صفحات الرأي

عن “ربيع العرب أو ربيع الأصوليات؟”: ترهّل في الأنتلجنسيا المسيحية


زياد الصائغ

لا ريب في أن الصديق سجعان القزي (“قضايا النهار” 11/ 12/2011) برع في تحليل توصيف صعود “الاسلام السياسي” في “الربيع العربي”، ربطاً باستنطاقات تاريخية، وباستشرافات قلقة، وهذا تظهير لسياق فكري وسياسي، بل وحتى اكليزيولوجي حقيقي يعيشه بعض المسيحيين في لبنان، وعلى مستوى العالم العربي، ويرفدهم في ذلك بعض اقتناع فاتيكاني كاثوليكي، وحسم ارثوذكسي روسي بتصحّر للمسيحيين العرب، وخفر انجيلي على قاعدة “رِجْل بالبور” واخرى بالفلاحة.

الاشكالية التي طرحها القزي، لا يكمن تعقيدها في مقاربتها لما بدأت الانتخابات تفرزه في تونس، والمغرب، ومصر، بل ان تعقيدها واضح في شبه الاستقالة من الانخراط في فعل شراكة لبناء غد الربيع العربي، بدل الانسياق لمنطق المبادرة الذي يصنع وحدة التاريخ.

في اي حال، وقبل ان يطرح الربيع العربي تحديات على الاسلام المعتدل المتنور، على ما ذهب اليه صديقي، فانه يطرح تحديات بالأَولى على المسيحيين الذين كانوا طليعة النهضة العربية الاولى، ومفاجىء هو ترهّل انتلجنسيتهم اليوم، واستنقاعها في قلق من المقبل الينا، الى حد الاحتماء، وللأسف، بمنظومة حلف اقلويّ  من ناحية، او استنفار العصب الرهبوي الديني من ناحية اخرى، مرورا بعلنية مبالغ فيها في الركون الى الالتصاق بديكتاتوريات، هنا وثمة، وصولا الى اوج مطالبة المجتمع الدولي بضمانات للأقليات.

والمفاجأة هذه، على الواقع المأزوم الذي يعيشه المسيحيون، وتحديداً في العراق ومصر، تتبدى في تصدع في منظومة القيم التي ينتمي اليها كل من استقل قطار الخوف والتخويف. ويعنيني في القيم معناها اللاهوتي، والجيوبوليتيكي، والسوسيولوجي. وقد تتبدى ايضا المفاجأة، في انسياق البعض الآخر، من المتوجّسين اقصاء للمسيحيين مستقبلا، نحو شد العصب المسيحي، انطلاقاً من خيارات فرضها واقع تاريخي سابق، وادى ذلك في ما ادى، مع بعض صمود يُشهد له فيه، الى سلسلة خيبات وانتحارات، آن لها ان نعتبر منها بدل محاولة تكرارها.

وانطلاقاً من كل ما سبق، قد يكون نجح القزي والى حد كبير، في وضع الاصبع على الجرح، بتفكّره في صعود الاسلام السياسي الراهن، نتيجة لقمع مارسته الانظمة التوتاليتارية، كما نتيجة لموضعة مذهبية سنية في مواجهة ايران – الشيعية، او نتيجة لانسداد افق التسوية في الصراع العربي – الاسرائيلي، وغير ذلك مما لا تسمح لنا العجالة بالاستفاضة به الآن.

لكن ما كنت أتوقعه من صديقي، اشارة جلية الى ان هذا الصعود مردّه، بالدرجة الاولى الى فشل رؤية ليبرالية مدنية استراتيجية للتيارات المعتدلة، المسيحية منها كما الاسلامية، في دك معاقل التطرف البوليسي والديني على حد سواء، بما كان يمكن ان يعزّز خيارات للشراكة مع “الاسلام السياسي” في أي حكم مرتجى، بدل التمترس خلف التحذير من فشل هذا “الاسلام السياسي” الحتمي في تعزيز قيم الديموقراطية والتعددية وحقوق الانسان. وفي هذه الحتمية التي اصر عليها القزي، قراءة في الغيب، فيما المطلوب حوار.

لكن  معطوبية الخوف والتخويف قائمة، ليس قصراً في اللامبادرة لانتاج خيار مدني يتكامل مع “الاسلام السياسي”، المتوقع سلفاً بروزه في هذه المرحلة، بل في ان الخوف والتخويف، ولو صدرا عن مرجعيات دينية مسيحية يشكلان نقيضاً للاهوت الرجاء، ونقيضا لجيوبوليتيك التموضع في مناصرة العدل، ونقيضاً للنضال السوسيو – سياسي لتزخيم مناخات التعددية. وفي هذه النقائض الثلاث ضرب لهوية المواطنة المدنية، التي تتبوأ في هذا الزمن صدارة اهتمامات النخب الحرّة، المتدينة منها كما العلمانية: بما يعني المواءمة بين المساواة في الانسانية وحماية الخصوصية الايمانية.

فالخوف والتخويف الذي انبرى لتعميمها صديقي، عن حسن نية التحذير من تشدد قمعي مموّه آت بصناديق الاقتراع بحسبه، هما نقيضان لبنية اللاهوت المسيحي الذي اساسه رجاء بالمعنى التاريخي، لا بالمعنى الميتافيزيقي حصرا. وما تجربة الاثني عشر رسولا (اقلية؟) في الامبراطورية الرومانية، والمؤمنين الذين تتلمذوا على يدهم (أقلية؟) سوى تأكيد على ان العددية الديموغرافية، كما الامساك بزمام السلطة، ليسا ابدا ضمانة اي جماعة دينية، بل ان نوعية شهادة هذه الجماعة لقيم الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، تبقى وحدها ضمانة الوجود. تجربة المسيحيين في لبنان تستأهل في هذا السياق، كما في مصر، قراءة هادئة.

والخوف والتخويف، هما نقيضان للالتزام الجيوبوليتيكي الذي اخذ المسيحيون العرب، وهم في اصل هذه المنطقة، على عاتقهم عيشه، بما يعني تحديداً دعم القضية الفلسطينية. وبات يعنينا استعادة فكر ميشال شيحا، وكمال الحاج، وشارل مالك، والابوين ميشال الحايك ويواكيم مبارك والاباتي بولس نعمان، والمطارنة جورج خضر، ويوسف ريّا، وايلاريون كبوجي وغيرهم كثيرون، اذ في هذه الاستعادة اساس فهم ان المسيحيين اللبنانيين كما العرب، كانوا رأس حربة مع شركائهم المسلمين في مناهضة المشروع الصهيوني في المنطقة، كما انهم الاقدر على دفع المسيحية الاوروبية والاميركية، الى فهم مشرقية جذور كل منهما، وتنقية المصادرة اليهو – مسيحية لخياراتهما بازاء السياسات الاسرائيلية العدوانية.

والخوف والتخويف، هما نقيضان حتما لجوهر التربية المسيحية، المستندة الى بناء انسان يفهم بُعد نضاله السوسيو-سياسي حليفاً لروحية التعددية، والقدرة على بناء الوحدة في التنوع على قاعدة توسيع مساحة احترام كرامة الانسان، اكثر منه تلفتاً الى مكسب انتخابي. فدينامية التشريع، وعلى الرغم من أن اطارها الحقيقي البرلمانات، الا ان تزخيم النضال في المجتمع المدني النخبوي منه كما الشعبي، وحده كفيل بتظهير الخلل فيها، او قل هو احد الخيارات الاساسية في ابراز هذا الخلل، دون الخضوع للعبة الاكثرية والاقلية، اذ في هذه اللعبة ايضا محذور ان يأتي تمثيلك اما تابعا او مطية، او اكسسوارا. ألم يكن كذلك الامر في دول عدة؟ والحديث ليس عن لبنان.

ومهما يكن من تمايز بين ما ذهب اليه القزي، ومباردة رئيس حزب الكتائب اللبنانية الرئيس امين الجميل، الذي أكن له كل محبة وتقدير، بما هي عالية السقف الاستراتيجي رؤيوياً من حيث ضرورة وضع جامعة الدول العربية شرعة اطار ميثاقية مسيحية – اسلامية مدنية على مستوى العالم العربي، لمرحلة ما بعد الثورات، وذلك في محاولة تفادي تداعيات استغلالها، او مصادرتها، فإن الحاجة ملحة الى اعادة الاعتبار لهذه المبادرة، كما الى مبادرة الرئيس فؤاد السنيورة في زيارته الأخيرة الى الفاتيكان، وبالتالي ايضا الى وثيقة “لقاء سيدة الجبل”، والتي من واجب القيّمين عليها اخراجها من حالة التمتحف الشعاراتي المشهدي ليس الا.

فرادة الصيغة اللبنانية، على اعتواراتها، وسرعتها في اشعال الاستنفارات الطائفية والمذهبية كما استقطاب تصفية الحسابات الاقليمية والدولية في لحظة تشنّج مفصلية قاتلة، تستطيع، وبليبرالية مسيحيتها واسلامها، ان أُحسنت قيادة هذه الليبرالية، تستطيع، ومع التحديات التي يفرضها عليها الربيع العربي، ان تنتفض لمصلحة ثورة المواطنة، حيث الاساس كرامة كل انسان، وكل الانسان، وحيث القيم الانسانية هي مشترك التشريع كما الحكم، والا سيفرغ عالمنا العربي، ان استمررنا نستظل الخوف والتخويف، سيفرغ من شهادة المسيحيين القادرين على ان يكونوا طليعة النهضة العربية الثانية مع المسلمين، كما كانوا طليعة النهضة الاولى. انه زمن المبادرة الجريئة، وكفانا انكفاءات لن تنتج سوى انتحارات وخيبات متتالية. ولنا في قسم جبران تويني في هذه الايام اعمق تأمل وخير زاد.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى