صفحات المستقبل

كثير من عبثية التناقض

 

جميل معوض

يوماً بعد آخر، تحول مشهد الدمار والقتل في سوريا إلى خبر عادي يكاد يمر علينا كأي خبر. أصبح الخبر العاجل، إذاً، خبراً يتخطى بصدمته وبعنفه الحدث الدموي اليومي.

مشهدان، هذا الأسبوع، خرقا العنف المعتاد في سوريا: مقتل ياسين بقوش، وفيديو يظهر فيه طفل حلبي يدعى نايف، لا يتخطى عمره 13 سنة ربما، وهو يتحدث على ركام حي بأكمله استهدف بصاروخ “سكود”. يظهر المشهدان بالنسبة إلينا، وعلى ارتباطهما الشديد، في تناقض تام: أعاد لنا الأول ذكريات طفولتنا وضحكاتها مع “غوار” و”ياسينو”، بينما أظهر الثاني سهولة استئصال الطفولة من أساسها، وتجريدها من معناها.

يعيد مقتل “ياسينو” تشكيل ذاكرة الشاشة السوداء والبيضاء، ومحاولاتنا الجاهدة لالتقاط أفضل موجة بث لمشاهدة الكوميديا السورية. أما نايف، فأظهر كم أن الصورة أصبحت في متناول الجميع، ومعها مشهد الموت. لا تحتاج جهداً للحصول عليها. ومع ذلك، فإننا نحاول أن نهرب منها ونتفاداها.

“ياسينو” جزء من ذاكرتنا. فهو إلى جانب أنه شكل مع “غوار” مساحة ترفيهية تميزت بالبساطة والبراءة، شكل أيضاً صلتنا، الوحيدة ربما، مع سوريا خلال حربنا اللبنانية. فكان، بالنسبة إلينا كأطفال، الممر الافتراضي الوحيد الذي يصلنا بسوريا خارج فضاء الحرب والخطف والمفقودين ومحاولات السفر من مطار “دمشق” كبديل عن مطار “بيروت”.

نايف، في المقابل، أكد لنا اليوم، كشباب، كم نحن بعيدين كل البعد عن سوريا في ثورتها وحربها، وعاجزين أمام معاناتها. يظهر نايف معلقاً على خسارته لأبناء عمه وجيرانه كرجل مسن مدرك لأمور الحياة ومصاعبها. لا دموع في عينيه وهو يقف على أطلال طفولته وذكرياته… على جثث ناسه. يظهر وكأنه عاصر مجزرة حماه ونضج في سجون الظلام. في كلامه ما يلخص سوريا ومعاناتها. في كلامه تناقض غير مفهوم. حيرة وجودية تصهر الشك باليقين. في أفكاره وعباراته الشيء ونقيضه. حاسة السمع في تناقض: “سمعنا صوت… ما في صوت أصلاً”. الوجود في تناقض: “يا عالم حدا ينقذنا… طلع العالم هي بدا حدا ينقذها”. المكان نفسه في تناقض: “بيت عمي راحوا… بيت جدي راحوا… هون”. المادة في تناقض، المبنى تحول إلى كرتون… “راحوا”! لم يعد هنالك أحد. لا شيء. الأم وجنينها الذي لم يولد. أموال الأب المخصصة لكلفة الولادة. لا شيء. “راحوا”، يعيدها نايف.

فجأة يتفاعل نايف مع الحدث. يبحث عن جواب لواقع تجلى بمنطقه وصوته العبثي واللامبالي.

يسأل عن الأسباب التي أوصلته إلى هذا الواقع العبثي، وفي سؤاله جواب لا التباس فيه: “حكم القوي على الضعيف، بس هيك؟”.

بين ياسينو الطفولة والبسمة والأمل، ونايف الوعي والإدراك، فإن المشهد ليس ببريء. يعيدنا المشهدان إلى واقع ربما اعتدنا عليه. يذكراننا بالأحداث وبعنفها، بلاجئيها، بصواريخها، بأصولياتها، بشعاراتها. يوقظنا نايف ليقول لنا إن المسألة تتخطى المنطق، تتحداه. لا شك في ذلك.

ولعل المنطق لا يستعاد إلا من خلال طرح المسألة الأخلاقية واستذكار المواقف من الثورة السورية منذ لحظة انطلاقتها السلمية. فالعنف والقمع والأحداث الدامية أوصلت البعض إلى نسيان سلمية الثورة خلال أشهرها الأولى. والنسيان أو التناسي هذا دفع بهؤلاء الأشخاص إلى الخروج من زمانهم. أصبحت الأحداث، بضحاياها ولاعبيها، أشبه بمفارقة تأريخية. فليس من المستغرب، إذاً، أن نسأل مجازياً: هل قتل “غوار” ياسين؟ المصطلحات والتوصيفات لم يعد لها جدوى. لا يهم إن وصفت الأحداث بثورة أو بحرب اهلية. أصبحت المسألة السورية معادلة واضحة لا مكان لها إلا من خلال المعيار الزمني: سنتان أضيفتا على عمر النظام السوري؛ على إصراره بالظهور كنظام قمعي. سنتان مرتا على استعادة الشعب السوري لحريته؛ على إدراكه وقوله صراحةً بأنه شعب حر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى