أشهَر أيقُونَات التمرّد في العَالَم: أرنستو تشِي غِيفَارَا… ماذا تبقَّى لنا منه؟/ محمّد محمّد خَطاّبي
أُلحِقَت بشخصية الكومندانتي «أرنستو تشي غيفارا» صفتان تقومان على طرفي نقيض، وخَلَقَتا لدى الرأي العام العالمي اتجاهين متباينين، فمن جهة أمسىَ غيفارا لدى الكثيرين رمزاً للثورة والتمرّد في مختلف أرجاء العالم ضدّ الظلم والتفاوت الطبقي والفوارق الاجتماعية، فأصبح اسمُه لصيقاً بالطبقات الكادحة، ومقروناً بالفئات المقهورة، في حين اعتبره آخرون مُجرمَ حرب، تقع على عاتقة تهمة اقترافه للعديد من عمليات التقتيل المُتعمّد، والتنكيل الجماعي في مختلف البلدان، وعلى وجه الخصوص في أمريكا الجنوبية، وبعض بلدان إفريقيا.
الكوماندانتي وقبعتُه الشّهيرة
لقد أصبحت صورته في قبعته الشّهيرة التي كان قد اقتناها من مدريد أوائل الستّينيّات من القرن الماضي، والتقطها له المصوّر المعروف ألبِرتُو كُوردَا في الخامس من شهر مارس/آذار 1960، واحدةً من الصّور الأكثر شهرةً في العالم على الإطلاق، كما أنّها تعتبر واحدةً من الصّور الأكثر استنساخاً، وتوزيعاً، وانتشاراً في مختلف أنحاء المعمورة، حيث استعملت في العديد من التجمّعات والتظاهرات، والمسيرات والاحتجاجات السياسية والنقابية والعمّالية والإجتماعية، وسواها، كما أنها استغلّت من جهة أخرى في عالم الإشهار والدعايات، والإعلانات، وغدت تبعاً لذلك واحدةً من أشهر أيقونات رموز الحركات المتمرّدة والثائرة والمضادّة في العالم .غِيفَارَا هذا الرّجل الأسطورة الذي غدا رمزاً للكفاح، والتمردّ، والانتفاض في وجه الظلم، كان مقتنعاً بضرورة نقل الكفاح المسلّح إلى مختلف مناطق العالم الثالث، وهكذا أسّس جماعات، وخلق حركات عصيان ومواجهة، وزرع بؤرَ حرب العصابات في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وإفريقيا، وبتعاون مع الجيش البوليفي، ووكالة الاستخبارات الأمريكية تمّ نصبُ كمينٍ له في إيغيرا من أعمال إقليم سانتا كروث في بوليفيا، حيث قتل في التاسع من شهر أكتوبر/تشرين الأول 1967.
فلسفات وملاحظات
لتشي غيفارا كتاب طريف يحمل عنوان «ملاحظات فلسفية». وهي عبارة عن مخطوطات وملاحظات ومذكرات، ومراسلات وخواطر وآراء وأفكار وتعليقات، وانطباعات وحواشٍ فلسفية، وتأمّلات نظرية قامت بجمعها وتصنيفها الباحثة الجامعيّة الكوبية ماريا ديل الكارمن أرييت، وكان قد كتب مقدّمتها المؤرّخ الكوبي فيرناندو مارتينيس إيريديا، يعالج غيفارا في هذه الملاحظات، والخواطر العديدَ من القضايا والمواضيع المهمّة التي كانت تستأثر باهتمامه، وتُشغل باله في تلك المرحلة المبكّرة من عمره، وفي طليعتها الفلسفة الماركسية، حيث كان يقوم كلّما سنحت له ذلك الظروف بقراءة وتحليل وغربلة، وتمحيص وانتقاد أعمال المفكرين الكلاسيكيين، من الماركسييّن واللينينيين، كما كان يُعنىَ كذلك ببعض مؤلفات الكتّاب والمفكّرين الذين كان غيفارا يعتبرهم اشتراكيين هراطقة أو مارقين أو رجعيّين. ويشير الباحث مَاوريسيو بيسينت: «أنّ الذي يثير الانتباه في هذا الخصوص هو مدى اهتمامات غيفارا الواسعة والمتشعّبة، والعدد الهائل من الكتّاب، والمؤلفين الذين قرأ لهم في هاتين السنتين ونصف السنة. فإلى جانب البندقية التي كان يحملها على كتفه – عندما كان في الكونغو- كان يحمل أجندةً صغيرةً يسجّل فيها عناوين، وبعض ملخّصات جميع الكتب التي قرأها، والتعليقات التي دوّنها بشأنها، فما بين شهري أبريل/نيسان ونوفمبر/تشرين الثاني 1965 دوّن فيها الأعمالَ الكاملة للينين، وتاريخ العصور الوسطى لكُوسمسنسكي، ثم المجلد الرابع من الأعمال المختارة لماو تسي تونغ، والأعمال الكاملة للشّاعر الكوبي المعروف خوسّيه مارتي، وأورُورا رُوخا، وبيّو باروخا، وكتابي «الإلياذة» و»الأوديسة» لهوميروس، ومسرحية «ليلة القتلة» للكاتب الدرامي الكوبي خوسّيه تريانا. وما بين شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 1966 حيث كان غيفارا قد عاد إلى كوبا يتدرّب ويهيّئ نفسه في سريّة تامة للمغامرة البوليفية التي لقي فيها مصرعَه، سجّل في أجندته كذلك أسماء العديد من الكتّاب، والمؤلفين الآخرين منهم: بابيني، وغويتيسولو، وشكسبير، وماركس، وأنغلز وسواهم.
بين هِيغل وتشي غِيفَارَا
كان تشي غيفارا قد وجّه عام 1965 رسالةً شهيرةً إلى الزعيم الكوبي التاريخي أَرمَاندُو إنرِيكِي هَارت، الذي كان يترقّب وصول تشي غيفارا في تنزانيا، بعد فشل الثورة في الكونغو. وبعد أن دخل الثائر الأرجنتيني خلسةً إلى بوليفيا كتب في ذلك الإبّان يقول: «لقد حشرتُ أنفي – بعد هذه الفترة الطويلة من الإجازات- في عالم الفلسفة، الشيء الذي كنت أنوي القيام به منذ مدّة بعيدة، وكان العائق الأوّل الذي يواجهني في هذا الصّدد هو أنه في كوبا لم يُنشر شيء يُذكر، أو ذو أهمية حول هذا الموضوع، باستثناء بعض المراجع السّوفييتية التي لا تشجّع، ولا تشفي الغليل، ولا تمنح، أو تُفسح مجالاً للتفكير والتأمّل، ذلك أن «الحزبّ الشيوعي كان قد ناب عنك في ذلك، وأنت ما عليك سوى التسيير والانصياع». ويضيف غيفارا بلغة مبطّنة بغير قليل من السّخرية والتهكّم والازدراء قائلا: «كمذهب يبدو في الظاهر وكأنّه مناهض ومضادّ للماركسية، وأكثر من ذلك فإنهم في كثير من الأحيان يسبّبون لك الأذىَ، والمتاعبَ والضررَ والمضايقات». أمّا العرقلة الثانية التي واجهتني- يقول غيفارا- «فهي ليست أقلّ أهميّةً من سابقتها، إنها عدم معرفتي باللّغة الفلسفية، لقد تصارعتُ بكلّ ما أوتيتُ من قوّة وضراوة مع المُعلّم» هيغل «ولكنّه لم يُمهلني طويلاً، إذ في الجولة الأولى أوقعني وطرحني الأرض مرّتين». المُحارب الثوري الأرجنتيني- الكوبي كان شديدَ الانتقاد في ذلك الأوان كذلك لخطط ومشاريع تلقين الدراسات الفلسفية في النظام التعليمي للاتحاد السوفييتي آنذاك، كان قد اقترح على أرماندو إنريكي هارت الذي كان قد تمّ تعيينه سكرتيراً عاما لمنظمة الحزب الشيوعي الكوبي، أن يعمل على إعداد برنامج جديد لتدريس الفلسفة في كوبا، يقول له في هذا الصّدد: «لقد أعددتُ برنامجاً دراسياً خاصّاً بي يمكن دراسته وتحليله، وتحسينه لوضع لبنة أولى لبناء مدرسة حقيقية للتفكير»، ويعلّق غيفارا على ذلك قائلًا: «لقد قدّمنا الكثير، وينبغي علينا الآن كذلك إطلاق العنان لتفكيرنا».
يقول الباحث نيستور كُوهَان: «إنّ أرنستو تشي غيفارا في خواطره، وملاحظاته، وكتاباته يؤمن بالإنسان الجديد، كما أنه لا يرفض كلّ ما هو رأسمالي، إننا أمام رجل يمارس الماركسية، وهو يصارع من أجل تحرير وفكّ الاشتراكية من قيودها المذهبية الجامدة، كما أنه واجه بقوّة الميول والاتجاهات البيروقراطية التي تعمل على تجميد الثورة وتكبيلها، وتقليصها في بلد واحد وحبسها بين الدهاليز الإدارية، والممرّات الوزارية، ولابدّ أنه كان يومئ بذلك إلى عدم قبوله بشكل كلّي للنموذج السّوفييتي آنذاك». كتابات غيفارا تقرّبنا من حياته الخاصّة، ومن أعماله الأولى، واهتماماته المبكّرة. وتشير الباحثة الكوبية ماريا ديل الكارمن أرييت: أن «قراءات ثم كتابات أرنستو تشي غيفارا جاءت لتملأ فراغاً حول كلّ ما كناّ نعرفه عن الفكر الفلسفي لغيفارا، وصلته أو علاقته بالماركسية» وتضيف الباحثة أن هذه النصوص تعرّفنا، وتقرّبنا من مختلف مراحل حياة أرنستو غيفارا بدءاً بمرحلة المراهقة عنده، وحقبة شرَخ شبابه الأوّل، ثم إنّها تطلعنا عن دراساته للأعمال النظرية التي طفق للخوضَ فيها بعد وصوله إلى بوليفيا». لقد كان أرنستو تشي غيفارا يحمل في يد البندقيةَ (السّلاح)، ويحمل في اليد الأخرى القلمَ (الكلمة)، حيث كان يعتبر هذين العنصرين أداتين أساسيتين للنّصر عنده، وكانت اهتماماته الثورية تتوازَى مع تطلّعاته، وانشغالاته الفكرية .
وماذا الآن؟
كان أرنستو تشي غيفارا قد وُلد في 14 حزيران/يونيو 1928 في رُوسَاريُو في الأرجنتين ـ وتوفي في بوليفيا في 9 أكتوبر1967.
وهو معروف في العالم أجمع باسمه المختصر «تشِي»، وبلقبه العسكري الكومندانتي (وهناك أغنية شهيرة جداً عنه بهذا اللقب للكوبي كارلوس بويبلا، أصبح لها اليوم ما ينيف على مئتي صيغة موسيقية في العالم أجمع). أتمّ دراسةَ الطبّ عام 1953 ثمّ سخّر حياته وأوقفها على الثورة الكوبية، منذ أن انخرط في المكسيك ضمن البعثة الثورية المسمّاة «يَاتيِ غرَانما» التي حرّكت وحفزت عام 1956 الكفاحَ النهائي من أجل التحرير الوطني للجزيرة الكاريبيّة كوبا. وفي 8 من أكتوبر/تشرين الأول 1967 جُرح غيفارا خلال المعركة في بوليفيا إلى جانب رفيقين له، وبعد أن أُلقِيَ عليه القبض، عُذّب ثمّ أُعدِم في التاسع من أكتوبر من السنة نفسها. وفي عام 1997 تمّ العثور على رفاته الذي تمّ نقله إلى كوبا، حيث دُفن بكلّ المراسيم الشرفية المَهيبة في ضريح «سانتا كلارا» في هذه الجزيرة الكاريبية الغريبة الأطوار. وأخيراً ماذا تبقّى لنا وللعالم من هذا الطبيب الأرجنتيني الذي كان مغموراً في مقتـــبل عمـــره، ونسيّاً منســـيّاً في شــــرخ شــــبابه، والذي أصـــبح بين عشـــية وضحاها من أشهر أيقــــونات التمرّد والعِصـــيان والثورة في العالم؟ على ما يــــبدو لم يبقَ لنا وللعـــالم منه، ومن مناقبه، سوى تلك النُّصُب والمجسّمات والتماثيل التذكـــارية الأسمنتيّة الكبرى التي تناطح عنان السّماء في ضريحه، وفي متحفه في سانتا كلارا في كوبا، يُضاف إلى ذلك تلك الأغنية الشّهيرة (الكوماندانتـــي غيفارا) التي انتشرت على أيّامنا انتشار النار في الهشــــيم في مختلف أنحاء المعمور، لم يبق لنا مـــــنه سوى باقات من أحاديثه، وملاحظاته، ونتفٍ من كتاباته وتصريحاته، ونظرة قوية حالمة بعالم أفضل تتطلع إلى المستقبل.
القدس العربي