أميركا والشرق الأوسط.. من يغير من؟/ غازي دحمان
مؤشرات ملتبسة
إعادة الهيكلية الإستراتيجية
صياغة جديدة للشرق الأوسط
تعيش منطقة الشرق الأوسط حالة من السيولة الجغرافية والديمغرافية، بالتوازي أو كنتيجة لمتغيرات في السياسة الدولية وفي مواقع وإستراتيجيات بعض القوى الدولية، حيث تتجه هذه القوى إلى إعادة تموضعها في سياق التأثير والفعل العالمي.
وعلى وقع الحدث الأبرز في المنطقة، الحراك السياسي، أو ما بات يعرف في الأدبيات السياسية بالربيع العربي، يبرز على سطح العلاقات الإقليمية وفي نسيجها حراك علائقي يمكن المجازفة بتسميته بـ”ربيع العلاقات الدولية”، لما يشكله من ظاهرة مستجدة في هذه العلاقات ترتكز على اختراق الصيغة التي كانت سائدة على مدار الربع قرن الأخير، حيث كان يجري تصنيف الدول والكيانات على أساس مدى اقترابها أو ابتعادها من المقاربة الأميركية لعالم ما بعد انتهاء عصر القطبية الثنائية.
مؤشرات ملتبسة
وعلى الرغم من كثرة الحديث عن هبوط القيمة الإستراتيجية للشرق الأوسط في ميزان القوى العالمي، في محاولة إسباغ الصدقية على فرضية الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، إما نتيجة ظهور مواقع تحتوي على فرص اقتصادية واستثمارية ذات قيمة مردودية أكبر، أو لظهور مناطق منتجة للنفط والغاز، على ما تذهب إليه الكثير من التحليلات؛ فإن ذلك يبقى أمرا مشكوكا في صدقيته وقدرته على تفسير هذه الظاهرة.
ويكفي للتدليل على ذلك أن المتغيرات التي يجري على أساسها بناء تلك التفسيرات هي متغيرات متحركة وغير ثابتة، كما تبني معظم تلك التفسيرات على مؤشرات ملتبسة لم تتضح بعد بوصفها معطيات راسخة وقارة، فضلا عن المنسوب الافتراضي العالي الذي تنطوي عليه، ناهيك عن “واحدية” الاتجاه لهذه المؤشرات، مما يدلل على فقرها المعرفي وضعف نتائجها التفسيرية تاليا، حيث ترتكز أغلب المؤشرات على البعد الاقتصادي في تفسيرها لفرضية الانسحاب.
فهي تربط هذا الأمر بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها الولايات المتحدة الأميركية، دون إيلاء الأهمية لبقية العناصر التي تتشكل منها إستراتيجيات الدول، إذ على الدوام كانت هناك مناطق ذات أفضلية اقتصادية واستثمارية، كما أن نسبة زيادة اكتشاف النفط والغاز كانت مترافقة دوما مع ظهور حاجات موازية تستهلك ظهورها.
إضافة لما سبق، فإن النظام الإقليمي الشرق أوسطي هو جزء من معمار النظام العالمي، ونظام فرعي تابع له، ليس على مستوى الأطر التنظيمية النظرية وحسب، وإنما عبر التداخل الجغرافي والاقتصادي، وبالتالي من غير الممكن لقوى عظمى بحجم الولايات المتحدة الأميركية واتساع مصالحها وتنوعها إدارة الظهر للشرق الأوسط وتوقع اصطياد الفرص الاستثمارية في المحيط الهادئ بهناء وراحة بال.
هذا مع التأكيد أن العالم لم يشهد بعد متغيرات جغرافية يمكنها تهميش المعطى الجغرافي للمنطقة بوصفها قلبا جغرافيا يتوسط العالم ويتحكم بالكثير من حركته التجارية وحراكه السياسي والثقافي العالمي.
أما عن النظرية التي تقول بأن الولايات المتحدة بصدد تصميم صفقة تاريخية تتخلى بموجبها عن الشرق الأوسط لقوى ثانية بوصفه صار مقلبا خاسرا بمنطق حساب الجدوى لتتفرغ تاليا لما يفيد اقتصادها ويخفف عنها أعباء لا طائل من ورائها، وكل ذلك مقابل السماح لها بالخروج الآمن إلى تلك المناطق الجديدة، فتبدوا هذه النظرية متهافتة.
فمن هي القوة العظمى التي يمكن أن ترث النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط؟ وأين يمكن العثور عليها في قائمة الدول القوية؟ ذلك أن روسيا تفتقر إلى السند العسكري والتاريخي والجاذبية الثقافية، والصين تفتقر إلى الرغبة والقدرة في آن معا، وأوروبا ليست قوة يحسب لها حساب.
إعادة الهيكلية الإستراتيجية
التفسير الأقرب لهذه الظاهرة ينطوي على بعد إستراتيجي جغرافي، يمكن وصفه بمحاولة إعادة الهيكلية الإستراتيجية ولكن وفق معطيات وشروط اللحظة الراهنة واستحقاقاتها، وهي عملية كلاسيكية في الإستراتيجية الدولية، وإنما يجري إعادة إنتاجها و”عصرنتها”.
فالقضية ترتبط ارتباطا وثيقا بطاقة الدول وتوجهاتها ومزاج نخبها، ثم تطبيق ذلك وترجمته على الواقع الجغرافي العالمي، بمعنى إعادة تطويع الجغرافيا وتشكيلها بطريقة أكثر جدوى وقابلية لخدمة مصالح الدول ولكي تتمتع بالمرونة الكافية واللازمة لإنجاز التسويات مع بعض الأطراف الإقليمية والدولية.
حصل ذلك عشية مؤتمر برلين الذي أعاد صياغة أفريقيا ليصار إلى تجهيزها لجغرافية قابلة للقسمة على أكثر من طرف، وعقب الحرب العالمية الأولى ومؤتمر سان ريمو الذي أعاد تشكيل المنطقة العربية ونقلها من كتلة واحدة تحت الحكم العثماني التركي إلى قطاعات متعددة تتوافق حدودها مع خطوط النفوذ البريطاني الفرنسي اليهودي “الإسرائيلي لاحقا”.
وحصل نفس الأمر في آسيا الشرقية عندما أعيدت صياغة الهند وباكستان وبنغلاديش، وفي كل هذه المرات كان الأمر يحصل نتيجة تطورات الحركة الرأسمالية العالمية وحاجتها لعنصري الموارد والأسواق، إضافة لظهور متغيرات في سلم القوى العالمي وهيكلية القوى.
اليوم يبدو قوس المتغيرات قد اكتمل، بل إن الولايات المتحدة تواجه هذه المتغيرات دفعة واحدة، وهي أمام خيارين، إما أن تفرز إستراتيجية قادرة على استيعاب هذه المتغيرات عبر تكتيكات سياسية مرحلية، وإما أن تتصلب في إستراتيجية الهيمنة وبالتالي تستنزفها حالة الاشتباك العالمي على عدة مستويات.
والواضح أن النخبة الأميركية تميل إلى التعاطي البراغماتي مع هذه التطورات، بمعنى الميل إلى إيجاد تسوية معينة ترتكز على قاعدة تخفيف درجة الانخراط التدخلي وفق النمط الذي كان يجري به والانتقال إلى نمط أكثر جدوى ورشدا يجعل ميزان الربح مائلا لصالح الطرف الأميركي ويبعده عن المغارم التي طالما تسببت بها الاندفاعات غير الواقعية وغير المحسوبة في ظل سيادة شعارات دمقرطة المنطقة وحقوق الإنسان.
ولكن كيف تجري هذه النقلة والشرق الأوسط ما زال هو نفسه بتشكيلاته وأطره السياسية ومنظوماته الثقافية وبناه الاجتماعية وخرائطه الجغرافية؟
أليس هو ذاته الجغرافيا والاجتماع الذي استنزف قدرات أميركا في طريقها لتثبيت سيطرتها كقوة أحادية على العالم، ألم تتسربل وتنفذ جهود أميركا وفاعليتها في صحارى أفغانستان والعراق دون ظهور ملمح واحد للتغيير والانخراط في النسق الأميركي؟ فكيف إذن تستطيع واشنطن ضمان تحقيق جدوى في نقلتها الجديدة؟
صياغة جديدة للشرق الأوسط
التصور الأقرب للوقائع الجيوستراتيجية أننا أمام نمط إستراتيجي أميركي جديد يقوم على إعادة صياغة وتشكيل الشرق الأوسط بطريقة جديدة، وليس الانسحاب منه.
هذه الإستراتيجية الجديدة تقوم على نقيض إستراتيجية أميركية دامت طوال نصف قرن ارتكزت على مبادئ معينة للحفاظ على هندسة ومعمار الشرق الأوسط القديم بأنظمته السياسية والاجتماعية وحدوده وضبط صراعاته وتفاعلاته، وهو الأمر الذي كلفها أثمانا باهظة.
وهذه السياسة انتهت اليوم، لكن مصالح أميركا باقية في أكثر من موضع، وهي ليست في طور التخلي عنها أو تركها للخصوم والحلفاء يديرونها بالطريقة التي يريدون، فالمنطقة بعرف واشنطن ومنظورها في السياسة الدولية هي استثمار أميركي خالص، حتى إيران نفسها تدخل ضمن هذه الخريطة الاستثمارية.
اليوم يمكن القول إن الاستثمار بالعقوبات على طهران بدأ يأتي أكله، حيث تستعد واشنطن لابتلاع هذا الصيد الثمين بالموارد والأسواق وإلا ترْك إيران تذوي تحت العقوبات الاقتصادية التي بدأت تفترسها.
في إطار هذه الإستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه الشرق الأوسط يجري تطبيق سياسة ترك المنطقة تتشكل من جديد، وهذا الأمر ليس وليد اللحظة بل جرى الحديث عنه والتنظير له منذ بداية القرن فيما سمي في حينه “الشرق الأوسط الجديد” أو “الفوضى الخلاقة”، وهي وإن بدت بالنسبة لقاطني الشرق الأوسط على أنها سياسة تآمرية فهي بالنسبة للسياسة الأميركية ليست سوى نمط أو طريقة لتسهيل التعاطي مع منطقة جغرافية معقدة تنطوي على واقع سياسي واجتماعي أكثر تعقيدا، تستهلك الكثير من الإمكانيات والموارد، في حين يمكن إيجاد طرق جديدة لترشيد هذه العملية وتحقيق الجدوى منها بحيث تحقق مصالح واشنطن وليس بالضرورة أن تراعي مصالح سكان المنطقة أو قسم منهم.
آليات هذه الإستراتيجية الجديدة، قد تكون السماح للتعبيرات المختلفة، اجتماعيا وأيديولوجيا، وتطبيقاتها الحركية بالظهور على شكل كيانات جديدة، حزبية أو دولتيه، مثل ظهور الإخوان المسلمين كقوة فاعلة في المنطقة أو حتى ظهور كيانات سياسية على أسس عرقية وطائفية.
وفق هذا التصور يصبح الشرق الأوسط مجموعة قوى ضعيفة لا همَّ لها سوى بيع مواردها في سبيل الإيفاء بمتطلبات الكيانات الجديدة، إضافة إلى تحقيق هذه الكيانات درجة معينة من الانسجام ضمن تراكيبها السياسية والاجتماعية، وهو ما يقلل من درجة العداء لأميركا تحت ذريعة تأييدها للأنظمة السياسية وعدائها لبعض المكونات في المنطقة.
لكننا سكان الشرق الأوسط يجب أن ننتبه لحقيقة مهمة وهي أن المنطقة كلها وبدون استثناء، من مراكش حتى القوقاز، تقع على خط هذه التعبيرات البازغة والمحتملة، بما فيها كيانات قد تعتبر نفسها خارج هذا الاحتمال، مثل تركيا وإيران وروسيا نفسها.
الجزيرة نت