على دبلوماسية المناقصة والمزايدة بعدما سُمح له باستحالة الامم المتحدة إلى مزاد عالمي يتولى هو بذاته الإشراف على عملية الأخذ والرد فيه. ولم نكن معشر الأوروبيين نطالب حكوماتنا بقصف مواقع الجيش والمخابرات السورية أو تسليح فئة معارضة دون أخرى، فالتدخل الخارجي مرفوض جملة وتفصيلا، وإنما دعونا إلى قطع جميع أشكال التعاون مع النظام السوري منذ البداية والتنسيق المثمر مع كافة القوى الدولية والإقليمية في سبيل عزل النظام وإجباره على تقديم التنازلات الحقيقية. فلم تكن المسألة تتطلب أي دور للناتو أو ما شابه، لكن الحكام الغربيين آثروا أن يستغلوا محنة السوريين لتقويض مصداقية الإمبرياطورية التي استعادت رونقها، أي روسيا، والقوة العظمى الصاعدة، الصين، من خلال إقحامهما في متاهات إعلامية وسياسية ودبلوماسية لا يتحكمان بأجندتها الزمنية. نتخيل الدبلوماسيين الغربيين والأمريكان في مقدمتهم يكتمون ابتسامة خبيثة وهم يواكبون متاعب الروس مع ‘أصدقائهم’ السوريين وتخبطهم مع سراديب القرارات الأمنية والبوليسية الغامضة في دمشق.

إن الجرائم البشعة المرتكبة في الحولة وغيرها وشهادة مندوبي الأمم المتحدة على تورط النظام فيها لا تساعد بتاتا ‘الدبلوماسية الإيجابية’ الروسية والصينية، تلك الدبلوماسية التي دعتا لها من خلال خطة كوفي آنان، ومن الصعب جدا كذلك أن نجد تفسيرا مقنعا لتناقضات الموقف الروسي من الاستنكار الدولي ضد دمشق فكيف علينا أن نحلل الضوء الأخضر الروسي للتنديد الأممي والاعتراف الضمني بمسؤولية نظام الأسد إن كان وزير الخارجية سيرغي لافروف قد حمل كلا من المعارضة والنظام المسؤولية عن فظائع الحولة فالسؤال هو:هل اتفق النظام مع المعارضة على تأليف وحدات خاصة مشكلة تتناوب في ذبح المدنيين العزل بعد القصف المدفعي؟!-. إن مثل هذه التصريحات والمواقف تدل بوضوح على الضياع الروسي الوقح، ذلك الضياع الذي يتبنى في العلن الرواية السورية الرسمية القائلة بأن الثورة هي مناورة إمبريالية تدبرها جهات خارجية ثم يقر في الخفاء بأن مطالب المجتمع السورية محقة وشرعية وأن النظام السوري يتحتم عليه الإصلاح ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، وهكذا نصل إلى حلقة مفرغة لا يعرفون الخروج منها: نريد البقاء لنظام حليف والحل الوحيد لتحقيق ذلك هو الإصلاح ولكن النظام المعني لا يسعه التخلي عن الاستبداد، إذا ماذا نفعل؟… إن القيادة الغربية تشعر بالمأزق الروسي فتتسلى بالتفرج عليه. هناك من يتحجج بأن الروس يراهنون مع الورقة السورية على مسألة حساسة جدا بالنسبة لهم هي الدرع الصاروخي في شرق أوروبا ولكننا نخشى أن تخسر موسكو، إذا استمرت على وتيرتها الرعناء الراهنة، معقلها الأسدي دون أن تكسب تفكيك المنظومة الدفاعية للناتو عن حدودها الغربية.

نحن، كمواطنين أوروبيين نؤمن بالحرية ومفهوم المواطنة الشاملة، نؤيد الثورة السورية كما نؤيد الحراك التحريري في البحرين أو أي دولة عربية من موريتانيا إلى العراق فنتطلع إلى نشوء آليات تعددية تسودها القوانين العادلة وحقوق الإنسان. ولكن ما رأيناه حتى الآن عند حكامنا من مناورات مشبوهة تركزت هنا على حلحلة التمرد الشعبي وانكبت هناك في التقليل من آثار الثورة بعد سقوط رموز النظام، جعلنا نشك إلى أبعد الحدود في مدى التزام قيادتنا السياسية بمساندة حراك العرب السلمي ومطالبتهم بالحرية والمساواة، ولا نستغرب بالتالي تحفظات الكثير من العرب إزاء النفاق الأوروبي الذي يشيد ‘بالتطورات الديمقراطية الجسيمة’ في دول ما زالت بعيدة عن الديمقراطية كالمغرب أو الأردن أو دول الخليج حتى، في حين تدعم في الكواليس أوساطا سياسية فاسدة تحابي مصالحها المادية الضيقة على حساب أولويات المواطنين العرب المشروعة. ولكننا لم نكن لنتصور أن تعكف تلك القيادة على المتاجرة بدماء السوريين من أجل الفوز برهانات استراتيجية تنبذها القيم الإنسانية. إن السياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية نالت مرامها من الأزمة السورية فالنظام شبه منهار بل منتهي الصلاحية إقليميا، في حين اضطرت إيران الرازحة تحت وقع العقوبات الدولية إلى نشر ما تبقى لها من إشعاع في الشرق الأوسط من أجل الإبقاء على حليفها الرئيسي فيها، أما حزب الله والتيارات السياسية المتعاونة معه فقد فشلوا في احتواء انعكاسات الأحداث السورية على الساحة اللبنانية والحيلولة دون انحدار شعبيته لدى الرأي العام العربي إلى الحضيض، إلا أنها كان ينقصها التنكيل بدبلوماسيات قوى عظمى متجددة لا تقل صفاقة وفظة عنها.

‘ مستعرب إسباني ـ جامعة أوتونوما بمدريد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى