صفحات الرأي

التباس الهوية/ عباس بيضون

 

 

ربما كانت قضايا أعوام لم يفعل العام الحالي سوى العود عليها وتجذيرها والذهاب عمقاً فيها. إنها أيضاً نوع من تأدية حساب لقضايا مرت عليها عقود، وربما كانت الترجمة العملية والفادحة لتطلعات ظلت مطروحة ومرفوعة خلال أزمان. بل ربما كانت التهاوي العملي لمشاريع ظلت قيد المداولة زمناً كبيراً، بل هي قد تكون الافتضاح وربما الإفلاس لمسائل كانت في أوقات أركاناً وأعمدة وأسساً.

ما نسميه الثورات العربية التي انفجرت من سنوات في غير بلد عربي وبتواقت غريب لا يوحي إلا بأن صلات غامضة وربما حميمة، وإن بقيت متناقضة، تربط ما بين هذه البلدان، وتجعل من حدث في بلدة إشارة إلى بلد آخر وعبره، لا يتوانى هذا البلد عن تعهدها واستقبالها. هكذا انتقلت الانتفاضة التونسية إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا. ولا يمكن أن نرى في هذا التواقت مجرد مصادفة، لكننا أيضاً لا نجد فيه دليل تلاحم واتحاد. ما جرى كان متناقضاً في ذاته. لقد كسر الحدود الجغرافية والسياسية. حدود الجغرافيا وحدود الدولة وحدود المجتمع في الوقت الذي كانت هذه الحدود تتباعد، والأطروحات تغدو أكثر محلية، والاختلاط بل والاجتماع العمليان لا يرفعان إلا في النادر مشروعاً قومياً، وإذا بدا المشروع اتحادياً كمشروع الدولة الإسلامية في سوريا والعراق فإن ذلك يخفي تفتيتاً لكلا الدولتين، وتجزئة مذهبية وحرباً بين مكونات القطرين.

في السياسة وربما في الفلسفة واستطراداً في الثقافة يبدو النقاش عودة إلى الخلف أو تقدماً في مطارح غير مأثورة. والواقع أن مقولة التخلف ومقولة التقدم هما بحسب الرؤيا السياسية وبحسب عمرها. ما يبدو الآن تخلفاً هو كذلك بالقياس إلى طروحات متأرثة منذ عقود وعقود، لكنها تبدو تقدماً بالنسبة إلى أطروحات أخرى من العمر نفسه وإن لم يقدر لها لأسباب تاريخية أن تكون طاغية ومهيمنة بحيث نقيس عليها، لكننا بالتأكيد نحتاج إلى قراءة مركبة ولاحقة للمرحلة لنعيد تقييم البدايات ولنرى كيف تكونت النهايات الحالية، ولنجد مقاربات وروابط لم تكن بالنسبة لنا بديهية يومذاك بقدر بداهتها اليوم وبقدر ترابطها اليوم.

لم تكن مسألة الهوية غائبة في أي من الأوقات. عمر هذه المسألة قديم بل هو قد يكون عمر عصرنا الحديث. إن شئنا أن لا نتكلم بعد عن حداثة من أي نوع. كانت الهوية في مواجهة الغرب أساساً وقبل الغرب الاستعماري وبالتواقت معه أحياناً أخرى، لكن الهوية كانت كامنة بالتأكيد في عصور أخرى. نزاع العرب مع الفرس والأتراك امتد طوال نهايات العهد العباسي واستمر حتى الإمبراطورية العثمانية التي كانت حقبة أخيرة لهذا النزاع. لم تكن العروبة في مواجهة العثمانيين سوى أطروحة الأقليات، لكنها في مواجهة الغرب تحولت وجهاً آخر للإسلام بل وجدها هكذا منظروها المسيحيون أنفسهم. يمكن القول إنها كانت الشعار فيما كان الإسلام الروح والزخم، أو أنها كانت الاسم فيما ظل الإسلام هو المعنى. أو أنها كانت الظاهرة فيما ظل الإسلام هو الداخل. إلا أننا لم نقم الصلة أساساً بين الشعار والروح والاسم والمعنى والظاهرة والداخل، فالعروبة، التي نشأت بتأثير الحركات القومية الغربية، ورثت عن الغرب هذا الفصل بين القومية والدين ولم تقم في مخيالها الغربي طبيعة الصلة بين العروبة والإسلام. هكذا بدا أن كلاً من العروبة والإسلام سار في طريقه الخاص في حين أنهما كانا، على نحو ما، في الطريق نفسه، وكانت صدمة الغرب (الآخر والمختلف والمتحدي والخطر على الهوية والمهدد بانتزاعها) صدمة الغرب هذا كانت في أساس نشوء العروبة بوجدانها الإسلامي. ظل الإسلام والعروبة محل تداول نوعين من النخب، النخب ذات المخيال الغربي لكن بدون أي تسامح مع الغرب، والنخب التي يجعلها العالم العربي الأكثر صدامية ولجوءاً إلى مخيال تراثي. النخبتان كانتا تقريباً في الموقع نفسه من الغرب وكانتا لذلك تتفاعلان بل وتتكاملان خفية عن أنفسهما، وبوضوح كان لهما تقريباً المصدر نفسه. لم تكن العروبة في يوم علمانية، وإن جرى عليها هذا الاسم، ولم تكن في يوم أقل عدائية للغرب ولم يكن لها مشروع سوى القوة والحرب ضد القاعدة الاستعمارية: إسرائيل، بالتأكيد كان هناك على برنامجها التحديث والدولة والتنمية والوحدة. بالطبع لكنها مهمات لم تكن قادرة على القيام بعبئها، لذا تنازلت عنها أو أساءت القيام بها واحدة تلو واحدة. لم يكن الإسلام الجاري كالنسغ في الفكرة القومية بحاجة إلى هذا البرنامج الذي اعتبر غربياً. لقد طواه بالكامل. فالماضي الذهبي يتضمن برنامجاً كاملاً، ولم يبق له من البرنامج القومي سوى الحرب والقوة والحرب ليس على إسرائيل وحدها ولكن على الغرب كله مهما تكن النتائج.

ليست «داعش» أو هيئة النصرة أو القاعدة سابقاً سوى هذا الانتقال الانفجاري من العروبة إلى الإسلام. لا ننسى أن الوهابية كانت بالقياس إلى غيرها حركة معاصرة، أي مثلت، زمنياً على الأقل، الإسلام الحديث. ربما هذا الذي جعلها تتحول إلى حرب على الغرب وحرب على الداخل، وجعلها قادرة على جذب الأجيال الجديدة التي أفعمتها فكرة الحرب الشاملة وجعلتها تتذكر زمن الفتوحات الأولى. لا تملك هذه سوى حلم الفتوحات ومحاكاتها في الداخل والخارج. الحرب بكلمة هي مشروعها الوحيد لكنها أيضاً ورثت انفجارات لم يكن لها مشروع سوى الذهاب بعيداً في الاجتماع الذي غدا مسلحاً وانقلب بسرعة إلى حرب أهلية. أي غدا حرباً تدور حول ذاتها، لذا بدت الحركات الإسلامية وكأنها توفر مخرجاً. مخرجاً من أي نوع، لحرب فقدت أي منفذ ولم تعد تعد بشيء. هجومية الحركات الإسلامية كانت الترجمة العملية لفكرة الثورة التي طرحها العروبيون واليساريون بدون أن تؤدي لأكثر من استبداد وطغم حاكمة، لكن الحركات الإسلامية الآن تفجر على الأرض هذه الثورة، التي لم تستطع الانتفاضات القاصرة أن تكملها وأن تتمها. يملك الإسلاميون بالطبع ما يمكن أن نسميه برنامجاً. إنه، بأي شكل كان، إقامة الحكم الإلهي هذا بالطبع مدعوم بالمخيال التراثي التاريخي، كما هو مدعوم أيضاً بالشقاقات المذهبية.

مسألة الهوية إذن تنتقل من العروبة إلى الإسلام، ومسألة الثورة تنتقل أيضاً بالطريقة نفسها. لا يطلب الناس من الإسلاميين سوى أعجوبة وحيدة، هي البقاء خارج العصر والقوة الكافية لهذا البقاء، بالتأكيد لن يضيقوا بهذه القوة ولو وقعت عليهم. إن عبادة القوة ليست شيئاً جديداً. الآن يتحول الإسلام إلى قطب جذب حتى لمسلمي الغرب. لكن أي إسلام، إسلام محارب، إسلام منتصر، إسلام هجومي إنه بهذه الصفة إسلام ثوري، وحين نقول إسلام ثوري نقول إنه وارث حركات معاصرة أو تدعي المعاصرة. وأنه حين لا جواب عند أحد يملك أو يتوهم أنه يملك، جواباً. ثم أنه قادر، في البلدان التي يتآكلها فساد خرافي وتحكمها نخب قذرة ومافياوية، على أن يقدم للناس ما قد يفوق تقدمات السلطات الموبوءة. إن العودة إلى الخلف أو ما نسميه تأخراً قد لا يكون كذلك عند من عانوا تجارب تعهدها الغرب وسميت ديموقراطية ولم تكن بالنسبة للسكان سوى سرقة موصولة وحكام لصوص ونزاع على السلطة بأي ثمن. إن قدرة الإسلام على أن يكون وحده الهوية ليست قدرة غير مختبرة لكنها تبدو بالنسبة للأجيال الحالية جديدة، وهي تفتنها أحياناً لهذا السبب. كما وأن العنف الإسلامي قد يبدو جذاباً لأجيال تحلم بالثورة. لقد كنست الانتفاضات الراهنة الطريق للإسلام. مهدته حين تحولت إلى عنف بلا هدف، وحين تحولت إلى مماحكة حربية، وحين بدت بدون مخارج وبدون أجوبة. عندئذ أتت الأجوبة الجاهزة المنصوص عليها: الشرعية. هل تنفصل العروبة عن الإسلام، وهذه المرة بإدراك واع. أم يتلبسها الإسلام ويغدو في قلبها.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى